الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في فرية الملحد بتكفير المقلدين
…
فصل
قال العراقي: (الوهابية وتكفيرها من قلد المجتهدين:
لما كانت أقوال المجتهدين السالفين رحمهم الله تعالى وما وصلوا إليه باجتهادهم من الأحكام المقررة الدينية تصادم ما ابتدعته الفئة المارقة الوهابية، لم تر هذه الفئة بداً من إنكارها صحة اجتهادهم، وتخطئة آرائهم، وتكفير من قلدهم، حتى يخلو لها الجو، فتبيض وتصفر وتلعب بالدين كما شاء هواها، ويتمهد لها الطريق إلى تأسيس قواعد ضلالها المبين، إذ هي لو لم تنف اجتهادهم لما تم لها أن تصرف بحسب هواها الآيات النازلة في المشركين إلى المسلمين الذين يتوسلون إلى الله تعالى بجاه رسوله، وكرامة أوليائه، لأن هذا الصرف مما لم يقل1 به مجتهد، ولم يرض به أحد من أئمة الدين) .
1 في الأصل: "يقيم".
والجواب أن نقول: أما دعوى تكفير المجتهدين فمن الكذب الواضح، والإفك الفاضح.
وأما ما مخرق به من أنا مصادمون لما اجتهد الأئمة فيه1 من الأحكام الدينية، وأنا أنكرنا اجتهادهم ليخلو لنا الجو، كما زعمه هذا البو2، فما ذاك إلا من فيض كلب العداوة في الدين، لأنه جهمي، معتزلي مشرك، ونحن -ولله الحمد- على طريقة السلف وأئمة الدين في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وفي باب العمل والعبادة، فلا نشرك بربنا أحداً، ولا نتخذ من دونه أولياء.
ومن تأمل كلامه علم أنه هو المارق المبتدع، وأنه {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] ، بل هو بريء من الأئمة المجتهدين، وهم برآء منه، فإن عقيدته مخالفة لعقائدهم، فهو إلى طريق الفلاسفة والملاحدة ومن نحا نحوهم من المتكلمين أقرب منهم إلى الأئمة المجتهدين.
وهذا العراقي متبع لهواه، عابد لما يهواه، قد اتخذ الكذب ديدنه، والزور والفجور ميزانه، ودخل من الكذب في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى آل به زوره وفجوره
1 سقطت: "فيه" من الأصل.
2 أي الأحمق. قاله في "القاموس".
إلى أن زعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان كثير الميل إلى الإطلاع على أخبار من ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وأنه كان يضمر في نفسه أن يؤسس ديناً يحذو به حذو أولئك الكذابين.. إلى غير ذلك من مفترياته، ورعونات جهالاته وخزعبلاته، فالموعد الرحمن، وإليه التحاكم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم لو استهواه الشيطان، وحكى ما يقوله1 أهل البغي والعدوان، فكيف ساغ له أن يحكي عما في ضميره –لو كان- وحاشا لله أن يكون ذلك في الإمكان.
وأما زعمه أن الشيخ يدعي الاجتهاد المطلق، فمن نمط ما قبله من المفتريات، فإنه لا يدعي ذلك، وقد نفاه في بعض رسائله، ومن طالع كتب الشيخ وتصانيفه ورسائله، علم محله من العلم والفقه والمتانة في الدين، ورسوخه فيه، وقد شهد له علماء وقته بذلك كما مضى بيانه.
وأما قوله: (وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين":
1 في ط الرياض: "يقول".
لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم) .
فأقول: هذا لسان جاهل، وتركيب نبطي لا يدري شيئاً من صناعة العلم، وابن القيم ينزه عن هذا اللفظ، وهذا التركيب، ولا يقول:(ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم) ، فإن البحث ما هكذا إيراده ولا تقريره، والعلوم فيها ما لا دخل له هنا ولا اعتبار، كعلم الطب والهندسة والإنشاء وقريض الشعر وميزانه، والعلم بالرسم وإتقانه، ومعرفة التاريخ.
وأما بالنظر للمعنى فابن القيم رحمه الله قد شن الغارة على من لا يجوز له أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد، وشنع على قائله تجهيلاً وتخطئة وقال:
هذا سد لباب أخذ العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله.
وذكر في هذا المبحث من النصوص والآثار والمناظرة بين المجتهد والمقلد ما لا تتسع له هذه الرسالة، وذكر هذه العبارة راداً لها، مجهلاً لقائلها. بل ذكر فيه عن الإمام أحمد أنه لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب
والسنة. ثم ذكر بعد ذلك فصولاً في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول. وقال أيضاً في "الإعلام" لما ذكر القياس قال:
ونحن نقول قولاً ندين الله به، ونحمد الله على توفيقنا له، ونسأله الثبات عليه: إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط، فإن فيها غنية وكفاية عن كل رأي وقياس، وسياسة واستحسان، ولكن ذلك مشروط بفهم من يؤتيه الله عبده فيها، وقد قال تعالى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الانبياء: 79]، وقال علي رضي الله عنه:"إلا فهما يؤتيه الله عبده في كتابه". وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل". وقال أبو سعيد: "كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال عمر لأبي موسى: "الفهم الفهم". انتهى.
والذي غر هؤلاء الجهلة أنهم ظنوا أن الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو مرتبة الاجتهاد، أو من تجوز له الفتيا في الحلال والحرام، وما علموا أن الاجتهاد هو النظر في الأدلة إذا تعارضت، وفيما يخفى دليله، وهذا لا يتهيأ إلا لمن كملت فيه شروط الاجتهاد، أو اجتمعت فيه أدوات الفتيا.
وأما اتباع كلام الله أو كلام1 رسوله والأخذ بما فيهما فهو
1 في ط الرياض: "الله ورسوله".
فرض واجب على المجتهد، والمقلد والعالم والمتعلم، والآيات والأحاديث في ذلك معروفة مشهورة مبسوطة، ذكرها ابن القيم في "الإعلام".
وقال ابن عباس رضي الله عنه لمن ناظره في متعة الحج: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر".
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
وقال ابن القيم رحمه الله في الإعلام: قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا سفيان بن عامر، عن عتاب بن منصور، قال: قال عمر بن عبد العزيز: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال الشافعي رحمه الله: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها. وقال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل: إنما نأخذ
بالرأي ما لم يجئ الأثر، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي وأخذنا بالأثر.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر عنه.
وقال الأصم: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت.
وقال أحمد بن علي بن عيسى بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فإني راجع عنها في حياتي وبعد موتي.
وقال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحداً نسبه عامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله اتباع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكمه، فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد لا يختلف فيه الغرض، وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا فرقة سأصف قولها -إن
شاء الله- وذكر كلاماً طويلاً عن الشافعي رحمه الله وغيرها تركناه طلباً للاختصار.
والمقصود أنه كذب على ابن القيم في دعواه أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم، ولا عجب من هذا فقد كذب على السلف رحمهم الله في أن مذهبهم في آيات الصفات وأحاديثها أنها تؤول، إما تفصيلاً وإما إجمالاً ويفوض1 تفصيلها إلى الله.
ثم ذكر العراقي كلاماً زعم فيه أن الوهابية اتخذته ذرائع لتأسيس بدعتها.
وقد تقدم الكلام عليه، ولكن أعاده ليكبر حجم كتابه، وليزداد -إن شاء الله- بذكره مقتاً من الله وغضباً وزيادة في عقابه.
ثم ذكر أن تكفير المسلم أمر غير هين، وأنه قد أجمع العلماء منهم الشيخ ابن تيمية وابن القيم: على أن الجاهل والمخطئ من هذه الأمة -ولو عمل ما يجعل صاحبه مشركاً أو كافراً- يعذر بالجهل والخطأ، حتى تبين له الحجة بياناً واضحاً، لا يلتبس على مثله.
1 في ط الرياض "أو يفوض".
فيقال في جوابه: أما تكفير المسلم فقد قدمنا أن الوهابية لا يكفرون المسلمين. والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها. قال في بعض رسائله:
وإن كنا لا نكفر من عبد قبة الكواز، لجهلهم وعدم من ينبههم، فكيف من لم يهاجر إلينا؟ وقال –وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال- فقرر أن من قامت عليه الحجة، وتأهل لمعرفتها، يكفر بعبادة القبور، وأما من أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فلا أدري ما حاله.
وأما نقله عن شيخ الإسلام وابن القيم على أن الجاهل والمخطئ
…
إلى آخره.
فالجواب أن يقال: كلام الشيخين إنما هو في المسائل النظرية والاجتهادية، التي قد يخفى الدليل فيها. وأما عباد القبور فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية، لأن فعلهم غلو يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين، وعبادتهم.
وأيضاً فإن هذا النقل فيه تكفير من قامت عليه الحجة، ولو في المسائل الخفية، فبطلت الشبهة العراقية، ومسألة توحيد الله وإخلاص العبادة له لم ينازع في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة، كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه، عرف أن هذا زبدتها وحاصلها، وسائر الأحكام تدور عليه.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على المتكلمين" لما ذكر بعض أئمتهم توجد منهم الردة عن الإسلام كثيراً قال:
وهذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال فيها: إنه مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر منهم في أمور يعلمها الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذه أظهر شرائع الإسلام، ومثل إيجابه للصوات الخمس، وتعظيم شأنها، ومثل تحريم الفواحش، والزنا والخمر والميسر، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي، قال: وهذه ردة صريحة. انتهى.
فإذا علمت هذا، فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله وملائكته ورسله، واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل.
وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ونقطع أن اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم.
وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء، ولا عذر لمن حاله هكذا بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته، لأنه لا عذر له بعد بلوغها، وإن لم يفهمها، وقد أخبر الله عن الكفار أنهم لم يفهموا فقال:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الإسراء: 46] والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله أعلم.
وأما قول هذا العراقي: (حتى تتبين له الحجة بياناً واضحاً لا يلتبس على مثله) .
فأقول: هذا تحريف لكلام الشيخ، فإن الشيخ لم يقل حتى تتبين له الحجة
…
إلى آخره، وإنما هي زيادة عراقية، وإنما قال الشيخ: (ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
فقوله: (حتى تتبين له الحجة بياناً واضحاً لا يلتبس على مثله) إنما هو فهم الحجة، وفرق بعيد بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة، إذا كان على وجه يمكن معه العلم.
ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والإنقياد لما جاء به الرسول، قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]، وقال:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الإسراء: 46] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
ويقال أيضاً: فرض كلام شيخ الإسلام وتقديره في الأمور التي قد يخفى دليلها، مما ليس هو من ضروريات الدين، ولا هو من الأمور الجلية، بل هو في الأمور النظرية والاجتهادية. والله أعلم.
وأما قوله: (والمسلم قد يجتمع فيه الكفر والإسلام، والشرك والإيمان، ولا يكفر كفراً ينقله عن الملة) .
فأقول: نعم، هذا فيما دون الشرك، والكفر الذي يخرج من الملة، فأما ما لا يخرج عن الملة كالشرك الأصغر، كيسير الرياء والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وما أشبه ذلك، والكفر كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف بغير الله فقد أشرك"، وفي لفظ:"فقد كفر" 1، وغير
1 أخرجه أبو داود –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 3/570، والترمذي –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 4/110، والإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه –كما في الموارد ص 286، والحاكم في مستدركه 4/297، والبيهقي في سننه 10/29 كلهم عن سعد بن عبيدة قال: سمع ابن عمر رجلاً يحلف: لا والكعبة، فقال له ابن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد أشرك ".
ولفظ ابن حبان: "قال: كنت عند ابن عمر، فحلف رجل بالكعبة، فقال ابن عمر: ويحك لا تفعل
…
الخ".
وفي لفظ لأحمد 2/58-60: "قال: كنت مع ابن عمر في حلقة. قال: فسمع رجلاً في حلقة أخرى وهو يقول: لا وأبي، فرماه ابن عمر بالحصى. فقال: إنها كانت يمين عمر، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إنها شرك". =
ذلك مما جاء في الحديث بلفظ: "الكفر" مما لا ينقل عن الملة من الكفر الأصغر.
وأما ما ذكره في الخوارج، فإنما هو لأجل ما قام بهم من الشبهة المانعة من تكفيرهم. والشيخ محمد بن
= وقد أعل البيهقي هذا الحديث بقوله بعد إخراجه: "وهذا مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر". ثم احتج البيهقي على هذه الدعوى بما أخرجه من طريق الإمام أحمد –وهو في المسند 2/125 ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن منصور عن سعد بن عبيدة قال: كنت عند عبد الله بن عمر فقمت وتركت رجلاً عنده من كندة، فأتيت سعيد بن المسيب. قال: فجاء الكندي فزعاً، فقال: جاء ابن عمر رجل فقال: أحلف بالكعبة؟ قال: لا ولكن احلف برب الكعبة. فإن عمر كان يحلف بأبيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلف بأبيك فإنه من حلف بغير الله فقد أشرك" اهـ.
والكندي المذكور اسمه محمد كما جاء في بعض أسانيد أحمد 2/69. وهو مجهول كما نص عليه أبو حاتم. انظر الجرح والتعديل 8/132.
قلت: وهذا الإعلان ليس بجيد، فإن الألفاظ التي تقدم ذكرها ترده، وتصرح بحضور سعد بن عبيدة هذه الحادثة، وقد اجتمع على لفظها ثقتان إمامان: الأعمش عند أحمد، والحسن بن عبيد الله النخعي عند ابن حبان.
ويجمع بين الراويتين: بتكرر الحادثة، فمرة سمعها سعد من ابن عمر، ومرة سمعها من الكندي. ومن تأمل اللفظين ظهر له ذلك، والله تعالى اعلم.
عبد الوهاب لا يكفر الخوارج، كما أن أكثر أهل العلم لا يكفرونهم.
وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا، فقال: منافقون؟ فقال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً –أو كلاماً نحو هذا1.
فقول العراقي: (ومع كفرهم لم يكفرهم الصحابة ولا التابعون) ، جهل عريض، وتناقض بين، وعدم معرفة بمقادير الصحابة وأهل العلم، فإنهم لو كانوا عند الصحابة كفاراً كفراً يخرج من الملة لكفرهم الصحابة والتابعون، فلما قام المانع من تكفيرهم أمسكوا عنه، وهم أعلم الأمة، وأعرفهم بالله، وبدينه، وأخشاهم له، فهذا الكلام ونحوه إنما هو في أهل الأهواء والبدع، كالخوارج وأشباههم من أهل البدع التي لم تخرجهم بدعتهم من الإسلام.
وأما مسألة عبادة القبور، ودعائها مع الله، فهي مسألة وفاقية التحريم، إجماعية المنع والتأثيم، فلم يدخل عباد القبور في كلام الشيخين لظهور برهانها، ووضوح أدلتها، وعدم اعتبار الشبهة فيها، هذا وجه الإخراج والاستدراج، ومراد هذا الملحد أن عباد القبور لا يكفرون، لأن الصحابة
1 رواه البيهقي في السنن الكبرى 1/174 و175 من وجهين: الأول في أهل الجمل، والثاني في أهل النهروان، والأول ضعيف، والثاني كذلك.
والتابعين لهم لم يكفروا الخوارج، فبعداً للقوم الظالمين.
وأما ما ذكره من قتال أهل الردة، فليس الأمر كما زعم من التفريق، وإن كان قد قال به بعض العلماء، فالحق والصواب ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يفرقوا بين من ارتد، وصدق مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وسجاح، وبين من منع الزكاة، بل قاتلوهم كلهم واستحلوا دماءهم وأموالهم، وسبيهم، وسموهم كلهم أهل الردة، ولم يقولوا لمانع الزكاة: أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها، هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قال الصديق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب.
وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه أن ثبته الله عند قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فإذا علمت ذلك، فمن المحال أن يكون الحق. والصواب مع من قال بخلاف ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل الأمة، وأن يكون الحق والصواب مع من بعدهم ممن لا يساويهم ولا يقاربهم في العلم والفضل والمعرفة.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في "أعلام الموقعين" نحواً من خمسة وأربعين وجهاً، تدل على أن ما قاله الصحابة رضي الله عنهم هو الحق والصواب الذي لا شك فيه1.
1 4/118-156.