الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في إنكار الملحد للنزول
…
فصل
وأما قول العراقي: (ولما كان تعالى مستوياً على عرشه ومستقراً عليه كما تزعمه الوهابية كان عرشه محيطاً بالسموات السبع، فيلزم من نزوله إلى السماء وصعوده منها -كما تقوله الوهابية- أن يصغر جسمه تعالى عند النزول، ويكبر عند الصعود، فيكون متغيراً من حال إلى حال، تعالى الله عما يقول الجاهلون) .
فالجواب أن يقال: قد كان من المعلوم أن هذا الجهمي لا يعرف من صفات الخالق إلا ما يعرف من صفات المخلوقين، وأنه ما عرف الله حق معرفته، ولا قدره حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، فلذلك نزهه عما يليق بجلاله وعظمته، وألزم من أثبت ما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله باللوازم التي لا تليق إلا بالمخلوق ولا تليق بالخالق، مما قد علم أهل العلم بالله أنها من أوضاع الجهمية والمعتزلة والفلاسفة والمتكلمين الذين هم ورثتهم، وذلك أن في أصول ضلالهم ظنهم أن هذا تنزيه
عن التشبيه، وأنهم متى وصفوا بصفة إثبات أو نفي كان فيه تشبيه بذلك، ولم يعلموا أن التشبيه المنفي عن الله أبعد مما كان وصفه بشيء من خصائص المخلوقين، أو أن يجعل شيء من صفاته مثل صفات المخلوقين، بحيث يجوز عليه ما يجوز عليهم، أو يجب له ما يجب لهم، أو يمتنع عليه ما يمتنع عليهم مطلقاً، فإن هذا هو التمثيل الممتنع منه المنفي بالعقل مع الشرع، فيمتنع عليه وصفه بشيء من النقائص، ويمتنع مماثلة غيره له في شيء من صفات الكمال، فهذان إجماع لما ينزه الرب تعالى عنه.
فإذا عملت ذلك فالوهابية لا يقولون بشيء من هذه الأقوال ولا يعتقدونها، ولا يدينون الله بها، فإن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، كما نقل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد، وغيرهما، ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء، وأنه لا يعلم كيف ينزل، ولا تمثل صفته بصفات خلقه، فلا يلزم الوهابية شيء من هذه اللوازم الباطلة، وقولهم واعتقادهم في ذلك قول أهل السنة والجماعة، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله:
ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف، لأن الله
وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم فيه كيف وكيف. وإذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء.
وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة بن الماجشون، وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة، الذين هم: مالك بن أنس، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب، وقد سئل عما جحدت الجهمية:
أما بعد؛ فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتدبير، وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول دون معرفة قدرته، وردت عظمته العقول فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهي حسيرة، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال: لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدئ، ومن لم يمت ولا يبلي، وكيف يكون
لصفة شيء منه حداً أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف، على أنه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغراً يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله، أعضل بك، وأخفى عليك، فأظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
اعرف –رحمك الله- غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه لعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذ لم تعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته، أو تنزجر به عن شيء من معصيته، فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقاً وتكلفاً قد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف به الرب، وسمى من نفسه، بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي، ويجحد ما وصف الرب من نفسه بصمت الرب عما لم نسم1 منها، فلم يزل يملي
1 كذا، ولعل الصواب:(يسم) .
له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونظرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينظرون
…
إلى أن قال:
وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة، لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا قبل ذلك مؤمنين به، وكان له جاحداً، وقال المسلمون: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا. قال: "فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا: لا. قال: "فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول" قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض".
وقال لثابت بن قيس: "لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة".
وقال فيما بلغنا: "إن الله تعالى ليضحك من أزلكم
وقنوطكم وسرعة إجابتكم". فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: "نعم". قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً. في أشباه لهذا مما لا نحصيه.
وقال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال تعالى:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، وقال تعالى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقال تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ:75]، وقال تعالى:{وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] ، فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه، وما تحيط به قبضته، إلا صغر نظرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقى في روعهم، وخلق على معرفته قلوبهم، فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لهذا ولهذا لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف.
اعلم –رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف، وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة، وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارثت علمه الأمة، فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف عن نفسه عيباً، ولا تكلفن لما وصف
لك من ذلك قدراً، وما أنكرته نفسك، ولم تجد ذكره في كتاب ربك، ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك، فلا تتكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه كإنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها.
فقد والله عز المسلمون الذي يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا يتكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن.
وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه، فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه، والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم ما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها، لا ينكرون صفة ما سمى منها جحداً، ولا يتكلفون وصفه مما لم يسم تعمقاً، لأن الحق ترك ما ترك، وتسمية ما سمى:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1
1 في ط الرياض: (ومن يتبع) .
[النساء:115] . وهب الله لنا ولكم حكماً وألحقنا بالصالحين.
قال شيخ الإسلام: وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام، فتدبره وانظر كيف أثبت الصفات، ونفي علم الكيفية، موافقاً لغيره من الأئمة، وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا، كما تقوله الجهمية: إنه يلزم أن يكون جسماً أو عرضاً فيكون محدثاً. انتهى.
فتحصل لنا مما ذكره أئمة الإسلام، وقدوة الأنام، أن هذا الملحد جهمي معتزلي، وهذا يكفي العاقل من ضلاله وعتوه، وخروجه عن الصراط المستقيم، والحمد لله رب العالمين.