المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في بيان كلام الملحد في الجسم، وزيغه - الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق

[سليمان بن سحمان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌فصل في منشأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌فصل في طلب الشيخ رحمه الله للعلم ومبدأ دعوته

- ‌فصل في حال الناس في نجد وغيرها قبل دعوة الشيخ

- ‌فصل في حقيقة دعوة الشيخ وأنها سلفية

- ‌فصل في نقض تعيير الملحد بسكنى بلاد مسيلمة

- ‌فصل في فرية الملحد على الشيخ بأنه يطمح للنبوة

- ‌فصل في رد فرية بأنهم خوارج

- ‌فصل في رد فرية الملحد في تنقص الأنبياء والصالحين

- ‌فصل في رد فرية الملحد على كتاب (كشف الشبهات)

- ‌فصل في كيد الدولة التركية المصرية ورد الله له

- ‌فصل في مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في بيان أن دعوة الشيخ ليس فيها من مقالات الخوارج شيء

- ‌فصل في ذكر بعض مفتريات الملحد

- ‌فصل في الدولة السعودية القائمة الآن

- ‌فصل في كيد الدولة العثمانية

- ‌فصل في فرية الملحد أن الشيخ يريد النبوة

- ‌فصل في بيان جهمية الملحد وسنية الشيخ

- ‌فصل في مدح الملحد للعقل وذمه لأهل السنة

- ‌فصل في مفتريات الملحد، وردها

- ‌فصل في زعم الملحد أن إثبات الصفات تجسيم

- ‌فصل في بيان كلام الملحد في الجسم، وزيغه

- ‌فصل في إثبا الصفات وأنه لا يقتضي التجسيم

- ‌فصل في الإشارة إلى السماء، وإنكار الملحد ذلك

- ‌فصل في إنكار الملحد للنزول

- ‌فصل في تأويل الملحد للإشارة والمعراج

- ‌فصل في تأليه الملحد للعقل، وزعمه أن النقل يؤدي إلى الضلال

- ‌فصل في زعم الملحد تقديم العقل لأنه الأصل

- ‌فصل في فرية الملحد عليهم بنفي الإجماع

- ‌فصل في فرية الملحد عليهم بإنكارهم القياس

- ‌فصل في فرية الملحد بتكفير المقلدين

- ‌فصل في حكم أهل الأهواء

- ‌فصل في تناقض العراقي وكلامه في الجهمية

- ‌فصل في حكم التوسل والإستغاثة والزيارة والشرك

- ‌فصل في بيان جهل الملحد بمعنى العبادة

- ‌فصل في أنواع الشرك، وجهل الملحد بها

- ‌فصل في بيان سبب شرك الجاهلية

- ‌فصل في بيان أن الإستغاثة من الدعاء

- ‌فصل في التوسل

- ‌فصل في الإستغاثة الشركية

- ‌فصل في الإستغاثة بالأنبياء

- ‌فصل في آية: {وأبتغوا إليه الوسيلة}

- ‌فصل في آية: {أيهم أقرب}

- ‌فصل في آية: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك}

- ‌فصل في آية: {فاستغاثه الذي من شيعته}

- ‌فصل في آية: {لا يملكون الشفاعة}

- ‌فصل في حديث: "أسألك بحق السائلين

- ‌فصل في حديث: "أغفر لأمي فاطمة بحق نبيك

- ‌فصل في حديث الضرير

- ‌فصل في المنام والإستسقاء

- ‌فصل في إستسقاء عمر بالعباس

- ‌فصل في الفرق بين الحي والميت في التوسل

- ‌فصل في حقيقة غلو الناس في الصالحين وغيرهم

- ‌فصل في الإستغاثة وقصة هاجر

- ‌فصل الإستغاثة وشفاعة القيامة

- ‌فصل في حديث: "يا عباد الله احبسوا

- ‌فصل في بيان شرك من يدعو غائبا في حاجاته

- ‌فصل في دلالة ظاهر نداء المشرك غير الله

- ‌فصل في عقيدة أهل السنة في الصفات

- ‌فصل في زيارة القبور الشركية، والشفاعة

- ‌فصل في عبادة القبور

- ‌فصل في شد الرحال إلى القبور

- ‌فصل في مزاعم للملحد، وردها

- ‌فصل في النذر لغير الله

- ‌فصل في بيان الركوب إلى النصارى واتخاذهم أولياء

الفصل: ‌فصل في بيان كلام الملحد في الجسم، وزيغه

‌فصل في بيان كلام الملحد في الجسم، وزيغه

فصل

قال العراقي: (نحن ننقل لك ههنا بعض عباراتهم التي وردت في هذا الشأن، مسطورة في كتاب "الدين الخالص" قال صاحبه: إن أردتم بالجسم المركب من المادة والصورة، أو المركب من الجواهر الفردة، فهذا منفي عن الله تعالى قطعاً، والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذه ولا هذه.

قال العراقي: فأقول: فانظر إلى ما في هذه العبارة من الخبط، فإنه أنكر فيها وجود جسم بالمعنى الذي ذكره، سواء كان واجباً أو ممكناً، والظاهر أن غرضه من هذا الإنكار هو التوصل إلى نفس الجسمية التي تلزم من معتقده في الله تعالى، فلئلا يقال: إنه شبه الخالق بمخلوقه نفى الجسمية بالمعنى المذكور عن مخلوقه أيضاً، وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة، فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة) .

ص: 242

والجواب أن يقال: هذا الكلام ليس هو من كلام صاحب "الدين الخالص" بل هو كلام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى نقله صديق من "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" وهو في الصواعق أبسط من هذا، بأدلته العقلية والنقلية، فنسبة هذا الكلام إلى الوهابية وإن كانوا يعتقدون صحته جهل عريض، وعدم معرفة بالرجال ومقالاتهم، فإن ابن القيم رحمه الله تعالى في القرن السابع، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، فصار من المعلوم عند هؤلاء أن من تكلم بالحق، وبما نطق به الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها وإن كان ممن تقدم زمانه فهو وهابي، فصار هذا الاسم علماً على أهل الحق في كل زمان ومكان {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَة} ، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .

وأما قوله: (فإنه أنكر فيها وجود جسم بالمعنى الذي ذكره) إلى آخره.

فنقول: نعم. ما ذكره من لفظ الجسم، وما يتبع ذلك، لم ينطق به في صفات الله لا كتاب ولا سنة، لا نفياً ولا إثباتاً، ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم.

ص: 243

وقوله: (والظاهر أن غرضه من هذا الإنكار هو التوصل إلى نفي الجسمية التي تلزم من معتقده في الله تعالى) إلى آخره.

فأقول: نعم، ولا يلزم من إثبات الصفات التي أثبتها الله ورسوله هذه اللوازم التي سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي نحاتة أفكار وزبالة أذهان، لا حقيقة لها في التحقيق، ولا تثبت على قدم الحق والتصديق.

فهذه اللوازم منفية عن الله قطعاً وعن الممكنات أيضاً، كما يأتي بيانه وتفصيله.

ثم إنه من المعلوم أن أصل الكلام في المادة والصورة والهيولي والجواهر الفردة وغيرها من التراكيب المحدثة في الإسلام ليس هو من كلام أهل السنة العامة، فضلاً عن أن يكون من كلام محققي أهل السنة المحضة، وإنما أصله من كلام الفلاسفة واليونان الخارجين عن شريعة الإسلام، فالاحتجاج به والاستدلال به، ممن يدعي أنه من أهل السنة على أهل السنة المحضة خروج من الدين والعقل، وإنما تكلم فيه أئمة الإسلام لما دخل فيه بعض أهل السنة العامة، وبعض أهل السنة المحضة، واعتمدوا عليه في العقليات، فاحتاج أئمة الإسلام إلى

ص: 244

الكلام فيه لرد معقولاتهم الفاسدة بالنقل والعقل، وإذا كان أصله ومادته كذلك فبطلانه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام عقلاً ونقلاً.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في تفسير سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بعد كلام له سبق: وكان الذين امتحنوا أحمد رحمه الله وغيره من هؤلاء الجاهلين، فابتدعوا كلاماً متشابهاً نفوا به الحق، فأجابهم أحمد لما ناظروه في المحنة وذكروا الجسم1 ونحو ذلك، فأجابهم بأني أقول كما قال الله تعالى:{اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ} [الاخلاص:1-2] .

وأما لفظ الجسم فلفظ مبتدع محدث، ليس على أحد أن يتكلم به البتة، والمعنى الذي يراد به مجمل ولم تبينوا مرادكم حتى نوافقكم على المعنى الصحيح، فقال: ما أدري ما تقولون لكن أقول: {اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، يقول: ما أدري ما تعنون بلفظ الجسم، فأنا لا أوافقكم على إثبات لفظ ونفيه إذا لم يرد الكتاب والسنة بإثباته ولا نفيه إن لم

1 لفظ العبارة في النسخ الثلاث: "

في المحنة ونحو ذلك وذكروا الجسم فأجابهم" والتصحيح من كتاب شيخ الإسلام "تفسير سورة الإخلاص" ص 68.

ص: 245

يدر معناه المتكلم به، فإن عنى في النفي أو1 الإثبات ما يوافق الكتاب والسنة [وافقناه، وإن عنى ما يخالف الكتاب والسنة] 2 في النفي والإثبات لم نوافقه ولفظ الجسم والجواهر لم يأت في كتاب ولا سنة، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسائر أئمة الدين التكلم بها في حق الله تعالى لا بنفي ولا بإثبات.

ولهذا قال أحمد في رسالته إلى المتوكل: لا أحب التكلم في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة والتابعين.

وأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود.

وذكر أيضاً فيما حكاه عن الجهمية أنهم يقولون ليس فيه كذا وكذا وهو كما قال، فإن للفظ3 الجسم في اللغة التي نزل بها القرآن معنى كما قال تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] . وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] . قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه4 وعنقه

1 في النسخ: "و" والمثبت من كتاب ابن تيمية.

2 ما بين المعقوفين سقط من النسخ.

3 في النسخ: "لفظ" والثبت من المصدر السابق.

4 في النسخ: "منكبه" والمثبت من المصدر السابق.

ص: 246

ورأسه والبسطة: السعة. قال ابن قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء إذا كان مجموعاً ففتحته ووسعته. قال بعضهم: والمراد بتعظيم الجسم فضل القوة إذ العادة أن من كان أعظم جسماً كان أكثر قوة. فهذا لفظ الجسم في لغة العرب التي نزل بها القرآن.

قال الجوهري: قال أبو زيد الأنصاري: الجسم الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان.

وقال الأصمعي: الجسم والجسمان والجسد والجثمان واحد1. قال جماعة: جسم الإنسان يقال له الجسمان، وقد جسم الشيء أي عظم فهو جسيم وجسام والجسام بالكسر جمع جسم.

قال أبو عبيدة: تجسمت فلاناً من بين القوم أي اخترته كأنك قصدت جسمه، كما تقول تأتيه أي قصدت أتيه2 وشخصه، وأنشد أبو عبيدة:

تجسمته من بينهن بمرهف

وتجسمت الأرض إذا أخذت نحوها تريدها وتجسم من الجسم. وقال ابن السكيت: تجسمت الأمر أي ركبت أجسمه، وجسيمه أي معظمه. قال: وكذلك تجسمت

1 سقطت: "واحد" من النسخ، والمثبت من المصدر السابق ص 69.

2 في ط المنار والرياض: "نائيته أي قصدت أنيه".

ص: 247

الرمل والجبل أي ركبت أعظمه، والأجسم الأضخم، قال عامر بن الطفيل:

لقد علم الحي من عامر

بأن لنا الذروة والأجسما

فهذا الجسم في لغة العرب، وعلى هذا فلا يقال للهواء جسم، ولا للنفس الخارج من الإنسان جسم، ولا لروحه المنفوخة جسم، ومعلوم أن الله سبحانه لا يماثل شيئاً من ذلك لا بدن الإنسان ولا غيره، فلا يوصف الله بشيء من خصائص المخلوقين، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فلا يجوز أن يقال: هو جسم ولا جسد، انتهى.

وإذا كان هذا الجسم في لغة العرب كان منتفياً عن الله بهذا المعنى، لأن الله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فلا يماثله شيء من مخلوقاته، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فإن من شبه الله بخلقه فقد كفر، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وأما قوله: (وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة) .

ص: 248

فالجواب أن نقول: هذا على اصطلاح أهل الكلام، وقد عرفت ما في كلامهم من الاختلاف والنزاع بينهم، والجواب على كل مسلم أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبته، وما نفاه الله ورسوله نفاه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فتثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني، وتنفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني.

وأما هذه الألفاظ الذي تنازع فيها من ابتدعها فقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وأما أهل الكلام فالجسم عندهم أعم من هذا، وهم مختلفون في معناه اختلافاً كثيراً عقلياً، واختلافاً لفظياً اصطلاحياً، فهم يقولون: كل ما يشار إليه إشارة حسية فهو جسم، ثم اختلفوا بعد هذا.

فقال كثير منهم: كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة، ثم منهم من قال: الجسم أقل ما يكون جوهراً بشرط أن ينضم إليه غيره. وقيل: بل هو الجوهران والجواهر فصاعداً. وقيل: بل أربعة فصاعداً. وقيل: بل ستة. وقيل: بل ثمانية. وقيل: بل ستة عشر. وقيل: بل اثنان وثلاثون. وهذا قول من يقول: إن الأجسام كلها مركبة من الجواهر التي لا تنقسم. وقال آخرون من أهل الفلسفة: كل الأجسام مركبة من الهيولي والصورة، لا من الجواهر المنفردة. وقال كثير من أهل الكلام وغير أهل

ص: 249

الكلام: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا. وهذا قول الهشامية والكلابية والضرارية وغيرهم من الطوائف الكبار، لا يقولون بالجواهر الفردية، ولا بالمادة والصورة. وآخرون يدعون إجماع المسلمين على إثبات الجوهر الفرد، كما قال أبو المعالي وغيره: اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئتها وانقسامها حتى تصير أفراداً، ومع هذا فقد شك وكذلك شك فيه فيه أبو الحسين البصري، وأبو عبد الله الرازي.

ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من أئمة المسلمين، لا من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من أئمة العلم المشهورين بين المسلمين، وأول من قال ذلك في الإسلام طائفة من الجهمية والمعتزلة، وهذا من الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولكن حاكي هذا الإجماع لما لم يعرف أصول الدين إلا ما في كتب الكلام، ولم يجد إلا من يقول بذلك: اعتقد هذا إجماع المسلمين.

والقول بالجوهر الفرد باطل. والقول بالهيولي والصورة باطل. وقد بسط الكلام على هذه المقالات في مواضع أخر.

وقال آخرون: الجسم هو القائم بنفسه، وكل قائم بنفسه، وكل جسم فهو قائم بنفسه، وهو مشار إليه.

ص: 250

واختلفوا في الأجسام هل هي متماثلة أم لا على قولين مشهورين. وإذا عرف ذلك فمن قال: إنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قوله باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت لله مثلاً في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال: إنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل، ومن قال: ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة، ولا يتكلم بالقرآن، وغيره من الكلام، ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء، ولا عرج بالرسول إليه: فهذا قول باطل، وكذلك من نفى ما أثبت الله ورسوله، وقال: إن هذا تجسيم فنفيه باطل، وتسميته ذلك تجسيماً تلبيس منه، فإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسماً مركباً من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، أو أن هذا يقتضي أن يكون جسماً والأجسام متماثلة، قيل له: أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة، وفي أنها مركبة، فلا يقولون: إن الهواء1 مثل الماء، وأبدان الحيوان مثل الحديد والجبال، فكيف يوافقونك على أن الرب تعالى يكون مماثلاً لخلقه إذا أثبتوا له ما أثبته الكتاب والسنة، والله تعالى قد نفى الماثلة في بعض المخلوقات وكلاهما

1 في النسخ: (الهوى) .

ص: 251

جسم كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] . مع أن كليهما بشر، فكيف يجوز أن يقال: إذا كان لرب السموات علم وقدرة أنه يكون مماثلاً لخلقه، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

ونكتة الأمر أن الجسم في اعتقاد هذا النافي يستلزم مماثلة سائر الأجسام، ويستلزم أن يكون مركباً من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، قلت: وهذا هو نتيجة قول هذا العراقي ومرامه، حيث قال: وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة.

ثم قال شيخ الإسلام: وأكثر العقلاء يخالفونه، فالتلازم منتف باتفاق الفريقين، وهو المطلوب، فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن الله شرعاً وعقلاً، بقي بحثهم في الجسم الاصطلاحي هل هو مستلزم لهذا المحذور، وهو بحث عقلي كبحث الناس في الأعراض هل تبقى أو لا تبقى، وهذا البحث العقلي لم يرتبط به دين المسلمين، بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر عن السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً، فليس لأحد أن يبتدع اسماً مجملاً يحتمل معاني مختلفة لم ينطق بها الشرع، ويعلق به دين المسلمين، ولو كان قد

ص: 252

نطق باللغة العربية، فكيف إذا أحدث اللفظ معنى آخر، والمعنى الذي يقصده إذا كان حقاً عبر عنه بالعبارة التي لا لبس فيها، فإذا كان معتقده أن الأجسام متماثلة فإن الله ليس كمثله شيء، وهو سبحانه لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، فهذا عبارة القرآن تؤدي هذا المعنى بلا تلبيس ولا نزاع، وإن كان معتقده أن الأجسام غير متماثلة وإن كان يرى ما يقوم به من الصفات فهو جسم فإن عليه أن يثبت ما أثبته الله ورسوله من علمه وقدرته وسائر صفاته كقوله:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:58]، وقوله في حديث الاستخارة:"اللهم أني أستخريك بعلمك وأستقدرك بقدرتك على الخلق" 1، ويقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم ترون ربكم يوم القيامة عياناً كما

1 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب التهجد- باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى 3/48. وفي كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة 11/183، وفي كتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى: {قل هو القادر} من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: سمعت محمد المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله السلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها –كما يعلم السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدم ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب

" الحديث.

ص: 253

ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته" 1، فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئي كالمرئي، فهذه عبارات

1 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب المواقيت الصلاة- باب فضل صلاة العصر 2/33، وباب صلاة الفجر 2/52. وفي كتاب التفسير –باب {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] 8/597. وفي كتاب التوحيد. باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/419 عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: " إنكم سترون ربكم [عياناً] كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته

" الحديث.

وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب المساجد ومواضع الصلاة- 1/439-440.

وأخرج البخاري في صحيحه –كتاب الأذان-باب فضل السجود، 2/292-293. وكتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، 11/444-445. وفي التوحيد –باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/419 حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فإنكم ترونه كذلك

" الحديث بطوله.

وأخرجه البخاري عن محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة.. به (كتاب الرقاق) .

وأخرجه عن عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة.. (كتاب التوحيد) .

وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/163-164 من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره

الحديث.

وعندهما: قال عطاء بن يزيد –راوي الحديث عن أبي هريرة-: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئاً، حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله تبارك وتعالى قال: ذلك لك ومثله معه. قال أبو سعيد الخدري: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة

الخ.

وأخرج البخاري في صحيحه –كتاب التوحيد- باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/420، ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/167، كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، أنا أناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: "هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟ " قالوا: لا. قال: "ما تضارون في رؤيته تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضرون في رؤية أحدهما

" الحديث بطوله. هذا لفظ مسلم.

ص: 254

الكتاب والسنة عن هذا المعنى الصحيح بلا تلبيس ولا نزاع بين أهل السنة المتبعين للكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ثم بعد هذا من كان تبين له معنى من جهة العقل أنه لازم للحق لم يدفعه عن عقله فلازم الحق حق، لكن ذلك المعنى لا بد أن يدل الشرع عليه، فيشبه بالألفاظ الشرعية، وإن قدر أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده، وحينئذ فليس لأحد أن

ص: 255

يدعو الناس إليه، وإن قدر أنه في نفسه حق.

ومسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر المنفردة قد اضطرب فيها جماهير أهل الكلام، وكثير منهم يقول بهذا تارة، وبهذا تارة، وأكثر ذلك لأجل الألفاظ المجملة، والمعاني المتشابهة، وقد بسط1 الكلام عليه في غير هذا الموضع، لكن المقصود هنا أنه لو قدر أن الإنسان تبين له أن الأجسام ليست متماثلة ولا مركبة، لا من هذا ولا من هذا، لم يكن له أن يبتدع في دين الإسلام قوله: إن الله جسم، ويناظر على المعنى الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة، بل يكفيه إثبات ذلك المعنى بالعبارات الشرعية، ولو قدر أنه تبين له أن الأجسام متماثلة وأن الجسم مركب لم يكن له أن يبتدع النفي بهذا الاسم، ويناظر على معناه الذي اعتقده بعقله، بل ذلك المعلوم بالشرع والعقل يكمن إظهاره بعبارة لا إجماع فيها، ولا تلبيس، والذين يقولون: الجسم مركب من الجواهر. يدعي كثير منهم أنه كذلك في لغة العرب، لأن العرب يقولون: هذا أجسم من هذا، يريدون به أنه أكثر أجزاء منه، ويقولون: هذا جسيم أي كثير الأجزاء، قال: والتفضيل بصيغة أفعل إنما يكون لما يدل عليه الاسم،

1 في ط الرياض: "أبسط".

ص: 256

فإذا قيل: هذا أعلم أو أسلم، كان ذلك دالاً على الفضيلة فيما دل عليه لفظ العلم والحلم، فلما قالوا: أجسم لما كان أكثر أجزاء، دل على أن لفظ الجسم عندهم المراد به المركب، فمن قال: جسم وليس مركب، فقد خرج من لغة العرب. قالوا: وهذه تخطئة في اللفظ، وإن كنا لا نكفره إذا لم يثبت خصائص الجسم من التركيب والتأليف، وقد نازعهم بعضهم في قولهم: هذا أجسم من هذا. وقالوا: ليس هذا اللفظ من لغة العرب كما يحكى عن ابن زيد. فيقال له: لا ريب أن العرب تقول هذا جسيم، أي عظيم الجثة، وهذا الجسم من هذا، أي أعظم جثة، لكن كون العرب تعتقد أن ذلك لكثرة الأجزاء التي هي الجواهر المفردة، إنما يكون إذا كان أهل اللغة قاطبة يعتقدون أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة، والجوهر الفرد هو شيء قد بلغ من الصغر والحقارة إلى أنه لا يتميز يمينه من يساره، ومعلوم أن أكثر العقلاء من بني آدم لا يتصور الجوهر الفرد، والذين يتصورونه أكثرهم لا يثبتونه، والذين أثبتوه إنما أثبتوه بطريقة خفية، طويلة بعيدة، فيمتنع أن يكون اللفظ1 الشائع في الغة التي ينطق بها خواصها وعوامها أرادوا به هذا.

1 في ط الرياض: "لفظ".

ص: 257

وقد علم بالاضطرار أن أحداً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينطق بإثبات الجوهر الفرد، ولا بما يدل على ثبوته عنده، بل ولا العرب قبلهم، ولا سائر الأمم الباقين على الفطرة1، ولا اتباع الرسل، فكيف يدعى عليهم أنهم لم يقولوا لفظ الجسم إلا لما كان مركباً مؤلفاً، ولو قلت لمن شئت من العرب: الشمس والقمر والسماء مركب عندك من أجزاء صغار، كل منها لا يقبل التجزي، أو الجبال أو الهواء2، أو الحيوان والنبات. لم يتصور هذا المعنى إلا بكلفة، ثم إذا تصور قد يكذب بفطرته، ويقول: كيف يمكن أن يكون شيء لا يتميز منه جانب عن جانب.

وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد، والفقهاء قاطبة تنكره، وكذلك أهل الحديث والتصوف. ثم ذكر كلاماً في استحالة بعض الأجسام إلى بعض، ثم ذكر بعد ذلك ما يراد بالجسم في لغة العرب، وأنهم إنما يريدون بقولهم هذا أجسم من هذا، أي أغلظ وأعظم منه، ونفى أن يكون ذلك لزيادة الأجزاء، ثم قال:

فقد تبين أن من قال: الجسم هو المؤلف والمركب، واعتقد أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة فقد ادعى

1 في ط الرياض: "العطرة".

2 في النسخ: (الهوى) .

ص: 258

معنى عقلياً ينازعه فيه أكثر العقلاء من بني آدم، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه وافقه عليه، وأنه جعل لفظ الجسم في اصطلاحه يدل على معنى لا يدل عليه اللفظ في اللغة، فقد غير معنى اللفظ في اللغة، وادعى معنى عقلياً فيه نزاع طويل، وليس معه من الشرع ما يوافق ما ادعاه من معنى اللفظ، ولا ما ادعاه من المعنى العقلي، فاللغة ما تدل على ما قال، والشرع لا يدل على ما قال، والعقل لم يدل على مسميات الألفاظ، وإنما يدل على المعنى المجرد وذلك فيه نزاع طويل، ونحن نعلم بالاضطرار إلى ذلك المعنى الذي وجب نفيه عن الله لا يحتاج نفيه إلى ما أحدثه هذا من دلالة اللفظ، ولا ما ادعاه من المعنى العقلي، بل الذي جعلوه عمدتهم في تنزيه الرب على نفي مسمى الجسم، لا يمكنهم أن ينزهوه عن شيء من النقائص البتة، فإنهم إذا قالوا هذا من صفات الأجسام، فكل ما يثبتونه هو أيضاً من صفات الأجسام، مثل كونه حياً عليماً قادراً بل كونه موجوداً قائماً بنفسه، فإنهم لا يعرفون هذا في الشاهد إلا جسماً، فإذا قال المنازع: أنا أقول فيما نفيتموه نظير قولكم فيما أثبتموه انقطعوا، انتهى.

والمقصود أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من المادة والصورة، ولا من الجواهر المنفردة، فلو كان فوق العرش جسم مخلوق ومحدث لم يلزم أن

ص: 259

يكون مركباً بهذا الاعتبار، فكيف ذلك في حق خالق الفرد والمركب الذي يجمع المتفرق، ويفرق المجتمع، ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاء؟

والعقل إنما دل على إثبات إله واحد، ورب واحد لا شريك له، ولا شبيه له، لم يلد ولم يولد، ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له، ولا صفة ولا وجه، ولا يدين، ولا هو فوق خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه، كما هي كذب صريح على الوحي.

ص: 260