المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في تأويل الملحد للإشارة والمعراج - الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق

[سليمان بن سحمان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌فصل في منشأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌فصل في طلب الشيخ رحمه الله للعلم ومبدأ دعوته

- ‌فصل في حال الناس في نجد وغيرها قبل دعوة الشيخ

- ‌فصل في حقيقة دعوة الشيخ وأنها سلفية

- ‌فصل في نقض تعيير الملحد بسكنى بلاد مسيلمة

- ‌فصل في فرية الملحد على الشيخ بأنه يطمح للنبوة

- ‌فصل في رد فرية بأنهم خوارج

- ‌فصل في رد فرية الملحد في تنقص الأنبياء والصالحين

- ‌فصل في رد فرية الملحد على كتاب (كشف الشبهات)

- ‌فصل في كيد الدولة التركية المصرية ورد الله له

- ‌فصل في مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في بيان أن دعوة الشيخ ليس فيها من مقالات الخوارج شيء

- ‌فصل في ذكر بعض مفتريات الملحد

- ‌فصل في الدولة السعودية القائمة الآن

- ‌فصل في كيد الدولة العثمانية

- ‌فصل في فرية الملحد أن الشيخ يريد النبوة

- ‌فصل في بيان جهمية الملحد وسنية الشيخ

- ‌فصل في مدح الملحد للعقل وذمه لأهل السنة

- ‌فصل في مفتريات الملحد، وردها

- ‌فصل في زعم الملحد أن إثبات الصفات تجسيم

- ‌فصل في بيان كلام الملحد في الجسم، وزيغه

- ‌فصل في إثبا الصفات وأنه لا يقتضي التجسيم

- ‌فصل في الإشارة إلى السماء، وإنكار الملحد ذلك

- ‌فصل في إنكار الملحد للنزول

- ‌فصل في تأويل الملحد للإشارة والمعراج

- ‌فصل في تأليه الملحد للعقل، وزعمه أن النقل يؤدي إلى الضلال

- ‌فصل في زعم الملحد تقديم العقل لأنه الأصل

- ‌فصل في فرية الملحد عليهم بنفي الإجماع

- ‌فصل في فرية الملحد عليهم بإنكارهم القياس

- ‌فصل في فرية الملحد بتكفير المقلدين

- ‌فصل في حكم أهل الأهواء

- ‌فصل في تناقض العراقي وكلامه في الجهمية

- ‌فصل في حكم التوسل والإستغاثة والزيارة والشرك

- ‌فصل في بيان جهل الملحد بمعنى العبادة

- ‌فصل في أنواع الشرك، وجهل الملحد بها

- ‌فصل في بيان سبب شرك الجاهلية

- ‌فصل في بيان أن الإستغاثة من الدعاء

- ‌فصل في التوسل

- ‌فصل في الإستغاثة الشركية

- ‌فصل في الإستغاثة بالأنبياء

- ‌فصل في آية: {وأبتغوا إليه الوسيلة}

- ‌فصل في آية: {أيهم أقرب}

- ‌فصل في آية: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك}

- ‌فصل في آية: {فاستغاثه الذي من شيعته}

- ‌فصل في آية: {لا يملكون الشفاعة}

- ‌فصل في حديث: "أسألك بحق السائلين

- ‌فصل في حديث: "أغفر لأمي فاطمة بحق نبيك

- ‌فصل في حديث الضرير

- ‌فصل في المنام والإستسقاء

- ‌فصل في إستسقاء عمر بالعباس

- ‌فصل في الفرق بين الحي والميت في التوسل

- ‌فصل في حقيقة غلو الناس في الصالحين وغيرهم

- ‌فصل في الإستغاثة وقصة هاجر

- ‌فصل الإستغاثة وشفاعة القيامة

- ‌فصل في حديث: "يا عباد الله احبسوا

- ‌فصل في بيان شرك من يدعو غائبا في حاجاته

- ‌فصل في دلالة ظاهر نداء المشرك غير الله

- ‌فصل في عقيدة أهل السنة في الصفات

- ‌فصل في زيارة القبور الشركية، والشفاعة

- ‌فصل في عبادة القبور

- ‌فصل في شد الرحال إلى القبور

- ‌فصل في مزاعم للملحد، وردها

- ‌فصل في النذر لغير الله

- ‌فصل في بيان الركوب إلى النصارى واتخاذهم أولياء

الفصل: ‌فصل في تأويل الملحد للإشارة والمعراج

‌فصل في تأويل الملحد للإشارة والمعراج

فصل

قال العراقي: (وأما ما تمسكت به الوهابية من النقول التي تثبت الإشارة إليه تعالى فهي ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، فتؤول إما إجمالاً، ويفوض تفصيلها إلى الله كما عليه أكثر السلف، وإما تفصيلاً كما هو رأي الأكثرين، فما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء، وأن السماء مظهر قدرته لما اشتملت عليه من العوالم العظيمة التي لم تكن أرضنا الحقيرة إلا ذرة بالنسبة إليها، وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه، إلى غير ذلك من التأويلات) .

فالجواب أن نقول: قد كان من المعلوم أن طريقة الوهابية التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وأقواله سلف الأمة وأئمتها، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ولا يعتقدون صواب ما ذهب إليه المتكلمون من تأويل آيات الصفات وأحاديثها، حيث

ص: 297

قالوا إن نصوص الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، وما أشبه ذلك من التمويهات. وهذا الضرب من الناس هم الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وإذا كان أدلة الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض العقليات اليقينية فهلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الدهر أو أحد من سلف الأمة: إن هذه الآيات والأحاديث ظواهر ظنية، فلا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه عقولكم ومقاييسكم، أو أولوها بكذا وكذا فإنه الحق، وما خالفه ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، لأن العقل مقدم على النقل إذ هو أصله؟!

ثم كيف يجوز أن يقال في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل، وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قدم رأيه على نص الرسول صلى الله عليه وسلم في أنباء الغيب، وما أخبر به عن ربه، وما وصف به من صفات كماله ونعوت جلاله، بمجرد رأيه بدون الاستهداء بهدي الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره، وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه الأكثرون من الاضطراب، ففي الجملة النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول قط، ولا يعارضها إلا ما فيه

ص: 298

اشتباه واضطراب، وما علم أنه حق لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق، بل نقول قولاً عاماً كلياً: إن النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات مبناها على معان متشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبة سوفسطية لا براهين عقلية.

ثم كيف تكون أدلة كتاب الله وسنة رسوله ظواهر ظنية، وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي1 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن" قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس2 به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبة، ولا يشبع منه العلماء ". وفي رواية: "ولا تختلف به الآراء، هو

1 في جميع النسخ: "عن عمار"، والصواب: أن الحديث من مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

2 في ط: المنار والرياض: "تلبس".

ص: 299

الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} ، ومن قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" 1.

1 أخرجه الترمذي في سننه –أبواب ثواب القرآن- باب ما جاء في فضل القرآن 8/112-113 ط استانبول. من طريق حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أبي الحارث الأعور عن الحارث

عن علي

به.

وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وإسناده مجهول. وفي الحارث مقال اهـ.

قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن: لم ينفرد به حمزة الزيات، فقد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب عن الحارث، فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيفاً الحديث فإنه إمام في القرآءة.

والحديث مشهور من رواية الحارث وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه. وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روي له شاهد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.

وذكر ابن الأثير في جامع الأصول عن عمر بن الخطاب قال: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنها ستكون فتن. قال: "فما المخرج منها يا جبريل"، قال

فذكره نحوه. قال ابن الأثير: أخرجه رزين. اهـ.

قال الشيخ الإمام محدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى: هذا حديث جميل المعنى، ولكن إسناده ضعيف، فيه الحارث الأعور، وهو لين، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب، ولعل أصله موقوف على علي رضي الله عنه فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم اهـ من تعليقه على الطحاوية.

ص: 300

وهذا الملحد يقول: إن لأدلة الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، واليقينيات عنده نحاتة أفكار الفلاسفة، وفروخ اليونان، وورثة المجوس، وزبالة أذهانهم.

فالحمد لله الذي أخذ بنواصي الوهابية فلم يسكلوا طريقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، بل سلك بهم طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة وأئمتها، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه.

قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان": ومن حيله ومكايده الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي تقذف به القلوب المظلمة المتحيرة التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}

ص: 301

[الأنعام: 112] ، فقد اتخذوا لأجله ذلك القرآن مهجوراً، وقالوا من عند أنفسهم منكراً من القول وزوراً، فهم في شكهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال فهم إليه محاكمون، وبه مخاصمون، فارقوا الدليل {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .

ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن لكلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية، والبراهين اليقينية، في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فحال بينهم وبين اقتباس الهدي واليقين من مشكاة القرآن، وأحالهم على منطق يونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العرية عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان، ومرت عليها القرون والأزمان، فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان كما أخرج الشعرة من العجين. انتهى1.

1 1/187-188 ط المكتب الإسلامي.

ص: 302

وأما قوله: (فتؤول إما إجمالاً ويفوض تفصيلها إلى الله تعالى كما عليه أكثر السلف) .

فالجواب أن نقول: قد أجاب عن هذا الكلام شيخ الإسلام قدس الله روحه، فقال:

ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن تسطيره في هذه الفتوى وأضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السابقين، كما يقوله بعض الأغبياء ممن لا يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها: من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم.

فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف، إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] .

وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المعروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات.

ص: 303

فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالات التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.

وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع التكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بيّنات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه.

فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين، وكانت النتيجة استجهال السابقين، واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين بمنزلة الصالحين العامة، لم يتجردوا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله –إلى أن قال-:

ص: 304

ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة له خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين والمهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف، وبواطن الحقائق، وبما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة؟

ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن. –وذكر كلاماً طويلاً- إلى أن قال:

فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون

ص: 305

للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً فكيف يجوز على الله ثم على رسوله، ثم على خير الأمة، أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً، حتى يجيء أنباط فارس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو فاضل أن يعتقدها؟ لئن كان1 ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين، فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً من الكتاب، ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة،

1 في جميع النسخ: (لأن كل) ، والتصويب من الفتوى الحموية لابن تيمية رحمه الله تعالى.

ص: 306

أو لم يكن موجوداً، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به.

ثم هم ههنا فريقان أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه، ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع الاختلاف على وجه الأرض فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا أو يثبته ما لم تدركه عقولكم على طريقة أكثرهم فاعلموا أني امتحنتكم بتنزيله1 لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، وأن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله مع نفي دلالته على شيء من الصفات. هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين

إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

وقال أيضاً في "موافقة العقل الصحيح للنقل الصريح": وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على أصل فاسد: وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة التي جعلوها أصول دينهم،

1 في النسخ: أني أمتحنكم لا لتعلموا بتنزيله ولا لتأخذوا الهدي منه والمثبت من الحموية.

ص: 307

وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، كما جعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله، ونفوا بها رؤيته في الآخرة، وعلوه على خلقه، وكون القرآن كلامه، ونحو ذلك، جعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مؤولاً أو مردوداً، أو غير ملتفت إليه، ولا متلقى للهدى منه، فتجدهم يقولون: ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا له كم ولا كيف، ولا تحله الأعراض والحوادث، ونحو ذلك، وليس بمباين للعالم، ولا خارج عنه

إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

وسيأتي الكلام على مسألة التفويض وبطلان قول من زعم أن هذه طريقة السلف.

وبما ذكرناه هنا من كلام أهل العلم يتبين لكل منصف بطلان تأويل هذا الملحد بقوله: (فما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء، أو أن السماء مظهر قدرته، لما اشتملت عليه من العوالم العظيمة التي لم تكنأرضنا الحقيرة إلا ذرة بالنسبة إليها، وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه) . إلى غير ذلك من

ص: 308

التأويلات، وأنه بهذا قد خرج عن سبيل المؤمنين، وانتحل طريقة المتكلمين، الذين ليس لهم قدم صدق في العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ثم من العجب أنه يدعي تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرمي الوهابية المعظمين له في الحقيقة بالتنقص للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهضمه أعظم الهضم، وأشد التنقص: بزعمه أنه لم يعرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى1 الله بذاته إلى أن2 وصل فوق السماء السابعة، ورأى من آيات ربه الكبرى ما رأى، وأنه ما زاغ منه البصر وما طغى، لكماله عليه الصلاة والسلام، فلله الحمد على ما من به من الإيمان بالله، وبما أخبر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بالله وبنعوت جلاله وعظمته.

1 في ط الرياض: "إلى أن الله".

2 سقطت: "أن" من ط الرياض.

ص: 309