الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في حديث الضرير
…
فصل
قال العراقي: (ومنها: ما رواه الترمذي، والنسائي، والبيهقي، والطبراني بإسناد صحيح، عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير لك". قال: فادعه. فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء:"اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي، اللهم فشفعه فيّ" فعاد وقد أبصر.
وخرج هذا الحديث البخاري أيضاً في "تاريخه" وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك" بإسناد صحيح. وذكره الجلال السيوطي في "الجامع الكبير والصغير".
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الضرير أن يناديه، ويتوسل به إلى الله في قضاء حاجته.
قد تقول الوهابية: إن هذا إنما كان في حياة
النبي صلى الله عليه وسلم، فليس يدل على جواز التوسل به بعد موته.
فنجيب: أن الدعاء هذا قد استعمله الصحابة والتابعون -أيضاً- بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لقضاء حوائجهم، يدل عليه ما رواه الطبراني والبيهقي أن رجلاً كان يختلف على عثمان رضي الله عنه زمن خلافته في حاجة -ولم يكن ينظر في حاجته- فشكى الرجل ذلك لعثمان بن حنيف، فقال له: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد، فصل، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل، فصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان رضي الله عنه فجاءه البواب، فأخذ بيده، وأدخله على عثمان، فأجلسه معه، وقال: اذكر حاجتك. فذكر حاجته، فقضاها، ثم قال له: ما كان لك من حاجة فاذكرها، فلما خرج الرجل من عنده لقي ابن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي حتى كلمته لي، فقال ابن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره
…
الحديث. فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، على أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبرة، فليست درجته دون درجة الشهداء، الذي صرح الله تعالى بأنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ) .
والجواب أن يقال: هذا الحديث -عني حديث الأعمى- غير محفوظ، وفيه مقال مشهور، وفي سنده أبو جعفر عيسى بن أبي عيسى بن ماهان الرازي التميمي، قال الحافظ ابن حجر في التقريب: الأكثرون على ضعفه، وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن المديني: ثقة كان يخلط، وقال مرة: يكتب حديثه، إلا أنه يخطىء، وقال الفلاس: سيئ الحفظ، وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير، وقال أبو زرعة: يهم كثيراً، وقال الحافظ في "التقريب" أيضاً في ترجمة الرازي التميمي: أبو جعفر الرازي التميمي مولاهم مشهور بكنيته، واسمه عيسى بن أبي عيسى، عبد الله بن ماهان، وأصله من مرو، وكان يتجر إلى الري، صدوق سيئ الحفظ خصوصاً عن مغيرة، من كبار السابعة مات في حدود الستين. انتهى1.
1 تابع الشيخ بعض الحفاظ -كالترمذي- في أن أبا جعفر هذا هو الخطمي. وليس الأمر كذلك -كما حققه شيخ الإسلام في "قاعدة التوسل" فإن أبا جعفر هذا هو المدني الثقة.
فالحديث صحيح، ولكن لا دلالة فيه للمشركين القبوريين -عليهم لعائن الله- كما قرر ذلك الشيخ المؤلف رحمه الله.
وأما القصة التي ذكرها -المردود عليه- ونسبها إلى الطبراني والبيهقي، فهي ضعيفة منكرة، لا تصح سنداً ولا متناً. وقد تقدم بسط ذلك في التعليق على الرسالة السابعة من هذه السلسلة "الصواعق المرسلة الشهابية" ص 171-172-173-174.
وعلى تقدير صحته وثبوته، فلا يدل على ما توهمه هذا الملحد، وبيان معنى الحديث يعلم أن ما توهمه هؤلاء الغلاة غير صحيح.
فقوله: "اللهم إني أسألك" أي أطلب منك، وأتوجه إليك، بنبيك محمد، صرح باسمه مع ورود النهي عن ذلك تواضعاً منه، لكون التعليم من قبله، وفي ذلك قصر السؤال الذي هو أصل الدعاء إلى الله تعالى الملك المتعال؛ ولكنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بدعائه، ولذا قال في آخره:"اللهم فشفعه فيّ" إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعاً، ولو كان المراد التوسل بذاته فقط لم يكن لذلك التعقيب معنى، إذ التوسل بقوله:"بنبيك" كافٍ في إفادة هذا المعنى، فقوله:"يا محمد إني توجهت بك إلى ربي".
قال الطيبي: الباء في "بك" للاستعانة. وقوله: "إني توجهت بك" بعد قوله: "أتوجه إليك" فيه معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} [البقرة: 255] فيكون خطاباً لحاضر معاين في قلبه، مرتبط بما توجه به عند ربه، من سؤال نبيه بدعائه، الذي هو عين شفاعته، ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية، المفيد كل ذلك: أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه في دعائه، فكأنه استحضره وقت ندائه. انتهى.
وقال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم": والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره.
وكذلك حديث "الأعمى" فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعته بنبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن قوله:"أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي بدعائه وبشفاعته، كما قال عمر رضي الله عنه: كنا نتوسل إليك بنبينا، فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال:"يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في" فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه. وقوله: "يا محمد يا نبي الله" هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب، فيخاطب المشهود في القلب، كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً، يخاطب من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن الخارج من يسمع الخطاب.
فلفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة: يراد به التسبب به، لكونه داعياً وشافعاً مثلاً، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، فيكون
التسبب إما بمحبة السائل له، واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته.
ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا منه، ولا من السائل، بل بذاته، أو بمجرد الإقسام به على الله فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه، وكذلك السؤال بالشيء، قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام
…
إلى آخر ما قال رحمه الله.
إذا عرفت هذا فليس في حديث "الأعمى" ما يدل على التوسل به ودعائه، والالتجاء إليه بعد وفاته، وإنما فيه توسل بدعائه، كما كان الصحابة يتوسلون بذلك، ويسألونه الاستغفار والدعاء.
وأما قوله: (وقد تقول الوهابية إن هذا إنما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم الخ.
فنقول: نعم.
وقوله: (فنجيب: أن الدعاء هذا قد استعمله الصحابة والتابعون -أيضاً- بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقضاء حوائجهم) .
فنقول: قد علمنا انك أجبت كما أجاب من قبلك، ولكن "بجهام1 قد أهريق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ولا ماء فيه".
وأما قوله: (يدل عليه ما رواه الطبراني، والبيهقي، أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان
…
) وساق الحديث كما تقدم.
والجواب: عما أجاب به: أن هذا الحديث لا يصح، وفي سنده "روح بن صلاح" وقد ضعفه ابن عدي، بل قد قال بعضهم: إن أمارات الوضع لائحة عليه. فكيف يعارض به جميع كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وهل سمعت أحداً منهم جاء إليه بعد وفاته إلى قبره الشريف، فطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؟ وهم حريصون على مثل هذه المثوبات، لا سيما والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، تتشبث بكل ما تقدر عليه، فلو صح عند أحد منهم أدنى شيء من ذلك لرأيت أصحابه ينتابون قبره الشريف في حوائجهم زمراً زمراً، ومثل ذلك تتوفر الدواعي على نقله. ولا وسع الله طريقاً لم يتسع للصحابة، والتابعين، وصلحاء علماء الدين، نعم كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي إلى
1 يعني السحاب المتجهم.
القبر المكرم ويقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. وكذلك أنس وغيره، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة1.
ثم اعلم أن هذا الحديث مخالف لعلم الصحابة رضي الله عنهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد".
وأما دعوى هؤلاء الغلاة أن الصحابة استعملوا هذا الدعاء بعد وفاته، فإن هذا ما يعلم بالضرورة أنه من الكذب على الصحابة رضي الله عنهم] . ولو كان هذا الاستعمال صحيحاً لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، ولما عدل الفاروق إلى التوسل بدعاء العباس، ومعاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، ولكان يمكنهم لو كان هذا الحديث صحيحاً معروفاً عندهم أن يتوسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يطلبون من العباس أن يدعو لهم.
ومما يوضح لك الأمر وأن هذا الحديث غير صحيح: أن رواته مختلفون في متنه وسنده، مع أنه لم
1 وليس ذلك مرتبطاً بمكان القبر ولا بزيارته كما هو معلوم عند أهل السنة، وإنما هو أنهم لا يتوجهون عند الدعاء إلى القبر، بل ولا يدعون عنده أيضاً، وهذا متواتر معروف عن السلف الصالح أنهم لا يفعلونه.
يذكر في شيء من الكتب المعتمدة، وإنما ذكره مثل "البيهقي" و"الطبراني" و"الترمذي" و"أبي نعيم" وهؤلاء يذكرون مثل هذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على وجه التنبيه، وقد رأى علماء الإسلام الجهابذة النقاد ظلمات الوضع لائحة عليه، فأعرضوا عنه، ولم يلتفتوا إليه. والله أعلم.
وأما قوله: (فليست درجته دون درجة الشهداء الذين صرح الله تعالى أنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] .
فأقول: بل درجته فوق درجة الشهداء وأكمل حالاً، وما نال الشهداء تلك المنزلة إلا بالإيمان به، وتصديقه، والجهاد معه وفي سبيله، فله أجره وأجورهم وأجر من آمن به إلى يوم القيامة، ولكنهم كما قال الله تعالى:{عِنْدَ رَبِّهِمْ} فهو أعلى منهم درجة ووسيلة، وأقربهم إليه منزلة، وإذا كان لا يدعى، ولا يتوسل به بعد وفاته، فهم من باب الأولى والأحرى.