الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في آية: {أيهم أقرب}
…
فصل
قال العراقي: (ومنها قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] قال ابن عباس: هم عيسى وأمه وعزير والملائكة. وتفسير الآية: أن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أرباب، فيقول الله لهم: أولئك الذين تعبدونهم هم يتوسلون إلى الله بمن هو أقرب، فكيف تجعلونهم أرباباً، وهم عبيده مفتقرون إلى ربهم متوسلون إليه بمن هو أعلى مقاماً منهم) .
والجواب أن يقال: وهكذا قال داود بن جرجيس. وقد أجابه الشيخ فقال:
والجواب أولاً: لولا ما يقصده المؤمن من رد هذه الأقوال الضالة الكاذبة التي تتضمن الكذب على الله، وتحريف كتابه، وتغيير دينه، والقول عليه بغير علم، لما جازت حكاية هذا الإفك ونقله، والله سبحانه ذكر أقوال أعدائه وأعداء رسله في معرض الرد لها، وإبطالها، والتسجيل على ضلالة أهلها.
فأما ما نقله عن البغوي، فقد حرفه، وكذب فيه، وهذه عبارة البغوي نسوقها بحروفها، قال في قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] .
يعني الذين يدعونهم المشركون آلهة ويعبدونهم. قال ابن عباس ومجاهد: هم عيسى وأمه وعزير، والملائكة والشمس والقمر، والنجوم. يبتغون: أي يطلبون إلى ربهم الوسيلة، أي القربة، وقيل: الوسيلة: الدرجة العليا، أي يتضرعون إلى الله في طلب الدرجة العليا، وقيل الوسيلة: كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، وقوله:(أيهم أقرب) معناه: ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به. وقال الزجاج (أيهم أقرب) : يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرب إليه بالعمل الصالح.
هذه عبارة البغوي بحروفها1.
وقد تصرف فيها هذا الضال، فحذف منها قول ابن عباس:(والشمس والقمر والنجوم)، وحرف قوله:(يطلبون إلى ربهم الوسيلة أي القربة) فقال العراقي: كل ما يتقرب به إلى الله، وعبارة البغوي (القربة) وحذف قول البغوي: (وقيل الوسيلة الدرجة العليا، أي يتضرعون
(3/120/ ط دار المعرفة) .
إلى الله في طلب الدرجة العليا) ، وزاد في قوله:(ينظرون أيهم أقرب إلى الله) فقال العراقي: (وأعلى جاها)، وزاد:(ويتشفعون به إلى ربهم) هذا تحريفه لكلام البغوي1.
قلت: وأما صاحب الرسالة فإنه ألطف في التحريف، وأجرأ على الله بالكذب من داود، فإن داود نسب الكلام إلى البغوي وحرفه، وتصرف فيه، وزاد، وهذا جزم أن تفسير الآية: أن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أربابهم، كما ذكر داود، وذكر هذا كما ذكر داود إلى آخره.
والمقصود أنهم يغترفون من عين واحد.
قال الشيخ في جوابه: والرجل يشتهي يأخذ ما يهوى، ويدع ما هو الأولى والأقوى، فأول عبارة البغوي ترد قوله:(ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به) لأن الشمس والقمر والنجوم لا يتأتى منهم ذلك، والملائكة وعزير وعيسى، لم يرد نقل ولا حجة ولا برهان على أن بعضهم يسأل الله ببعض، ويتوسل به، ويقصده في حاجاته وملماته، فما قاله البغوي هنا غير مسلم. وقد تقدم كلام المفسرين، وأنهم لم يرتضوا هذا، ولم يقله أحد منهم. وتقدم قول ابن كثير في تفسير قتادة أنه لا خلاف بين المفسرين في ذلك. وتقدم قول أبي
1 انتهى كلام الشيخ عبد اللطيف.
حفص والبيضاوي، والجلالين. فعدل العراقي عن هذا كله، وتمسك بالمتشابه، كما قال ابن القيم: وأعرض النصارى عن الأصول المحكمة، وتمسكوا بالمتشابه. على أن عبارة البغوي ليس فيها شاهد ودليل لعباد القبور، بل هي تدل على خلافه1 فإن التوسل الذي يشير إليه، وينصرف الاسم عليه عند الإطلاق، هو التوسل الشرعي، ومنه دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، كالأسباب العادية، وقد يراد بالتوسل في عرف بعض الناس: سؤال الله تعالى بحق أوليائه. وعلى كل فليس فيه دليل لدعاء الموتى والغائبين، كما يفعله عباد القبور من الضالين والمشركين، ويحتمل أنه أراد بقوله:(أن ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به) معنى صحيحاً شرعياً، وهو الاقتداء بهم، وسلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم، قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام: 90] وقد يتعين هذا الاحتمال لوجوب إحسان الظن بالعلماء.
وقول العراقي في معنى الآية: (إن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أربابهم) يريد به أن المشركين يعتقدون أن آلهتهم تخلق وترزق وتدبر، وهذا قد رده القرآن، وأبطله في غير موضع –كما تقدم تقريره- والعراقي يلجأ إلى
1 إلى هنا انتهى البياض الموجود في الأصل (الطبعة الهندية) .
هذا لئلا يدخل ما فعله عباد القبور فيما نهى عنه القرآن من اتخاذ الآلهة من دون الله، وعبادتها معه، وهذا لازم لعباد القبور لا محيص عنه، والحكم يدور مع علته، والقرآن كفر المشركين، وأنكر عليهم: دعاء غير الله، ومحبة سواه، وتعظيم ما يدعى معه، بالذبح والنذر، وسائر العبادات، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} [البقرة: 165]، وقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِه} [المؤمنون: 117]، وقال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] والآيات في المعنى كثيرة، يبين تعالى أنه كفرهم، وأنكر عليهم، وتوعدهم بالنار على عبادة غيره، ودعاء سواه. والعبادة فعل العبد الذي هو الحب مع الله، والخضوع والتعظيم والدعاء رغباً ورهباً.
وإطلاق الأرباب على الآلهة كقوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، وقوله:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران: 80] ، ونحو ذلك إنما يراد به ما ذكرنا، لأن المعبود يسمى رباً، وهذا مما لا خلاف فيه بين المفسرين، بل السيد يسمى ربا،
فتنبه لهذا، فقد زل بهذه الشبهة كثير من المنتسبين إلى العلم والدين -ثم ذكر الشيخ كلاماً طويلاً عن شيخ الإسلام قال في آخره:
ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها ويصوم وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً، ومن المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين أن هذا شرك. انتهى.
فتأمله فإن فيه حكاية قول سلف هذا العراقي. وفيه أن ما قاله العراقي شرك يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، والله المستعان.
وأما قول العراقي: (فيقول الله تعالى: أولئك الذين تعبدونهم يتوسلون إلي بمن هو أقرب، يعني: فهو محتاجون) فقد كذب على الله، ما عنى سبحانه وتعالى بهذا المعنى، ولا أراده تبارك وتقدس، عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ما أجرأ هذا المتكلم على الله، وعلى كتابه، وعلى دينه {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83، والمعارج: 42] ، وتقدم قول المفسرين، وقول شيخ الإسلام: إن هؤلاء المدعوين عبيده، كما أن الداعين عبيده، وأنهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه. نعوذ بالله من اقتحام هذه المهالك، والتوثب على تلك
الدركات التي تهوي بصاحبها إلى أسفل سافلين، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 23]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] .