الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في زيارة القبور الشركية، والشفاعة
…
فصل
قال الملحد: (لا يخفى على البصير أن زائر القبور يقصد بزيارتها، إما الاستشفاع والتوسل إلى الله بأصحابها، والتبرك بهم، كما في زيارة قبور الأنبياء والأولياء، وإما الاعتبار بالقوم الماضين، تمكيناً للخضوع من قلبه، ونيلاً للأجر بقراءة الفاتحة، والدعاء لهم بالمغفرة، كما في زيارة قبور المسلمين، أو يقصد تذكر من مات من ذويه الأقربين، وأحبائه الراحلين، وأعزته الذين غالتهم يد المنون، فأسكنتهم القبور بعد القصور، فذهبوا عنه ذهاباً ليس وراءه إياب، وغادروه كئيباً يندب الأسى، ولسان حاله يقول:
ألا يا راحلاً عنا مجداً
…
على مهل فديتك من مجد
فلا تعجل وسر سير الهوينا
…
لأنك راحل من غير عود
وتدفعه إحساساته إلى زيارة قبورهم، فيقف على
دوارس أجداثهم، حزيناً يسكب على ترابها عبرات الأسف، ولسان حاله ينشد:
ذهب الذين أحبهم
…
وبقيت مثل السيف فردا
كم من أخ لي صالح
…
بوءته بيدي لحدا
وليس في كل هذا ما يستلزم تكفير المسلم، الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، ولا أظن أن الجاهل الغر من الناس، فضلاً عن العالم المتشرع، تدفعه جهالته أن يقصد بزيارة القبر عبادته، وأن يعتقد كونه يقضي حاجته، فيخلق له ما يريد) .
والجواب أن يقال: لا يخفى على البصير أن زائر القبور الذي يقصدر بزيارتها الاستشفاع والتوسل إلى الله بأصحابها، والتبرك بهم، كما في زيارة قبور الأنبياء والأولياء، أنها هي الزيارة الشركية، التي ذكرها العلماء، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان".
وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ من عباد الأصنام، قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب، ومنزلة، ومزية عند الله تعالى، لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى، ويفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به،
وأدناه منه، فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء، ونحوه على الجسم المقابل له.
قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم، كان أقرب إلى انتفاعه، وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية، فاض عليها منها النور، وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنف لها الدعوات، واتخذ الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله، ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقة، وناقضوه في قصده، وكان صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله تعالى.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه
المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه، صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه من نصيب، مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاة وحظوة، وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق بحسب تعلقه به، فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذين بعث الله رسله، وأنزل كتبه، بإبطاله، وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار.
والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم، قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر:43-44] ، فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده، فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره، بعد شفاعته سبحانه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده، وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها سبحانه في كتابه بقول: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا
شَفَاعَةٌ} [البقرة:123]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، وقال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51] . وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4] .
فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه، كما قال تعالى:{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3] . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِه} [البقرة: 255] .
فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيعاً من دونه، بل شفيع بإذنه، والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك، فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع، ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة: أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد، وأخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه، قال تعالى:
{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 8]، وقال:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه:109] فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاه قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله:(فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه) فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل، والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لايسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولايفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم، وأمرهم، ولا سيما {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} [الانفطار:19] فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له، ويمتنع عليه، فإن هذا ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج.
وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي.
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب [والمربوب، والسيد] 1 والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره.
فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم. فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، [الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم] 2 ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها، ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضا.
فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وكل من في السموات والأرض عبيد له، مقهورون بقهره، مصرفون بمشيئته، لو أهلكهم جميعاً لم
1 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان" لابن القيم 1/221.
2 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان"، وفي النسخ:"الذي قيام الملك والكبراء بهم".
ينقص من عزه وسلطانه، وملكه وربوبيته وآلهيته مثقال ذرة -وذكر آيات في المعنى- ثم قال:
فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية، التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنه هي المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنه لا تنفع إلا بعد إذنه
…
إلى أن قال:
فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه، ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه، الذي يتقرب إليه، ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه: هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه. وذكر الآيات في ذلك، وذكر كلاماً حسناً، تركناه لطلب الاختصار.
وأما قوله: (وأما الاعتبار بالقوم الماضين
…
) إلى آخره.
فأقول: قد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى الزيارة الشرعية -وليس لنا أن نتقدم بين يديه، لأنه قد جاء بما يكفي ويشفي، وهو من أئمة المسلمين والعلماء
المجتهدين- قال رحمه الله تعالى بعد ذكر المفاسد العظيمة باتخاذ القبور أعياداً:
ومنها أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له1، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسناً إلى نفسه، وإلى الميت. فقلب المشركون هذا الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه، والدعاء به، وسؤالهم حوائجهم، واستنزال البركات منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى نفوسهم، وإلى الميت، ولو لم يكن إلا [بحرمانه بركة] 2 ما شرعه الله من الدعاء له، والترجم عليه، والاستغفار له.
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان، التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك، التي شرعها لهم الشيطان، واختر لنفسك.
قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول:
1 "له" زيادة من "إغاثة اللهفان 1/198.
2 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان" لابن القيم 1/199. وفي ط الرياض: "إلا مجرد ما به تركه" وفي الأصل: "إلا مجرد ما به ترك".
"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" رواه مسلم1.
وفي صحيحه عنها -أيضاً- أن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"2.
وفي صحيحه أيضاً عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام على أهل الديار" وفي لفظ: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"3.
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم
1 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/40-41 "نووي".
2 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/44 "نووي".
3 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/45 "نووي". ولفظه: "وإنا إن شاء الله للاحقون. أسأل الله لنا ولكم العافية".
عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجراً" 1 رواه أحمد والنسائي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سداً للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجراً، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله، فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولاً وفعلاً.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكركم الموت" 2، ثم ذكر أحاديث نحواً مما تقدم، ثم قال:
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟
وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، ولكن كلما
1 أخرجه النسائي في سننه 4/89 عن بريدة. وأحمد في المسند 5/350 و355 و356 و359 و361.
وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الجنائز- عن بريدة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 2/672.
2 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/46 "نووي".
ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الدعاء1، استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا.
فقال سلمة بن وردان: رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو.
ونص على ذلك الأمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.
وفي الترمذي وغيره مرفوعاً " الدعاء هو العبادة". [فجرد السلف العبادة لله] .
ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم [من] 2 السلام على أصحابها، والاستغفار لهم، والترحم عليهم.
وبالجملة: فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له، ويشفع له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من
1 الميت لا يدعى به ولا عنده، ولا يتحرى قبره ليدعو عنده. وانظر ها هنا (608) .
2 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان" 1/201.
الدعاء له، وجوباً أو استحباباً، ما لم يشرع مثله من الدعاء للحي.
قال عوف بن مالك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر" -أو من عذاب النار- حتى تمنيت أن أكون أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت1 رواه مسلم. وذكر أحاديث نحو هذا، ثم قال:
فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له، والاستغفار له، والشفاعة فيه.
ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة منه على نعشه، فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على القبر بعد الدفن، فيقول:"سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل"2.
1 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/31 "نووي" وفي لفظ له: "
…
وقه فتنة القبر وعذاب النار".
2 أخرجه أبو داود 3/550 عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن، فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعو به، ونشفع له، لا نستشفع له فبعد الدفن أولى وأحرى.
فبدل أهل البدع والشرك قولاً غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت، وإحساناً إلى الزائر، وتذكيراً بالآخرة: سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوعه أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار.
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم، أو الدعاء عندهم، مشروعاً وعملاً صالحاً، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرزقه الخلوف الذي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعاً وعشرين سنة، حتى توفاه الله تعالى، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن بشراً على وجه الأرض أن يأتي عنهم بنقل صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها،
وتمسحوا بها، فضلاً أن يصلوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم. فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك، [بلى] 1 يمكنهم أن يأتوا على الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين، ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك. [بلى] 2 فيها من خلاف ذلك كثير، كما قدمناه من الأحاديث. وأما آثار الصحابة فأكثر من أنا يحاط بها- ثم ذكر رحمه الله قصة الرجل الذي وجد في بيت مال الهرمزان، ثم قال:
ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره، لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده، والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً من لا يداني هذا ولا يقاربه، وأقاموا له سدنة، وجعلوا معابد أعظم من المساجد، فلوا كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها، والتبرك بها، فضيلة أو سنة، أو مباحاً: لنصب المهاجرون والأنصار لهذا القبر علماً لذلك، ودعوا عنده،
1 "بلى" من "إغاثة اللهفان، وفي النسخ: "بل".
2 "بلى" من "إغاثة اللهفان، وفي النسخ: "بل".
وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله، ودينه، من الخلوف التي خلفت بعدهم.
وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا عنده، ولا استسقى به، ولا استنصر به. ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه، وحينئذ فلا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير ذلك البقعة، أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف حفي علماً وعملاً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علماً وعملاً، ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه كراهة ما، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه، هذا محال طبعاً وشرعاً، فتعين القسم الثاني، وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد، ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله
البتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله، ولم ينزل بها سلطاناً
…
إلى آخر الفصل.
فهذا كلامه رحمه الله في الدعاء عندها، والدعاء بأربابها فكيف بدعائهم، وطلب الحوائج منهم، والاستغاثة بهم؟ كما تقدم في أول كلامه.