الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل الإستغاثة وشفاعة القيامة
…
فصل
قال العراقي: (ومنها ما رواه البخاري في حديث الشفاعة: إن الخلق بينما هم في هول القيامة استغاثوا بآدم ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وكلهم يعتذرون، ويقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها
…
الحديث. فلو كانت الاستغاثة بالمخلوق ممنوعة لما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم، وأجاب المانعون أن هذا يكون يوم القيامة، حيث يكون للنبي صلى الله عليه وسلم قدرة، ورد عليهم أنهم في حياتهم الدنيوية لا قدرة لهم إلا بنوع التسبب، فكذلك بعد الموت، على أنهم أحياء في قبورهم يتسببون) .
والجواب أن نقول: قال بعض المحققين من أهل العلم في جوابه:
إن استغاثة الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم وقبله بآدم ثم بنوح
…
إلى آخر حديث الشفاعة، فهذه شفاعة بالدعاء.
والاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث مستحسنة عقلاً وشرعاً، ومن ذلك الرفقة يستغيث بعضهم بعضاً أي في مهماتهم التي يقدرون عليها، وكذلك ما طلب الناس منه، وهي الشفاعة التي هي الدعاء، ولذلك يقول سيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:"فأجيء فأسجد" وأنه يلهمه الله من الثناء والدعاء شيئاً لم يلهمه لغيره صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يأذن الله بالشفاعة، ويقول له كما ورد في الحديث:" يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع" وهذا ظاهر جداً.
وأما ما أورده على الجواب من أن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسبباً فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، وسواء كانت الاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث، أم لا، مدفوع بأن كون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية، لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به، ولا يتوكل عليه، ولا يلجأ في ذلك إليه، فلا يقال لأحد حي أو ميت، قريب أو بعيد: ارزقني أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشف مريضي، إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الأحد، الفرد الصمد، بل يقال لمن له قدرة كسبية قد جرت العادة بحصولها ممن أهله الله لها: أعني في حمل متاعي، أو غير ذلك
والقرآن ناطق بحصر الدعاء عن كل أحد لا من الأحياء ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء أو صالحين أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها، فإن الأمور غير المقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر، ومنشيء البشر، كيف والدعاء عبادة، وهي مختصة به سبحانه.
بقي ما أدلى به العراقي وأضرابه علينا من حياة الأنبياء، ليتوصلوا به إلى ترويج مدعاهم، من استحسان دعائهم، وطلب إغاثتهم، وأولوه بأن مرادهم من ذلك الاستشفاع: طلب أن يدعوا لهم.
فنقول: هذا حق ثابت، فنعتقد حياتهم صلى الله تعالى عليهم وسلم حياة برزخية، فوق حياة الشهداء، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم قد جعل عند قبره الشريف ملك يبلغه سلام المسلمين الذين عند ضريحه المكرم والنائبين عنه. وأن الأنبياء جميعهم طريون، لا تأكل الأرض أجسامهم الشريفة. ولكنا نمنع أن يطلب منهم شيء، فلا يسألوا شيئاً بعد وفاتهم، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو توجه أو استشفاع، أو غير ذلك، فجميع ذلك من وظائف الألوهية، فلا يليق جلعلها لمن يتصف بالعبودية من البرية.
فإن ادعى أحد أن حياتهم صلى الله تعالى عليهم وسلم إذا ثبتت الرواية بها حقيقة- كما هو الأصل في
حمل الألفاظ على حقائقها- ولم تثبت قرينة على التجوز بها فتبقى على حقيقتها. أجبناه قائلين:
لا شك أنه لا يراد بهذه الحياة الحقيقية، ولو أريدت لاقتضت جميع لوازمها، من أعمال وتكليف وعبادة، ونطق وغير ذلك من وظائف الحياة، وحيث انتفت حقيقة هذه الحياة الدنيوية بانتفاء لوازمها، وبحصول الانتقال بالموت الحال به صلى الله عليه وسلم -وأرواحنا له الفداء- كما قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال عز من قائل:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل} [آل عمران: 144] الآية، وحلول الموت به صلى الله عليه وسلم أمر لا يمكن إنكاره -إلى أن قال- نثبت الحياة الأخرى البرزخية، وهي متفاوتة، فحياة الشهداء فوق حياة المؤمنين، وحياة الأنبياء أعلى من حياة الشهداء، فنقتصر على ما يثبت لها في النصوص القطعية من الأحوال المستحسنة المرضية
…
إلى آخر كلامه.
وقد تقدم الكلام على قوله: (فكذلك بعد الموت على أنهم أحياء في قبورهم يتسببون) ، وأن الميت قد انقطع عمله، فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فكيف بمن استغاث به، وهذا ظاهر ولله الحمد والمنة.