المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في فرية الملحد أن الشيخ يريد النبوة - الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق

[سليمان بن سحمان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌فصل في منشأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌فصل في طلب الشيخ رحمه الله للعلم ومبدأ دعوته

- ‌فصل في حال الناس في نجد وغيرها قبل دعوة الشيخ

- ‌فصل في حقيقة دعوة الشيخ وأنها سلفية

- ‌فصل في نقض تعيير الملحد بسكنى بلاد مسيلمة

- ‌فصل في فرية الملحد على الشيخ بأنه يطمح للنبوة

- ‌فصل في رد فرية بأنهم خوارج

- ‌فصل في رد فرية الملحد في تنقص الأنبياء والصالحين

- ‌فصل في رد فرية الملحد على كتاب (كشف الشبهات)

- ‌فصل في كيد الدولة التركية المصرية ورد الله له

- ‌فصل في مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في بيان أن دعوة الشيخ ليس فيها من مقالات الخوارج شيء

- ‌فصل في ذكر بعض مفتريات الملحد

- ‌فصل في الدولة السعودية القائمة الآن

- ‌فصل في كيد الدولة العثمانية

- ‌فصل في فرية الملحد أن الشيخ يريد النبوة

- ‌فصل في بيان جهمية الملحد وسنية الشيخ

- ‌فصل في مدح الملحد للعقل وذمه لأهل السنة

- ‌فصل في مفتريات الملحد، وردها

- ‌فصل في زعم الملحد أن إثبات الصفات تجسيم

- ‌فصل في بيان كلام الملحد في الجسم، وزيغه

- ‌فصل في إثبا الصفات وأنه لا يقتضي التجسيم

- ‌فصل في الإشارة إلى السماء، وإنكار الملحد ذلك

- ‌فصل في إنكار الملحد للنزول

- ‌فصل في تأويل الملحد للإشارة والمعراج

- ‌فصل في تأليه الملحد للعقل، وزعمه أن النقل يؤدي إلى الضلال

- ‌فصل في زعم الملحد تقديم العقل لأنه الأصل

- ‌فصل في فرية الملحد عليهم بنفي الإجماع

- ‌فصل في فرية الملحد عليهم بإنكارهم القياس

- ‌فصل في فرية الملحد بتكفير المقلدين

- ‌فصل في حكم أهل الأهواء

- ‌فصل في تناقض العراقي وكلامه في الجهمية

- ‌فصل في حكم التوسل والإستغاثة والزيارة والشرك

- ‌فصل في بيان جهل الملحد بمعنى العبادة

- ‌فصل في أنواع الشرك، وجهل الملحد بها

- ‌فصل في بيان سبب شرك الجاهلية

- ‌فصل في بيان أن الإستغاثة من الدعاء

- ‌فصل في التوسل

- ‌فصل في الإستغاثة الشركية

- ‌فصل في الإستغاثة بالأنبياء

- ‌فصل في آية: {وأبتغوا إليه الوسيلة}

- ‌فصل في آية: {أيهم أقرب}

- ‌فصل في آية: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك}

- ‌فصل في آية: {فاستغاثه الذي من شيعته}

- ‌فصل في آية: {لا يملكون الشفاعة}

- ‌فصل في حديث: "أسألك بحق السائلين

- ‌فصل في حديث: "أغفر لأمي فاطمة بحق نبيك

- ‌فصل في حديث الضرير

- ‌فصل في المنام والإستسقاء

- ‌فصل في إستسقاء عمر بالعباس

- ‌فصل في الفرق بين الحي والميت في التوسل

- ‌فصل في حقيقة غلو الناس في الصالحين وغيرهم

- ‌فصل في الإستغاثة وقصة هاجر

- ‌فصل الإستغاثة وشفاعة القيامة

- ‌فصل في حديث: "يا عباد الله احبسوا

- ‌فصل في بيان شرك من يدعو غائبا في حاجاته

- ‌فصل في دلالة ظاهر نداء المشرك غير الله

- ‌فصل في عقيدة أهل السنة في الصفات

- ‌فصل في زيارة القبور الشركية، والشفاعة

- ‌فصل في عبادة القبور

- ‌فصل في شد الرحال إلى القبور

- ‌فصل في مزاعم للملحد، وردها

- ‌فصل في النذر لغير الله

- ‌فصل في بيان الركوب إلى النصارى واتخاذهم أولياء

الفصل: ‌فصل في فرية الملحد أن الشيخ يريد النبوة

‌فصل في فرية الملحد أن الشيخ يريد النبوة

فصل

قال العراقي:

(عقيدة الوهابية: لما رأى ابن عبد الوهاب أن قاطني بلاد نجد بعيدون عن عالم الحضارة، لم يزلوا على البساطة والسذاجة في الفطرة، قد ساد عليهم الجهل حتى لم يبق للعلوم العقلية عندهم مكانة ولا رواج، وجد هنالك من قلوبهم ما هو صالح لأن يزرع فيه بذور الفساد، مما كانت نفسه تنزع إليه، وتمنيه به من قديم الزمان، وهو الحصول على رياسة عظيمة ينالها باسم الدين إذ كان –لحاه الله- يعتقد أن النبوات لم تكن إلا رياسة وصل إليها دهاة البشر، حتى ساعدتهم الظروف عليها بين ظهراني قوم جاهلين ليس لهم من العلم نصيب، وحيث إن الله تعالى قد ارتج باب النبوة بعد خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يجد للوصول إلى أمنيته طريقاً بين أولئك الأنعام، إلا أن يدعي أنه مجدد في الدين، مجتهد في أحكامه، فحمله هذا الأمر أن كفر جميع طوائف المسلمين، وجعلهم

ص: 152

مشركين، بل أسوأ حالاً وأشد كفراً وضلالاً، فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين الذين يزرون قبر نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويستشفعون به إلى ربهم، نابذاً وراء ظهره كل ما خالف أمانيه الباطلة، وسولته له نفسه بالسوء من أحاديث سيد المرسلين، وأقوال أئمة الدين والمجتهدين، حتى إنه لما رأى الإجماع مصادماً لما ابتدعه أنكره من أصله، وقال: لا أرى للناس بعد كتاب الله الذي جمع فأوعى كل رطب ويابس. وتغافل عما جاء به كتاب الله من قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] ) .

والجواب أن يقال: ما أعظم جراءة هذا العراقي على الكذب وتعمد الفجور وقول الزور، وهذه حال كل متمرد كفور، وقد قدمنا من حال نشأة الشيخ ودعوته إلى الله ما بين إفك هذا العراقي وتمرده وفجوره، وأنه إنما أخذ هذه المجونات والمخرفة والأكاذيب والزندقة من كتب قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، وأشربت قلوبهم عداوة هذا الدين، وأهله، ومن دعا إليه، وكراهته، وكراهة من دان به، فأخذوا يضعون هذه الأوضاع ليصدوا عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجاً.

ص: 153

ومن أعظم مفتريات هؤلاء الكفرة أعداء الله ورسوله حيث انبعث أشقاها، وتفوه –بما لفقوه- أغواها، حيث زعم أن الشيخ يزرع في قلوب أهل نجد بذور الفساد، مما كانت نفسه تنزع إليه وتمنيه به من قديم الزمان، وهو الحصول على رياسة عظيمة ينالها باسم الدين، إذ كان يعتقد أن النبوات لم تكن إلا رياسة وصل إليها دهاة البشر حين ساعدتهم الظروف عليها بين ظهراني قوم جاهلين.

وهذا القول لا يقوله ويحكيه عن الشيخ من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى.

وقد كان من المعلوم أن هذا الاعتقاد من عقائد الملاحدة الذين يقولون: إن الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستورة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعاني، وتشكلت في النفس بحيث يتوهمها أصواتا تخاطبه، وربما قوي ذلك ببعض الحاضرين1 فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج، وهذا يكون عندهم بتجرد النفوس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات من العقول والنفوس المجردة، وهذه الخصائص تحصل عندهم بالاكتساب، ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء.

1 في ط المنار: "والخاضرين".

ص: 154

وهؤلاء عندنا وعند الشيخ رحمه الله أكفر من اليهود والنصارى، وأبعد عن الإسلام من غيرهم من طوائف الكفر.

ولما توهم هذا الملحد أن الشيخ ينتحل هذا المذهب الملعون قال: وحيث إن الله قد أرتج باب النبوة بعد خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يجد للحصول على أمنيته طريقاً بين أولئك الأنعام، إلا ان يدعي أنه مجدد في الدين مجتهد في أحكامه.

فيقال لهذا الملحد: قد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وبما ورد في الكتاب والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده، فمن توهم حصولها لأحد بعده فهو كافر، ولكن قد أخبر صلى الله عليه وسلم:"أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها"

1 أخرجه أبو داود في سننه –كتاب الملاحم- 4/480، والحاكم في مستدركه 4/522 من طريق سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

فذكره

.

قال أبو الطيب في عون المعبود 11/396 قال السيوطي في مرقاة الصعود: اتفق الحفاظ على تصحيحه، منهم الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل. وممن نص على صحته من المتأخرين: الحافظ ابن حجر اهـ.

وقال العلقمي في شرح الجامع الصغير: قال شيخنا: اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح، وممن نص على صحته من المتأخرين: أبو الفضل العراقي، وابن حجر، ومن المتقدمين: الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل اهـ.

وفي فتح القدير للمناوي 2/282: قال الزين العراقي وغيره: سنده صحيح اهـ.

وقال السخاوي في المقاصد: وسنده صحيح، ورجال كلهم ثقات اهـ. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في التيسير ص 24 وإسناده صحيح اهـ.

قوله في السند: "فيما أعلم" قال في عون المعبود: الظاهر أن قائلة أبو علقمة. يقول في علمي أن أبا هريرة حدثني هذا الحديث مرفوعاً لا موقوفاً عليه اهـ.

قال المنذري: الراوي لم يجزم برفعه. قال في العون: قلت: نعم، لكن مثل ذلك لا يقال من قبل الرأي، إنما هو من شأن النبوة، فتعين كونه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم اهـ.

ص: 155

وفي الحديث: "ما جعل الله من نبوة إلا كانت بعدها فترة".

وهذا معلوم معروف عند أهل العلم كما قال الإمام أحمد في خطبته: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضال تائه قد هدوه، فما أحسن

ص: 156

أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم1"، إلى آخر كلامه.

وقد شهد أهل العلم والفضل من أهل عصره أنه أظهر توحيد الله وجدد دينه، ودعا إليه كما تقدم ذكره عن الإمام حسين بن غنام، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد بن أحمد الحفظي2، وغيرهم من علماء أهل الأمصار.

وقد كان من المعلوم عند كل عاقل خبر الناس، وعرف أحوالهم، وسمع شيئاً من أخبارهم وتواريخهم: أن أهل نجد وغيرهم ممن تبع دعوة الشيخ واستجاب لدعوته من سكان جزيرة العرب كانوا على غاية من الجهالة والضلالة والفقر والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف، كانوا من أمر دينهم في جاهلية، يدعون الصالحين ويعتقدون في الأشجار والأحجار، والغيران3، يطوفون بقبور الأولياء، ويرتجون الخير والنصر من جهتها،

1 ذكرها الإمام أحمد في مقدمة رده على الزنادقة والجهمية (ص 4 من الشذرات)، قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية –رحمه الله تعالى- في كتاب درء تعارض العقل والنقل 1/19: ويروي نحو هذه الخطبة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما ذكر ذلك محمد بن وضاح في كتاب الحوادث والبدع اهـ. وانظر كتاب ابن وضاح ص 3.

2 ص 36 و81 و83.

3 جمع غار، وسبق حالهم ص 21 وما بعدها.

ص: 157

وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية، وجهالة الصوفية ما يرون أنه من الشعب الإيمانية، والطريقة المحمدية، وفيهم من إضاعة الصلوات، ومنه الزكاة، وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور.

فمحا الله بدعوة الشيخ شعار الشرك ومشاهده، وهدم بيوت الكفر والشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان القرى، بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والهدى، وكفر من أنكر البعث واستراب فيه من أهل الجهالة والجفا، وأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وترك المنكرات، ونهى عن الابتداع في مسائل الدين، وأمر بمتابعة السلف الماضين في الأصول والفروع من مسائل الدين، حتى ظهر دين الله واستعلن، واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدت الحدود الشرعية، وعزرت التعازير الدينية، وانتصب علم الجهاد، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد، حتى سارت دعوته وثبت نصحه لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وجمع الله به القلوب بعد شتاتها، وتألفت بعد عداوتها، وصاروا بنعمة الله إخواناً، فأعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور ما لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي والصخور، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، ومن اليمن إلى

ص: 158

العراق والشام، ودانت لهم عربها، فأصبحت نجد تضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدنيا والدين، وتفتخر بما نالها من العز والنصر والإقبال.

وبالجملة فلا يقول مثل هذا في الشيخ رحمه الله إلا رجل مكابر، لا يتحاشى من البهت والافتراء، وإلى الله ترجع الأمور، وعنده تنكشف السرائر.

ولما كان هذا العراقي الملحد من جملة من نشأ على عقائد الملاحدة أعداء الله ورسوله ومن نحا نحوهم من المتكلمين، الذين يزعمون أن العقل مقدم على النقل، وأن لنصوص الكتاب والسنة ظواهر ظنية، وأن معقولاتهم التي هي نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان، وريح1 المقاعد هي البراهين اليقينية، اعتقد أن من لم يكن على هذا المذهب الملعون أنه قد خرج عن عالم الحضارة، ولم يزل على البساطة والسذاجة في الفطرة.

وقد كان من المعلوم أن جفاة العرب أسلم فطرة وأصح عقولاً من هؤلاء الملاحدة، ولذلك لما دخلوا في دين الله، وعرفوا هذا الدين كانوا على طريقة السلف في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وفي باب العمل والعبادة، وتقديم كتاب الله وسنة رسوله على قول كل أحد كائناً من

1 في ط المنار: "وريج".

ص: 159

كان، وجمع الله لمن طلب العلم منهم من العلوم والمعارف ما لا يعرفه هؤلاء من سائر العلوم والفنون، مع أن كثيراً من علوم هؤلاء الخارجين عن طريقة أهل الإسلام من العلوم التي لا ينتفع بها في معرفة ما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، إنما هي أوضاع اليونان والفلاسفة، والمجوس والصابئين، ولذلك كان الغالب على من دخل في هذه العلوم الحيرة والشك، نعوذ بالله من الخروج عن الصراط المستقيم.

وأما قوله: (فحمله هذا الأمر أن كفر جميع طوائف المسلمين وجعلهم مشركين، بل أسوأ حالاً وأشد كفراً وضلالاً) .

يعني: أن الشيخ ادعى أنه مجدد لدين الله، مجتهد في أحكامه، فحمله على أن كفر جميع طوائف المسلمين.

فأقول: أما كونه مجدداً لدين الله فهو من المعلوم بالضرورة، ولا ينكره إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات.

وأما كونه كفر جميع طوائف المسلمين فجعلهم مشركين، فهذه العبارة تدل على تهور في الكذب، ووقاحة تامة، وفي الحديث: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة

ص: 160

الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 1.

وصريح هذه العبارة أن الشيخ كفر جميع هذه الأمة من المبعث النبوي إلى قيام الساعة، وهل يتصور هذا عاقل قد عرف حال الشيخ، وما جاء به، ودعا إليه.

بل كان من المعلوم أن هذا العراقي كان لا يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، ولو كان يعرف دين الإسلام لما تجازف بهذه المجازفة، ومخرق بهذه المخرقة المارجة.

والشيخ رحمه الله لا يعرف له قول انفرد به عن سائر الأمة، بل ولا عن أهل السنة والجماعة منهم، وجميع أقواله في هذا الباب -أعني ما دعا إليه من توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العمل والعبادات- مجمع عليه عند المسلمين، لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم، وعدل عن منهاجهم كالجهمية والمعتزلة، وغلاة عباد القبور.

بل قوله مما أجمعت عليه الرسل، واتفقت عليه

1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الأدب- باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وفي كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، عن ابن مسعود البدري.. به 10/523 –فتح.

وأخرجه أبو داود 5/148، وابن ماجه 2/1400.

ص: 161

الكتب، كما يعلم ذلك بالضرورة من عرف ما جاؤوا به وتصوره.

ولا يكفر إلا على هذا الأصل بعد قيام الحجة المعتبرة1، فهو في ذلك على صراط مستقيم، متبع لا مبتدع.

وهذا كتاب الله، وسنة رسوله، وكلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من أهل العلوم والفتوى معروف مشهور مقرر في محله في حكم من عدل بالله، وأشرك به، وتقسيمهم الشرك إلى أكبر وأصغر، والحكم على المشرك الشرك الأكبر بالكفر مشهور عند الأمة، لا يكابر فيه إلا جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، وما جاءت به الرسل.

وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف غير واحد من أهل العلم، وحكى الإجماع عليها، وأنها من ضروريات الإسلام، كما ذكره تقي الدين ابن تيمية وابن قيم الجوزية، وابن عقيل، وصاحب الفتاوى البزازية، وصنع الله الحلبي، والمقريزي الشافعي، ومحمد بن حسين النعيمي الزبيدي، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد بن علي الشوكاني، وغيرهم من أهل العلم.

1 في ط الرياض: "والمعتبرة".

ص: 162

والشيخ رحمه الله لم يكفر طوائف المسلمين، وإنما كفر طوائف المشركين والخارجين المارقين من دين الإسلام، فإن الأحداث لا تزال موجودة في الأمة تقل وتكثر من عهد الصحابة إلى أن تقوم الساعة.

فقد كفر الصحابة رضي الله عنهم من كفروه من أهل الردة على اختلافهم، وكفر علي الغلاة، وكفر من بعدهم من العلماء القدرية ونحوهم كتكفيرهم للجهمية، وقتلهم لجعد بن درهم، وجهم بن صفون، ومن على رأيهم، وقتلهم للزنادقة، وهكذا في كل قرن وعصر من أهل العلم والفقه والحديث طائفة قائمة تكفر من كفره الله ورسوله، وقام الدليل على كفره، لا يتحاشون عن ذلك، بل يرونه من واجبات الدين، وقواعد الإسلام، وفي الحديث "من بدل دينه فاقتلوه"1.

وبعض العلماء يرى أن هذا والجهاد عليه ركن لا يتم الإسلام بدونه، وقد سلك سبيلهم الأئمة الأربعة المقلدون

1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم- باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم عن عكرمة قال: "أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس. فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه" 12/267 –فتح.

وأخرجه أبو داود 4/520-521، والترمذي 4/59، والنسائي 7/104-105، وابن ماجه 2/848.

ص: 163

وأتباعهم في كل عصر ومصر، وكفروا طوائف أهل الإحداث كالقرامطة والباطنية، وكفروا العبيديين ملوك مصر، وقاتلوهم وهم يبنون المساجد، ويصلون ويؤذنون ويدعون نصر أهل البيت.

وصنف ابن الجوزي كتاباً سماه "النصر على مصر" ذكر فيه وجوب قتالهم وردتهم، وأن دارهم دار حرب.

وقد عقد الفقهاء في كل كتاب من كتب الفقه المصنفة على مذاهبهم باباً مستقلاً في حكم أهل الإحداث التي توجب الردة، وسماه أكثرهم "باب الردة"، وعرفوا المرتد بأنه: الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أشياء دون ما نحن فيه من المكفرات، حكموا فيه بكفر فاعلها، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فما المانع من1 تكفير من أشرك بالله، وعدل به سواه، واتخذ معه الآلهة والأنداد، وإنما يهمل هذا من لم يؤمن بالله ورسوله، ولم يعظم أمره، ومن لم يسلك صراطه، ولم يقدر الله ورسوله حق قدره، بل ولا قدر علماء الأمة وأئمتها حق قدرهم.

وأما قوله: (فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين الذين

1 سقطت: "من" من ط الرياض.

ص: 164

يزورون قبر نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويستشفعون به إلى ربهم، نابذاً وراء ظهره كل ما خالف أمانيه الباطلة، وسولت له نفسه الأمارة بالسوء من أحاديث سيد المرسلين، وأقوال أئمة الدين والمجتهدين) .

فالجواب أن يقال: هذا كذب على الشيخ، فإنه ما عمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين، وإنما استدل بالآيات القرآنية النازلة في المشركين وجعلها عامة شاملة لمن أشرك بالله، وعدل به سواه، وبدل دينه، وفعل كما فعل المشركون من صرف خالص حق الله لمن أشركوا به، واتخذوهم شفعاء من دونه. وسيأتي الكلام على هذا في محله إن شاء الله تعالى.

وقوله: (نابذاً وراء ظهره

إلى آخره) .

أقول: إنما نبذ وراء ظهره كل ما خالف كتاب الله وسنة رسوله، وخالف أقوال أئمة الدين المجتهدين، وهو –ولله الحمد- متبع لا مبتدع، وإنما أمانيه القيام بأوامر الله وشرعه ودينه، ودعوة الناس إلى ذلك، والجهاد على ذلك، ولم تسول له نفسه ما يخالف الكتاب والسنة، وإنما

ص: 165

قام أشد القيام في اتباع الكتاب والسنة، ورد ما خالفهما، وترك ما ألفه أعداء الله ورسوله الزنادقة من الأحاديث المكذوبة الموضوعة، وإذا لم يجد في كتاب الله وسنة رسوله شيئاًَ اعتمد على أقوال أئمة الدين والعلماء المجتهدين، وذلك معروف في رسائلة ومصنفاته، ولا ينكره إلا مكابر.

وأما قوله: (حتى إنه لما رأى الإجماع مصادماً لما ابتدعه أنكره من أصله) .

فأقول: ما أنكر الشيخ إلا إجماع أهل الكفر بالله، والإشراك به: على عبادة غير الله، وجعلهم معه آلهة وأنداداً يستغيثون بهم، وبلجئون إليهم في الرغبات والرهبات والطلبات، ويطلبون منهم تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، ويصرفون لهم خالص حق الله من الدعاء، والحب والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والاستغاثة، والذبح والنذر والالتجاء وسائر أنواع العبادة التي صرفها المشركون لغير الله.

وخرق هذا الإجماع واجب على كل مسلم، وليس هذا هو الإجماع الذي يشير إليه العلماء، الذي من خالفه فقد ضل، وإنما هذا هو إجماع من ضل عن الصراط المستقيم، وهم

ص: 166

الأكثرون، كما قال الله تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وقال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنعام:116]، وقال تعالى:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَاّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] .

وأما قوله: (ولا أرى للناس بعد كتاب الله الذي جمع فأوعى كل رطب ويابس، وتغافل عما جاء به كتاب الله من قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] ) .

فأقول: هذا الكلام بهذا اللفظ لا يثبت عن الشيخ، ولم نره في شيء من كتبه، ولا في كلامه، ولا في رسائله، بل الذي في كتبه ومصنفاته الأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة.

قال رحمه الله تعالى في مصنفه "أصول الإيمان": باب الوصية بكتاب الله عز وجل. وقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3] عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فحمد الله وأثنى، ثم قال: "أما بعد

ص: 167

أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، وتمسكوا به"، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي"، وفي لفظ: "كتاب الله هو حبل الله ومن اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة" رواه مسلم1.

وله في حديث جابر الطويل أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة: "وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ " قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. قال بأصبعه السبابة يرفعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض "اللهم اشهد" ثلاث مرات2.

وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة" فقلنا: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا

1 في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه 42/1873.

2 أخرجه مسلم في كتاب الحج من صحيحه 2/890.

ص: 168

تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" رواه الترمذي وقال: غريب1.

وعن أبي الدرداء مرفوعاً قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئاً {وَمَا كَانَ

1 أخرجه الترمذي في سننه –كتاب فضائل القرآن- 5/172-173 من طريق حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث عن علي

به مرفوعاً.

قال الترمذي: هذا حديث [غريب] لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال اهـ.

وتعقبه ابن كثير حيث قال في فضائل القرآن ص 7: قلت: لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور: فبرئ حمزة من عهدته. على أنه وإن كان ضعيف الحديث فإنه إمام في القراءة.

والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث فلا. والله أعلم.

وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم رفعه. وهو كلام حسن صحيح.

على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم

اهـ.

ص: 169

رَبُّكَ نَسِيّاً} " رواه البزار وابن أبي حاتم والطبراني1 إلى آخر الباب، ثم قال:

باب تحريضه صلى الله عليه وسلم على لزوم السنة، والترغيب في ذلك، وترك البدع والتفرق والاختلاف والتحذير من ذلك.

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة فقال رجل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" صححه الترمذي2.

1 قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/171: إسناده حسن، ورجاله موثقون اهـ.

2 أخرجه أحمد 4/126-127، وأبو داود 5/13-14-15، والترمذي 5/44-45، وابن ماجه 1/15-16-17.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم في المستدرك 1/95: هذا حديث صحيح ليس له علة. وأقره الذهبي على هذا. وصححه ابن قدامة في "الحث على السنن واجتناب البدع" وقال الحافظ ابن كثير في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب ص 163: صححه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، والدغولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه اهـ.

وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 2/579.

ص: 170

ولمسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".

وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل: ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" إلى آخر الباب.

وله مصنفات ورسائل مملوءة بكلام الأئمة المهتدين، والعلماء المجتهدين، وله مختصر "ألشرح الكبير" و"الإنصاف" على مذهب أحمد، ولكن الهوى يعمي ويصم.

وأما قوله: (وتغافل عما جاء به كتاب الله من قوله {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية) .

فالجواب أن نقول: إن اتباع سبيل المؤمنين لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله، والإجماع لا يخالف ما أمر الله به ورسوله، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله لم يكن من المؤمنين، واتباع سبيل المؤمنين، هو تقديم كتاب الله وسنة رسوله على قول كل أحد كائناً من كان.

ص: 171

قال الإمام الشافعي رحمه الله: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان".

وقد اتبع رحمه الله سبيل المؤمنين، فكان على ما كان عليه السلف الصالح، والأئمة المهتدون في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وباب العمل والعبادة لا يخالفهم في كل ذلك، لكن من خرج عن سبيلهم، وعدل عن منهاجهم، كالجهمية والمعتزلة وغلاة عبادة القبور. وكان في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما هو مشهور في الرسالة التي اختصرت لأهل مكة، قال:

ولا ننكر1 على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة والزيدية، والإمامية، ونحوهم، ولا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه،

1 في ط الرياض: "ولا تنكر".

ص: 172

وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به، وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة، فإنا نقدم الجد، وإن خالف مذهب الحنابلة، ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض إلا إذا اطلعنا1 على نص جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها2 شعار ظاهر كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، وشتان بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أمرناهم للنص، وإن خالف المذهب، وذلك إنما يكون نادراً جداً، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في المسائل مخالفين للمذهب ملتزمين تقليد صاحبه" انتهى.

وأما قوله: (على أنه لم يأخذ من كتاب الله إلا ما نزل في المشركين من الآيات فأولها ظلماً منه، وتجاسراً على الله، تأويلاً يسهل له الحصول على أمنيته، وذلك بأن

1 في ط الرياض: "طلعنا".

2 في ط المنار: "به".

ص: 173

حملها على المسلمين فكفرهم منذ ستمائة عام، وهدر دماءهم، وأباح أموالهم، وجعل بلادهم بلاد حرب) .

والجواب أن نقول: قد تقدم الجواب عن هذا فلا فائدة في الجواب عنه.

وما نعلم أنه له أمنية في دعوته الخلق إلى الله يتمنى حصولها إلا أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئاً، وأن يخلعوا الأنداد التي اتخذها المشركون أولياء من دونه ، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الأعراف:162] ، {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم:29] ، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] والله يهدي إلى صراط مستقيم.

وأما قوله: (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل كما في الصحيحين: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" الحديث. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر1: "بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله" الحديث2،

1 سقطت "ابن" من ط الرياض.

2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الإيمان- باب دعاؤكم إيمانكم 1/49. ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/45. وفي لفظ لمسلم: "على أن يوحد الله" وفي لفظ له أيضاً: "على أن يعبد الله ويكفر بما دونه".

ص: 174

وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" الحديث كما في الصحيحين1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: "كفوا عن أهل لا إله إلا الله" 2) انتهى.

مراده بإيراد هذه الأحاديث: أن من أتى بناقض من نواقض لا إله إلا الله كدعاء الغائبين والأموات والنذر لهم والذبح أنه لا يكفر {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59] ، وسيأتي الكلام عليها في محلها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/129 وفي العلم 1/185 عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من الوفد- أو من القوم؟ "-

الحديث.

وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/46-47-48-49-50 عن ابن عباس وأبي سعيد رضي الله عنهما.

2 أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعاً. قال الهيثمي في المجمع 1/106 وفيه الضحاك بن حمزة عن علي بن زيد. وقد اختلف في الاحتجاج بهما اهـ.

ورمز السيوطي إلى ضعف الحديث في "الجامع".

ص: 175