الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في حكم أهل الأهواء
…
فصل
ثم ذكر العراقي فرق أهل الضلال، من أهل الأهواء والبدع، الذين فارقوا الجماعة، كالقدرية والمعتزلة والمرجئة والجهمية، والرافضة، ولم يذكر من فرق أهل الأهواء إلا هؤلاء، ثم قال:
(ومذهب السلف الذي تتستر به الوهابية هو: عدم القول بتكفير طوائف المارقين الذين1 ذكرناهم) .
والعجب كل العجب أن هذا العراقي يقر أن هؤلاء الطوائف هم المارقون، المفارقون للجماعة، وهو يقول بأقوالهم في نفي الصفات.
والجواب أن نقول: هذا كذب على السلف رضوان الله عليهم، فإنهم كفروا غلاة الرافضة كالذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك كفروا غلاة القدرية، وغلاة المرجئة، والمعتزلة وغلاة الجهمية.
1 في الأصل: "الذي".
وقد حكى شيخ الإسلام تكفير من قام به الكفر من أهل الأهواء، قال:
واضطرب الناس في ذلك: فمنهم من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد روايتين، وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم فيه قولان، قال:
وحقيقة الأمر: أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير قائله، ويقال لمن قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال: لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، انتهى.
وحيث كان الحال هكذا في الخوارج، قد اختلف الناس في تكفيرهم. والغلاة في علي لم يختلف أحد في تكفيرهم، وكذلك من سجد لغير الله، أو ذبح لغير الله، أو دعاه مع الله رغباً أو رهباً، كل هؤلاء اتفق السلف والخلف على كفرهم، كما ذكره أهل المذاهب الأربعة، ولا يمكن أحد أن ينقل عنهم قولاً ثانياً.
وبهذا تعلم أن النزاع وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثاله في غير عباد القبور والمشركين، فرضه وموضوعه في أهل البدع المخالفين للسنة والجماعة، وهذا يعرف من كلام الشيخ.
فإذا عرفت أن كلام الشيخ ابن تيمية في أهل الأهواء كالقدرية والخوارج والمرجئة، ونحوهم، ما خلا غلاتهم، تبين لك أن عباد القبور والجهمية خارجون من هذه الأصناف.
وأما كلامه في عدم تكفير المعين فالمقصود به في مسائل1 مخصوصة قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء، ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها، ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء، وقد نص على هذا فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين بعد أن قرر هذه المسألة، قال:
وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال بعدم التكفير، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر2 قائله.
1 في الأصل: "المسائل".
2 في ط الرياض: "تكفير".
وبهذا تعلم غلط هذا العراقي، وكذبه على شيخ الإسلام، وعلى الصحابة والتابعين في عدم تكفير غلاة القدرية وغلاة المعتزلة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، والرافضة. فإن الصادر من هؤلاء كان في مسائل ظاهرة جلية، وفيما يعلم بالضرورة من الدين، وأما من دخل عليه من أهل السنة بعض أقوال هؤلاء، وخاض فيما خاضوا فيه من المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، أو من كان من أهل الأهواء من غير غلاتهم، بل من قلدهم وحسن الظن بأقوالهم من غير نظر ولا بحث فهؤلاء هم الذين توقف السلف والأئمة في تكفيرهم، لاحتمال وجود مانع بالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته قبل قيام الحجة عليهم، وأما إذا قامت الحجة عليهم، فهذا لا يتوقف في كفر قائله.
وأما قوله: (قال الشيخ1 تقي الدين ابن تيمية: لم يكفر الإمام أحمد الخوارج، ولا المرجئة، ولا أعيان الجهمية، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا الناس إلى قولهم، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الشديدة) .
1 في ط الرياض: "شيخ الإسلام".
فالجواب أن يقال: قد تقدم عدم تكفير الخوارج والمرجئة غير الغالية منهم.
وأما الجهمية فيقال: لو سلم هذا فجوابه من أوضح الواضحات عند أهل العلم والأثر: وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله -من أهل العلم والحديث- لا يختلفون في تكفير الجهمية وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر وعد اللالكائي الإمام رحمه الله تعالى منهم عدداً يتعذر ذكرهم في هذا الجواب، وكذلك ابن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة1 في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم ونقله عن أساطين الأئمة.
وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في "كافيته" عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم. والصلاة خلفهم لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم، والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها،
1 لم أقف على من نسب لابن أبي مليكة كتاب "السنة" وابن أبي مليكة من التابعين، ولم يكن ثم تدوين في عهده والعلم عند الله، وكذلك تأخر ظهور الجهمية عن عهده، ولا شك أنه تصحيف.
وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما تقدم ذكره.
وعلى هذا القول: فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهوراً ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد، كيف لا وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه من حقيقة الربوبية والإلهية ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدماً لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من دين الإسلام عند من عرفه وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات.
ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام في نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحاداً من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره، وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان
يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شوكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة من طلبها وجدها. انتهى.
وقد تقدم كلام أبي حنيفة وتصريحه بكفر من قال: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: لأنه أنكر أنه في السماء، لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . انتهى.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله بعد كلام سبق: والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض، والقدرية والمرجئة، فإن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وغيرهما، قالوا: أصول الاثنين وسبعين فرقة هي أربع: الخوارج،
والروافض والمرجئة والقدرية، قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست من أمه محمد صلى الله عليه وسلم.
والجهمية نفاة الصفات، الذين يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن محمداً لم يعرج به إلى الله، وإن الله لا علم له ولا قدرة، ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن اتبعهم.
وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: هما صنفان، فأحدهما الجهمية، والرافضة، فهذان الصنفان شرار أهل البدع، ومنهم دخلت القرامطة الباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، ومنهم اتصلت الإتحادية، فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية. والرافضة في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية، فإنهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة، ثم يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية ونحوهم من أهل الزندقة والاتحاد. انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا العراقي الملحد ضم إلى معتقده في عبادة القبور مذهب الجهمية، والمعتزلة، وقول الرافضة في الرؤية والقدرية.
وأما قوله عن شيخ الإسلام: (وقال أيضاً ما محصله: إن من البدع المنكرة تكفير طائفة من المسلمين،
واستحلال دمائهم وأموالهم، إذ لعل تلك الطائفة ليس فيها من البدعة ما في الطائفة المنكرة لها، ولو فرض أن تلك الطائفة قد ابتدعت لم يجز للطائفة التي على السنة أن تكفرها لما عسى أن تكون بدعتها ناشئة عن خطأ
…
) إلى آخره.
فالجواب أن نقول: ليس هذا مما نحن فيه في شيء، فإن من أهل البدع من لم تخرجه بدعته من الإسلام، وليس الكلام في هؤلاء، وفرض كلام الشيخ فيمن لم تكن بدعته تخرجه من الإسلام، وإنما الكلام في غلاة هؤلاء الطوائف، وبهذا يعلم كل من له أدنى مسكة من عقل، وأقل معرفة من علم: أن عباد القبور والجهمية لا يدخلون في أهل البدع والأهواء الذين تقدم كلام الشيخ فيهم، والشيخ محمد رحمه الله لا يكفر أحداً من هذا الجنس، ولا من هذا1 النوع، وإنما يكفر من نطق بتكفيره الكتاب العزيز، وجاءت به السنة الصحيحة، واجتمعت على تكفيره الأمة، كمن بدل دينه، وفعل فعل الجاهلية، الذين يعبدون الملائكة، والأنبياء، والصالحين، ويدعونهم مع الله، فإن الله كفرهم وأباح دماءهم وأموالهم، كما دل عليه الكتاب العزيز، والسنة المستفيضة.
1 في ط الرياض: "هؤلاء".