المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في النذر لغير الله - الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق

[سليمان بن سحمان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌فصل في منشأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌فصل في طلب الشيخ رحمه الله للعلم ومبدأ دعوته

- ‌فصل في حال الناس في نجد وغيرها قبل دعوة الشيخ

- ‌فصل في حقيقة دعوة الشيخ وأنها سلفية

- ‌فصل في نقض تعيير الملحد بسكنى بلاد مسيلمة

- ‌فصل في فرية الملحد على الشيخ بأنه يطمح للنبوة

- ‌فصل في رد فرية بأنهم خوارج

- ‌فصل في رد فرية الملحد في تنقص الأنبياء والصالحين

- ‌فصل في رد فرية الملحد على كتاب (كشف الشبهات)

- ‌فصل في كيد الدولة التركية المصرية ورد الله له

- ‌فصل في مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في بيان أن دعوة الشيخ ليس فيها من مقالات الخوارج شيء

- ‌فصل في ذكر بعض مفتريات الملحد

- ‌فصل في الدولة السعودية القائمة الآن

- ‌فصل في كيد الدولة العثمانية

- ‌فصل في فرية الملحد أن الشيخ يريد النبوة

- ‌فصل في بيان جهمية الملحد وسنية الشيخ

- ‌فصل في مدح الملحد للعقل وذمه لأهل السنة

- ‌فصل في مفتريات الملحد، وردها

- ‌فصل في زعم الملحد أن إثبات الصفات تجسيم

- ‌فصل في بيان كلام الملحد في الجسم، وزيغه

- ‌فصل في إثبا الصفات وأنه لا يقتضي التجسيم

- ‌فصل في الإشارة إلى السماء، وإنكار الملحد ذلك

- ‌فصل في إنكار الملحد للنزول

- ‌فصل في تأويل الملحد للإشارة والمعراج

- ‌فصل في تأليه الملحد للعقل، وزعمه أن النقل يؤدي إلى الضلال

- ‌فصل في زعم الملحد تقديم العقل لأنه الأصل

- ‌فصل في فرية الملحد عليهم بنفي الإجماع

- ‌فصل في فرية الملحد عليهم بإنكارهم القياس

- ‌فصل في فرية الملحد بتكفير المقلدين

- ‌فصل في حكم أهل الأهواء

- ‌فصل في تناقض العراقي وكلامه في الجهمية

- ‌فصل في حكم التوسل والإستغاثة والزيارة والشرك

- ‌فصل في بيان جهل الملحد بمعنى العبادة

- ‌فصل في أنواع الشرك، وجهل الملحد بها

- ‌فصل في بيان سبب شرك الجاهلية

- ‌فصل في بيان أن الإستغاثة من الدعاء

- ‌فصل في التوسل

- ‌فصل في الإستغاثة الشركية

- ‌فصل في الإستغاثة بالأنبياء

- ‌فصل في آية: {وأبتغوا إليه الوسيلة}

- ‌فصل في آية: {أيهم أقرب}

- ‌فصل في آية: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك}

- ‌فصل في آية: {فاستغاثه الذي من شيعته}

- ‌فصل في آية: {لا يملكون الشفاعة}

- ‌فصل في حديث: "أسألك بحق السائلين

- ‌فصل في حديث: "أغفر لأمي فاطمة بحق نبيك

- ‌فصل في حديث الضرير

- ‌فصل في المنام والإستسقاء

- ‌فصل في إستسقاء عمر بالعباس

- ‌فصل في الفرق بين الحي والميت في التوسل

- ‌فصل في حقيقة غلو الناس في الصالحين وغيرهم

- ‌فصل في الإستغاثة وقصة هاجر

- ‌فصل الإستغاثة وشفاعة القيامة

- ‌فصل في حديث: "يا عباد الله احبسوا

- ‌فصل في بيان شرك من يدعو غائبا في حاجاته

- ‌فصل في دلالة ظاهر نداء المشرك غير الله

- ‌فصل في عقيدة أهل السنة في الصفات

- ‌فصل في زيارة القبور الشركية، والشفاعة

- ‌فصل في عبادة القبور

- ‌فصل في شد الرحال إلى القبور

- ‌فصل في مزاعم للملحد، وردها

- ‌فصل في النذر لغير الله

- ‌فصل في بيان الركوب إلى النصارى واتخاذهم أولياء

الفصل: ‌فصل في النذر لغير الله

‌فصل في النذر لغير الله

فصل

ثم قال العراقي: (وأما النذر لغير الله فقد صرح الشيخ تقي الدين ابن تيمية وابن القيم -وهما من أعظم من شدد فيه- بعدم جوازه، وكونه معصية، لا أنه كفر وشرك مخرج عن الإسلام، فلا يجوز الوفاء به، ولو تصدق بما نذر من ذلك على من يستحقه من الفقراء كان خيراً له عند الله، فلو كان الناذر لغير الله كافراً لما أمراه بالصدقة، لأن الصدقة لا تقبل من الكافر، بل أمراه بتجديد إسلامه) .

والجواب أن نقول: قد أجاب على هذه الشبهة شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في رده شبهات داود بن جرجيس، فقال رحمه الله:

ليس في كلام الشيخ وكلام ابن القيم ما يدل على أن النذر -الواقع من عباد القبور- لمن يدعونه ويقصدونه لحوائجهم وإغاثتهم في الشدائد- ليس بشرك، بل كلام الشيخ وابن القيم صريح في أنه نذر معصية، وإشراك بالله تعالى، فكيف يسوقه وقد عده ابن القيم من أنواع الشرك

ص: 661

الأكبر، وقرنه بالتوكل على غير الله، والعمل لغيره، والإنابة والخضوع، والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، وقد تقدم ذلك فراجع كلامه في موضعه تعرف كذب هذا العراقي على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أولي العلم من خلقه، فرحم الله امرأ نظر لنفسه قبل أن تزل قدمه، ويحال بينه وبين العمل.

وكذلك الشيخ صرح بأنه معصية، والمعصية تصدق بالشرك وغيره من الكبائر إذا أطلقت. واستدلال المعترض بأنه لم يقل: هذا النذر كفر مخرج عن الملة. فإطلاق المعصية كاف في المقصود. وأيضاً فالكفر إنما يطلق بعد قيام الحجة. وقول العراقي: (فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء وقصده لوجه الله) . ففي هذه العبارة شيئان:

الأول: استبعاده تكفير من نذر للأنبياء، وجعله ذلك دون النذر للشجرة والبقعة، مع أن الفتنة بقبور المعظمين أشد محنة من الشجر والبقاع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1، فالشرك بالأنبياء والصالحين أخوف وأعظم فتنة، كما هو معروف.

1 أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" –كتاب قصر الصلاة في السفر- باب جامع الصلاة 1/172 عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث اهـ.

وقد ورد موصولاً من غير طريق مالك. فأخرجه أحمد في "المسند" 2/246، ثنا سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم لا تجعل قبري وثناً. لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

ص: 662

والثاني: إضافة النذر لأحد الأنبياء، وقوله بعده:(وقصده لوجه الله) . فإذا كان النذر نفسه للأنبياء والصالحين بطل قوله: (وقصده لوجه الله) ، وإنما يكون ذلك نذراً لله وحده، وجعل الثواب لمن شاء من عباده. ومسألة إهداء ثواب القرب إلى الأنبياء لا يخفى ما فيها من القول بالمنع على من له أدنى ممارسة.

والقصد هنا بينا تناقض العراقي، وأن كلامه يدفع بعضه بعضاً، وقوله:(فإن ذلك لايضر بالاتفاق) كذب ظاهر، فإن قول الشيخين إنه يصرف إلى الفقراء دليل على أنه يضر إذا صدر منه لغير الله، وأنه مأمور بالتوبة، وصرف ذلك إلى الجهة المشروعة. وقد صرف النبي صلى الله عليه وسلم مال اللات في الجهاد، والمصارف الشرعية التي يستعان بها على عبادة الله وحده لا شريك له، والاستدلال بصرفها في ذلك المصرف الشرعي على أنها شرك وضلال، أوجه من الاستدلال بذلك على أن النذر للأصنام ونحوها ليس بشرك.

ص: 663

وأما قوله: (فول كان الناذر كافراً عندهما لم يأمراه بالصدقة، فإن الصدقة لا تقبل من الكافر) .

فالجواب من وجوه:

الأول: أنه إذا أقلع عن الذنب وصرف المال في مصرفه الشرعي، فهذا رجوع عما كان عليه وتوبة منه.

الثاني: أنه لا يقال بالكفر مطلقاً لكل ناذر لغير الله حتى تقوم الحجة الرسالية، وأما ما نقله عن ابن القيم فقد صرح فيه بأنه نذر معصية وإشراك.

وشبهة هذا العراقي أنه لو كان شركاً مخرجاً عن الملة لما جاز صرفه للفقراء.

فالعراقي لم يفرق بين النذر والمنذور، فكون النذر شركاً لا يمنع الانتفاع بالمنذور في الجهة الشرعية، كما تقدم من فعله صلى الله عليه وسلم بمال اللات.

الوجه الثالث: أن الذي يصرفه في المصارف الشرعية، ولاة الأمر، وأهل العلم، وليس المقصود أن يصرفه الناذر نفسه، فإن هذا لا يعتبر، بل يرد إلى المشروع قسراً، ويعامل بنقيض قصده. وكلام الشيخ وأمثاله من أهل العلم ليس حجة مستقلة، بل الحجة فيما يساق من الأدلة. وقد تقدم أن القصد هنا بيان جهله بكلام الشيخ، والكشف عن تحريف هذا العراقي لما نقله عن الشيخين، وإلا فالمرجع إلى أدلة الكتاب

ص: 664

والسنة، قال الله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270]، وقال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] فوصف خواص عباده بالوفاء والنذر، وأثنى عليهم بذلك، وفي الآية الأخرى الوعد بالإثابة والجزاء، فثبت أنه عبادة يحبها الرب ويرضاها -أي الوفاء به- وما كان كذلك فيجب إخلاصه لله، لأن صرف العبادة لغير الله شرك.

وفي حديث علي: "لعن الله من ذبح لغير الله" 1، وهذا العراقي وأمثاله من القبوريين دفعوا في صدر النصوص بشبهات وهذيان لا يصدر عمن يعقل ما يقول.

وفي آخر العبارة التي نقلها العراقي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الحكم عام في قبر نفيسة، ومن هو أكبر من نفيسة، من الصحابة، مثل قبر طلحة والزبير، وغيرهما بالبصرة، وفي سلمان وغيره بالعراق.

قلت: وفيها بيان تدليس العراقي، وأنه أسقطها ليروج قوله:(فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء والصالحين) إلى أن قال الشيخ:

(فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى الله، وأنها تكشف الضر، أو تفتح الرزق، أو تحفظ مصر، فإن هذا كافر مشرك،

1 أخرجه مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب 3/1567.

ص: 665

يجب قتله، وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائناً من كان {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56] . {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23] ، والقرآن من أوله إلى آخره، بل وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعل مع الله إلهاً آخر.

والإله من يألهه القلب عبادة واستعانة وإجلالاً وإكرماً، وخوفاً ورجاء، كما هو حال المشركين في آلهتهم. وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق ومصنوع، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم:"لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي: "يا حصين كم تعبد؟ " قال: أعبد سبعة آلهة، سنة في الأرض وواحد في السماء، قال:"فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء، قال: يا حصين فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، فلما أسلم قال:"قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي" 2 والله أعلم انتهى.

1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.

2 أخرجه الترمذي في "سننه" كتاب الدعوات 5/519 من طريق أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين

الحديث.

وقال عقبه: هذا حديث غريب.

وقد ورى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه اهـ.

وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير من هذا الطريق أيضاً، واختصر المتن 3/3.

وأخرجه أحمد في المسند 4/444 من طريق منصور عن ربعي بن حراش عن عمران بن حصين أو غيره

الحديث، وليس فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة في الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له.

وأخرجه الحاكم في هذا الطريق أيضاً، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. المستدرك 1/510.

ص: 666

قلت: فانظر إلى تصريح الشيه أن من اعتقد في مخلوق أنه باب الحوائج إلى الله -يعني واسطة في الحوائج- أو أنه يكشف الضر، أو يفتح الرزق، أو يحفظ مصر: أنه كافر مشرك، يجب قتله، وهذا بعينه معتقد عباد القبور والناذرين للموتى، المستغيثين بهم، وهو طريقة العراقي، ومذهبه الذي نصره، وقرره واستظهره، وزعم أنه لا يضر إلا إذا اعتقد الاستقلال لغير الله، كما مر عنه في غير موضع، وسيأتيك هذا القيد فيما يأتي من كلامه في مواضع متعددة.

والشيخ قد رد عليه في هذا، وأبطل هذا الشرط بقوله: وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع -وساق ما يقوله المشركون في تلبيتهم، وساق حديث حصين- وهذا لأن الآيات القرآنية دالة على تكفير هذا النوع -أعني من اتخذ

ص: 667

الشفعاء والوسائط، وقصدهم في حاجاته وملماته كما كان يفعله المشركون مع آلهتهم- فكل هذا أعمى الله بصيرة العراقي عنه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] .

قال الشيخ صنع الله الحلبي نزيل مكة: وأما كونهم جوزوا الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، فيقال: هذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان وفلان فهو لغير الله، فيكون باطلاً، وفي التنزيل:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، والحديث:"لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله" متفق عليه1. وورد: أن من حلف بغير الله فقد أشرك2. رواه الحاكم وغيره. ونحو النذر لغير الله الذبح، وفي التنزيل:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، أي إن صلاتي وذبحي لله كما به نظير قوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الآية [الكوثر:2]، وفي الحديث:"لا نذر في معصية الله "3 رواه أبو داود وغيره.

1 هكذا نسبه الشيخ صنع الله رحمه الله إلى الصحيحين. وقد أورده ابن الأثير في جامع الأصول 11/550 ونسبه إلى أبي داود 2/642 من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ونسبه أيضاً صاحب المعجم المفهرس 6/404 إلى أحمد 2/185 وأبي داود. والله تعالى أعلم.

2 تقدم الكلام عليها في الرسالة السادسة.

3 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 3/1263 عن عمران بن حصين بلفظ: "لا نذر في معصية الله"، وفي لفظ:"لا وفاء لنذر في معصيته".

وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة مرفوعاً: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين".

ص: 668

والنذر لغير الله إشراك مع الله فلا أكبر من معصيته، وفي التنزيل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3] فالنذر لغير الله كالذبح لغيره.

وقال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك: الركوع والسجود، والذبح والنذر واليمين. ومن ذكر غير اسم الله على ذبيحته فهي ميتة يحرم أكلها. ولو أشرك مع اسمه أحداً، كقوله: باسم الله ومحمد صلى الله عليه وسلم -بواو العطف، فكذا تحرم ذبيحته، وكذا لو ترك اسم الله عمداً على الذبيحة، لا تؤكل عندنا، فهي ميتة بصريح قوله جل ذكره:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، فترك المؤمن ذكر الله عمداً كذكر غيره. نعم لو قال: هذا النذر لله يذبح في مكان كذا، ويصرف على جماعة فلان، أو على رباط فلان، فلا بأس به، كما في الوقف على فلان وفلان، فإن قوله: لله، ملك له، وتصرف غلته على من عينه الواقف، وكذا هنا.

والحاصل أن النذر لغير الله فجور، فمن أين لهم الأجور؟ وكذا الذبائح، ومن قال: إن هذا النذر لفلان، وهذه الذبيحة لفلان، فهو من العصيان، ومن نذر لله ذبحاً أو غيره، وقال: يذبح بمكان كذا، ويأكله قوم جاز، والله الهادي.

ص: 669

قلت: وإذا نذر لله وجعل مصرفه على السدنة والمجاورين عند القبور فهو نذر معصية لا يجوز، ويجب صرفه في القرب الشرعية كالحجاج والمعتكفين في المساجد، وقد ذكر هذا غير واحد، والمنع منه لما فيه من الإعانة على العكوف عند القبور الذي هو من أكبر الوسائل والذرائع إلى عبادتها أو دعائها قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وفي الحديث: أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة قبل إسلامه، فلما أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذره، فقال:"هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية؟ " قال: لا، قال:"هل كان بها عيد من أعياد الجاهلية؟ " قال: لا، قال:"فأوف بنذرك" 1، ففيه المنع من عبادة الله في أماكن الشرك، وعبادة غيره للمشابهة الصورية، وإن لم تقصد فكيف بالذرائع والوسائل القريبة المفضية إلى

1 رواه أبو داود في سننه –كتاب الأيمان والنذور- 3/607 من جهة يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا. قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم".

قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 4/198: "بسند صحيح".

ص: 670

عين الشرك، ونفس المحذور الأكبر، فقف وتأمل إن كان لك بصيرة تدرك بها أسرار الشريعة. انتهى.

وأما قوله: (وأما الذبح فقد ذكره ابن القيم في المحرمات لا في المكفرات إلا إذا ذبح لما عبد من دون الله، وكذلك أهل العلم ذكروا أنه مما أهل به لغير الله ولم يكفروا صاحبه) .

فالجواب أن نقول: أما ذكره في كتاب الكبائر من الذبح لغير الله، وجعله من المحرم فنعم هو محرم قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا -إلى قوله- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151-153] . فجعل هذا محرماً، هذا عرف القرآن والسنة والشرع، والعراقي لجهله وسوء قصده، يحمل كلام أهل العلم على العرف النبطي الحادث واصطلاح العامة فقاتل الله الجهل والهوى، فما أغلظهما حجاباً بين العبد والهدى.

قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: "وأيضاً فإن قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ظاهره ما ذبح لغير الله سواء لفظ فيه به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه

ص: 671

باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه لحرم، ولو قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن" انتهى كلام الشيخ.

فأخذ هؤلاء المعترضون السطر الأخير من كلامه أو بعض السطر، وأخذ المشبه وترك المشبه به، لأن في الأول التصريح بردة من ذبح لغير الله، وأن الذبح للجن مانع آخر، لأنه مما أهل به لغير الله، وقوله في العبارة فإن:(عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة بغير الله) فتركوا هذا، وسرقوا بعض العبارة، واختلسوا منها كاختلاس الشيطان من صلاة العبد واختطافة بعضها.

وفي العبارة التصريخ بكفر من استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، خلافاً للعراقي وشيعته من عباد القبور، الصادين عن سبيل الله، المحرفين للكلم عن مواضعه، الوارثين لليهود في تحريف كلمات الله، وتبديل دينه.

وقال صاحب "الروض" من كتب الشافعية: (إذا ذبح المسلم للنبي صلى الله عليه وسلم كفر) نقله شيخنا رحمه الله وذكره غير

ص: 672

واحد من المفسرين في الكلام على قوله: (وما أهل لغير الله به) .

ونقل بعضهم عن فقهاء بخارى أنهم أفتوا بتحريم ما عقر بين يدي الملوك، تعظيماً لهم، لأنه مما أهل لغير الله به.

قال العلامة الشوكاني: قال بعض أهل العلم: إن إراقة دماء الأنعام عبادة، لأنها إما هدي، أو أضحية، أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع، لأنه مكسب حلال، فإنه عبادة، ويتحصل من ذلك شكل وضعي هو إراقة دم الأنعام عبادة، وكل عبادة لا تكون إلا لله، فإراقة دم الأنعام لا تكون إلا لله، ودليل الكبرى قوله تعالى:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] . {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] انتهى.

ويكفي المؤمن في هذا الباب قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1-2]، وقال تعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:

ص: 673

37] فإن الإحسان أعلى مراتب الإيمان، ودخول هذه العبادة فيه لأن السياق لها ظاهر لا يخفى.

وفي المسند عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ما عندي شيء أقربه، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار، فقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد دون الله عز وجل، فضربوا عنقه، فدخل الجنة"1.

1 كذا نسب الإمام العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى هذا الحديث إلى المسند. وقد عزا هذا الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إلى الإمام أحمد، ولم ينسبه إلى "المسند" أو غيره. قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهم الله في التيسير ص 194: هذا الحديث ذكره المصنف معزواً لأحمد، وأظنه تبع ابن القيم في عزوه لأحمد.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاية، حدثنا الأعمش، عن سليمان بن ميسرة، عن طارق بن شهاب يرفعه، قال:"دخل رجل الجنة في ذباب" الحديث.

وقد طالعت "المسند" فما رأيته فيه، فلعل الإمام أحمد رواه في "كتاب الزهد" أو غيره اهـ.

قلت: هو في "الزهد" للإمام أحمد ص 15-16 عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي –موقوفاً-.

وكذا رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/203 من هذا الطريق. ثم قال: رواه جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن حيان بن مرثد عن سلمان

نحوه.

ص: 674

وقف عند هذا، وتأمل حكمة الشريعة وسرها في إخلاص العبادة والتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، ولو بأحقر شيء، كالذباب، فكيف بكرائم الأموال، والله المستعان. انتهى.

ثم إن من العجب استدلال هذا الملحد بكلام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا الموضع وفي غيره مما تقدم.

وهذا الملحد قد ذكر فيما تقدم من قوله: (والوهابية قد خبطت كل الخبط في تنزيهه تعالى، وحيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه، فجعلته ماسكاً بالسموات على أصبع، والأرض على أصبع والشجر على أصبع، والملك على أصبع، ثم أثبتت له الجهة، فقالت: هو فوق السموات، ثابت على العرش، يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، وينزل إلى السماء الدنيا ويصعد) .

وقد علمت أن نفي هذا وجحده هو مذهب الجهمية، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

ص: 675

ولقد تقلد كفرهم خمسون في

عشر من العلماء في البدان

واللالكائي الإمام حكاه عنهم

بل قد حكاه قبله الطبراني

فذكر رحمه الله كفرهم عن خمسمائة عالم.

وقال شيخ الإسلام لما ذكر أهل الأهواء: قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فطائفة هذا الملحد عن شيخ الإسلام وابن القيم، هم من أكفر خلق الله، وأبعدهم عن سواء السبيل.

قال ابن القيم رحمه الله في "الجواب الشافي":

الشرك شركان، شرك يتعلق بذات المعبود، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، والشرك الأول نوعان:

أحدهما شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال:(وما رب العالمين)، وقال تعالى مخبراً عنه:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] فالشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل

ص: 676

معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته، ولكن عطل حق التوحيد.

وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها: هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام:

تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه. وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله. وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.

والمقصود أن هذا العراقي اجتمع فيه من الكفر تعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس، بتعطيل أسمائه وصفاته، فزعم أن الله تعالى ليس على السموات على عرشه، ولا هو فوقه، ولا يشار إليه إلى فوق، بل زعم أن ما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء، وأن السماء مظهر قدرته، وأنكر عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء حين أسري به، فقال:(وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع بتقرب إليه بالطاعات) وأنكر رؤية الله تعالى في الآخرة، وأنكر أحاديث النزول، وذكر أن من قال إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل آخر ليلة، فقد زعم أن الله جسم، وأن الله منزه عن ذلك، فعطل الله من أوصافه وأفعاله المقدسة، وأضاف إلى هذا الكفر الشرك في معاملته سبحانه

ص: 677

بإجازته الاستغاثة بغير الله، والاستشفاع به، والإلتجاء إليه، وأن النذر والذبح لغير الله ليس بشرك إذا اعتقد أن الله هو الخالق المنفرد بالإيجاد، وأنه هو المؤثر لا غيره، ومع هذا كله يستدل بكلام شيخ الإسلام وابن القيم، وهما يكفرانه، وهو يعلم ذلك، ولكنه أراد التلبيس على خفافيش الأبصار أن شيخ الإسلام وابن القيم لا يكفران من نذر لغير الله، أو ذبح لغير الله.

والمقصود بيان ضلاله، وخروجه عن الصراط المستقيم، واتباعه غير سبيل المؤمنين، وأنه ممن نكب عن الصراط المستقيم، ودخل في جملة أصحاب الجحيم.

ص: 678