الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في آية: {وأبتغوا إليه الوسيلة}
…
فصل
قال العراقي: (لنا على جواز التوسل والاستغاثة دلائل: منها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] قال ابن عباس: إن الوسيلة كل ما يتقرب به إلى الله تعالى. والوهابية جعلت الوسلية خاصة بالأفعال، وهو تحكم. بل ظاهر الآية تخصيصها بالذوات، فإنه تعالى قال في هذه الآية {اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 35] والتقوى عبارة عن فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، فإذا فسرنا الوسيلة بالأعمال كان الأمر بابتغاء الوسيلة إليه تأكيداً للأمر بالتقوى بخلاف ما إذا أريد بها الذوات، فإن الأمر حينئذ يكون تأسيساً، وهو خير من التأكيد) .
والجواب أن نقول: قد استدل بهذه الآية طاغية العراق داود بن جرجيس على نحو مما ذكره هذا، إلا أن هذا أسقط من جواب داود نسبة الكلام إلى البغوي، وهذا
لم يذكره عنه. وأجابه على ذلك شيخنا الشيخ عبد اللطيف فقال:
والجواب أن يقال: الله أكبر على هؤلاء الضلال الكاذبين على الله وعلى رسله، المبدلين لدينه، المحرفين للكلم عن مواضعه، وهذا الكلام الذي ذكره العراقي جمع فيه من التحريف والإلحاد والكذب والقول في كتاب الله برأيه، ما سيمر بك بيانه مفصلاً، وفي الحديث "من قال في القرآن برأيه –وفي رواية بما لا يعلم- فليتبوأ مقعده من النار" 1 وقد تكلم الحافظ ابن كثير على قوله
1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 1/233-269، وأبو داود فيما نسب إليه المزي في "تحفة الأشراف" 4/423 –ولعله في غير رواية الؤلؤي فإني لم أجده فيها، وهي المتداولة بين الناس- والترمذي 5/199، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" 4/423، والطبري في "تفسيره 1/34، والبغوي في "شرح السنة" 1/257-258، جميعهم من طريق عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
…
به.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" على هذا الحديث 1/147: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عبد الأعلى بن عامر والأكثر على تضعيفه اهـ. وقد ضعفه أحمد وأبو زرعة وابن سعد وقال النسائي: ليس بالقوي يكتب حديثه، وقال ابن معين: ليس بذاك القوي. قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" 6/95 بعد أن ساق هذه الأقوال وغيرها: وصحح الطبري حديثه في الكسوف، وحسن له الترمذي وصحح له الحاكم وهو من تساهله اهـ.
ورواه ابن عدي في "الكامل" 6/2130: من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في القرآن برأيه فإن أصاب لم يؤجر".
وهذا إسناد تالف، الكلبي اسمه "محمد بن السائب بن بشر" لخص الحافظ ابن حجر قول أئمة الجرح والتعديل فيه فقال: متهم الكذب ورمي بالرفض اهـ.
وروى ابن عدي بسنده عن سفيان الثوري قال: قال لي الكلبي: قال لي أبو صالح: كل ما حدثتك فهو كذب. وأبو صالح هو باذام مولى أم هانيء بنت أبي طالب قال ابن معين: ليس به بأس وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وقال ابن حبان يحدث عن ابن عباس، ولم يسمع منه. "تهذيب التهذيب" 1/416-417، ولخص الحافظ ابن حجر القول فيه فقال: ضعيف مدلس اهـ.
وروى ابن أبي شيبة هذا الحديث في مصنفه 1/512 موقوفاً على ابن عباس، وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر. ورواه الطبري في "تفسيره" 1/43 موقوفاً على ابن عباس.
وفي الباب عن جندب بن عبد الله بلفظ "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" أخرجه الترمذي 5/200، وأبو داود 4/63-64، والنسائي في الكبرى كما في "تحفة الأشراف" 2/444، وإسناده ضعيف علته سهيل بن أبي حزم، وهو ضعيف عندهم " تهذيب التهذيب 4/261.
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] بما يرد قول هذا العراقي ويبطله، قال رحمه الله تعالى:
أمر عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قورنت بالطاعة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم، وترك المنهي عنه،
وقد قال بعدها: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] ، قال سفيان الثوري، عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس (أي القربة) ، وكذا قال مجاهد وعطاء وأبو وائل، والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير، والسدي وأبو زيد.
قال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه. وأنشد ابن جرير قول الشاعر:
إذا عفل الواشون عدنا لوصلنا
…
وعاد التصافي بيننا والوسائل
والوسيلة: هي ما يتوصل به إلى تحصيل المقصود. انتهى.
وقال البغوي: أي اطلبوا إليه الوسيلة، أي القربة.
فعليه من توسل إلى فلان بكذا أي تقرب إليه. وجمعها: وسائل.
وقال البيضاوي على قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] أي: ما يتوسلون به إلى ثوابه، والزلفى منه، من فعل الطاعات، وترك المعاصي، من وسل إلى كذا: إذا تقرب إليه.
وقال في الكلام على آية الإسراء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة (أيهم أقرب) بدل من واو (يبتغون) أي: يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة، فكيف بغير الأقرب.
وقال ابن كثير: وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] روى البخاري من حديث سليمان بن مهران عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر عن عبد الله في قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] قال: ناس من الجن، كانوا يُعبدون فأسلموا. وذكر رواية عن ابن مسعود: كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن. وذكر عن ابن عباس قال: عيسى، وأمه وعزير. وعنه: والشمس والقمر. قال مجاهد: عيسى وعزير والملائكة. واختار ابن جرير قول ابن مسعود، لقوله:(يبتغون) ، وهذا لا يعرب به عن الماضي، فلا يدخل فيه عيسى والعزير.
وقال الوسيلة: هي القربة، كما قال تعالى، ولهذا قال:(أيهم أقرب) انتهى.
واختار شيخ الإسلام أن الآية تعم من ذكر وغيرهم ممن عبده المشركون من أولياء الله وعباده الصالحين.
فتبين بهذا رد ما ذكره البغوي، فإن المفسرين ذكروا ابتغاء الوسيلة، وهو طلب القربة، فتقدم قول البيضاوي في قوله:(أيهم أقرب) أنه بدل من الواو في (يبتغون)، وقال أبو حفص العكبري:(أيهم) مبتدأ، و (أقرب) خبره، وهو استفهام، والجملة في موضع نصب بيدعون. وعلى كلا القولين لا يصح ما ذكره البغوي من توسل بعضهم ببعض.
وفي "الجلالين"(أولئك الذين) يدعونهم آلهة (يبتغون) يطلبون (إلى ربهم الوسيلة) القربة بالطاعة (أيهم) بدل من واو (يبتغون) أي يبتغيها الذي هو أقرب إليه، فكيف بغيره.
إذا عرف هذا، تبين فساد قول البغوي1 في آية "الإسراء" فإن التوسل في العرف الشرعي فعل ما يتوسل به إلى الله من الإيمان به، والعمل الصالح، الذي شرعه ويرضاه، كما في حديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة. هذا هو التوسل المعروف، كما عليه أهل الإسلام من المفسرين وغيرهم، ومن قول قتادة؛ أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه. وتقدم قول ابن كثير بعد حكاية هذا: وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين. فذكر الإجماع على أن المراد القربة بالعمل الصالح، وما يرضاه تعالى.
ثم لو سلم صحة ما ذكره البغوي، فليس المراد أن
1 انظر ص 498 ها هنا.
بعضهم يدعو من هو أقرب منه، ويسأله الشفاعة والتقرب، بل التوسل يطلق عنده على سؤال الله بجاه المقربين، وبحق الصالحين، لا كما يظنه عباد القبور من أن التوسل هو دعاء الصالح نفسه، وقصده بالمسألة والطلب من دون الله، والتقرب إليه بالذبح والنذر، وغيرهما من العبادات، فإن هذا عين الشرك الذي نزلت الآية بإبطال، والرد على أهله، فإن الجاهلية من الأميين والكتابيين يدعون الملائكة وعيسى وأمه والعزير، ويتوجهون إليه في حاجاتهم وملماتهم، ويتقربون إليهم بصرف الأموال ذبحاً ونذراً، فرد الله عليهم هذا الفعل من صنيعهم، وأخبرهم أن هؤلاء المدعوين لا يملكون كشف الضر، ولا تحويله من حال إلى حال، لأن من عبد الأنبياء والصالحين يدعي أنه يكشف الضر بواسطتهم، وعلى أيديهم، كما يقوله عباد القبور، فأخبرهم تعالم أن هؤلاء المدعوين عبيده، كما أن الداعين عبيده، وأنهم يرجونه رحمته، ويخافون عذابه، والخائف الراجي لا يصلح أن يكون مدعواً ومعبوداً، فانظر هذه الآية الكريمة، وما دلت عليه، وما سيقت له، وانظر حقيقة دعوى العراقي، وما يفعله الغلاة في الأولياء والصالحين، ومسألتهم وتعظيمهم بشيء من العبادات، كالذبح والنذر لهم، وعلى إبطال دعواه أيضاً في التوسل الشركي بالصالحين، ودعائهم ومسألتهم وبهذا تعرف أنه
مشاق لله ورسوله، يستدل بالآية الكريمة على نقيض ما دلت عليه، ويفهم منها عكس ما دعت إليه، وهكذا حال القلوب المنكوسة، تتصور الأشياء على خلاف ما هي عليه، وأهل العلم كافة استدلوا بهذه الآية على إبطال التوسل الشركي، الذي هو دعاء الصالحين، والعراقي استدل بها على جوازه واستحبابه، فبعداً للقوم الظالمين.
وأما قول العراقي: (فظاهر الآية عام في الأفعال والذوات) هذا قول داود.
وقال صاحب هذه الرسالة1: (والوهابية جعلت الوسيلة خاصة بالأفعال، وهو تحكم، بل ظاهر الآية تخصيصها بالذوات) .
قال شيخنا: فهذا يكذبه ويبطله ما مر من إجماع المفسرين على أن الوسيلة هي التقرب إلى الله بطاعته، وبما يرضيه مما شرعه وأذن فيه.
والتوسل الذي يريده العراقي بذات الصالحين هو دعاؤهم ومسألتهم وتعظيمهم بالعبادة، وتقدم كلام ابن القيم في أنه يستحيل أن تأتي شريعة من الشرائع بإباحة ذلك.
وقوله: (ومن ادعى التخصيص بأحدهما فقد تحكم) ففي هذا القول من سوء الأدب مع الشارع، والجرأة
1 يعني العراقي.
على الله وعلى رسوله، ما يعلمه أهل العلم بدينه، الذين عقلوا عنه مراده، وعرفوا أنه أخص القرب التي يحبها ويرضاها، ونهى عن مجاوزتها إلى البدع والضلالات، فالمخصص للقرب والوسائل هو الله ورسوله، قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] .
ثم اقتحم العراقي وأتى بقولة يضحك منها صبيان المكاتب، فقال:(على أن ظاهر سياق الآيات تخصيصه بالذوات) فأتى على ما قاله المفسرون قاطبة فهدمه، واجتث أصله، ورده من لا يؤمن بالكتاب، ولا يخاف سواء الحساب، واستدلاله على تلك الدعوى الضالة بأن (التقوى فعل المأمور وترك المنهي عنه، وإذا فسر ابتغاء الوسلية بالأعمال يكون تأكيداً فيكون مكرراً، وإذا أريد التوسل بالذوات يكون ناشئاً، وهو خير من التأكيد) هذا كلامه بحروفه، وكفى بهذا خزياً وفضيحة، وتسجيلاً على جهالة، وأنه ما عرف شرعاً، ولا لغة، ولا ديناً، وهذا مردود بوجوه:
الأول: إن ابن كثير قرر أن التقوى إذا قرنت بالطاعة أو الوسيلة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهي، كما في هذه الآية. والوسيلة هي التقرب إلى الله بأنواع الطاعات، وأصناف العبادات، ومراده أنها
إذا أطلقت ولم تقترن بغيرها دخل فيها فعل المأمور وترك المحظور، وهكذا اسم العبادة، والطاعة، تعم عند الإطلاق وتخص مع الاقتران والتقييد.
فالعراقي لم يعرف مسمى التقوى في هذا المحل، وخبط خبط عشواء.
الوجه الثاني: إن الوسيلة ما يقرب إلى الله تعالى، والتقوى تطلق على ما يتقى به عذابه، ويرجى به ثوابه، فلو قيل بهذا الإطلاق هنا، فالقرب إلى الله وطلبه أخص مما قبله.
الوجه الثالث: إن التأكيد يكون خيراً من التأسيس إذا اقتضاه الحال، وقصد رفع المجاز، وإبطال توهمه، أو قصد بيان خصوصية الفرد المعطوف، والاهتمام به، كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاة} [الأعراف: 170] .
الوجه الرابع: إن التأسيس لا يجري هنا، ولا يصح قصده.