الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في التوسل
…
فصل
قال العراقي: (التوسل وأدلة جوازه.
قبل الخوض في المطلب نبين لك أن المراد من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين، والتوسل بهم، هو: أنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وأن الله تعالى هو الفاعل، كرامة لهم لا أنهم هم الفاعلون، كما هو المعتقد الحق في سائر الأفعال، فإن السكين لا يقطع بنفسه، بل القاطع هو الله تعالى، والسكين سبب عادي خلق الله تعالى القطع عنده) .
والجواب1 أن نقول: وقبل الكلام على ما يبطل دعواه، لا بد من مقدمة ينبني2 عليها الجواب، فنقول:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه
1 في ط الرياض "فالجواب".
2 في الأصل "يبني".
إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة: يراد به التسبب به، لكونه داعياً، وشافعاً مثلاً، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، فيكون التسبب إما بمحبة السائل له، واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته.
ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا بشيء منه، ولا بشيء من السائل، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه.
وكذلك لفظ السؤال بالشيء قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام.
وإذا تبين لك هذا فاعلم أن معنى التوسل في لغة الصحابة رضي الله عنهم وعرفهم أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكون التوسل والتوجه به في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وهذا لا محذور فيه، بل هذا هو المشروع، كما في حديث:"الثلاثة الذين أووا إلى الغار" وهو حديث مشهور في "الصحيحين" فإنهم توسلوا إلى الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله تعالى، ويتوجه به إليه، ويسأله به، لأنه وعد
أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه.
فمن جعل دعاء الأولياء والصالحين سبباً لنيل المقصود، كأن يطلب من الولي أو الصالح يدعو الله له، لكونه مطيعاً لله، محباً له، فيشفع له عند الله، بدعاء الله له، فهذا حق، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون إلى الله سبحانه برسوله، فيدعو الله لهم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا"، فاستسقوا به، كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، كالإمام والمأمومين، من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق.
فإذا تحققت ذلك، فاعلم أن التوسل في عرف أهل هذا الزمان واصطلاحهم هو دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين، وصرف خالص حق الله تعالى لهم بجميع أنواع العبادات، من الدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر والالتجاء إليهم، والاستغاثة بهم، والاستعانة
والاستشفاع بهم، وطلب الحوائج من الولائج في المهمات والملمات، لكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، إلى غير ذلك من الأمور التي صرفها المشركون لغير فاطر الأرض والسموات، فمن صرف من هذه الأنواع شيئاً لغير الله كان مشركاً، وسيأتي الكلام على مسألة الاستغاثة.
وأما قوله: (إنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وإن الله تعالى هو الفاعل
…
) إلى آخره.
فأقول: وهذا هو قول الجاهلية الكفار، فإنهم ما عبدوا الأنبياء، والأولياء والصالحين، إلا لكونهم أسباباً ووسائل لنيل المقصود، وإلا فهم يعتقدون أن الله هو النافع الضار، وأنه المتفرد بالإيجاد والإعدام، وأن الله هو الخالق للأشياء، وأن الله هو رب كل شيء ومليكه، ولا يعتقدون أن آلهتهم التي يدعونها من دون الله من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة، شاركوا الله في خلق السموات والأرض، أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين عباد الأوثان.
وقال شيخ الإسلام: الخامس أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من
هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سبباً في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت، أو غائب من البشر كان، أو غيره كان ذلك سبباً في حصول الرزق، والنصر والهدى، وغير ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذين شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين:
أحدهما: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه، فإن المسافر قد يكون سفره سبباً لأخذ ماله، وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سبباً لمال يعطونه، وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سبباً لنيل المال يؤخذ من المشهود له، وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سبباً لنيل مطلب، وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب، وهو محرم، وكذلك الشرك كدعوة الكواكب والشياطين، بل وعبادة البشر قد يكون سبباً لبعض المطالب، وهو محرم.
فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كان مفسدته راجحة على مصلحته، كالخمر وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحياناً، وهذا المقام ما يظهر به ضلال هؤلاء
المشركين خلقاً وأمراً، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية. انتهى.
وأما قوله: (وإن الله تعالى هو الفاعل، كرامة لهم، لا أنهم هم الفاعلون) .
فالجواب أن نقول: أولاً: ليس دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين والاستغاثة بهم في نيل المقصود سبباً شرعياً، فإن هذه من الأسباب المحرمة، كما تقدم في كلام الشيخ.
وثانياً: لو سلمنا أن الكرامات سبب، فمن أين يؤخذ أنها سبب يقتضي دعاء من قامت به، أو فعلت له؟ ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟ وأفضل الناس الرسل. والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات والمقامات ما ليس لغيرهم، فقد جاء عيسى بن مريم بما هو من أفضل المعجزات والكرامات: يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيى الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب ما يأكلون وما يدخرون. وقد أنكر الله تعالى على من قصده ودعاه في حاجاته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر به، ضال بعبادة غيره، قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ
تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] . والأرباب هم المعبودون المدعوون. وقال تعالى فيمن عبدوا المسيح: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76] . فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعاً ولا ضراً -وإن قل- كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته، وأنكرها أشد الإنكار، ومعجزاته أوضح من الشمس في وسط النهار.
وأما قوله: (فإن السكين لا يقطع بنفسه، بل القاطع هو الله تعالى، والسكين سبب عادي، خلق الله تعالى القطع عنده) .
فالجواب أن يقال: هذا القول من أقوال أهل البدع والأهواء، وليس هو من كلام أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام:
وهؤلاء هم الاقترانية الذين يقولون: إن الله يخلق عند السبب لا بالسبب، ومن نحا نحوهم من المتصوفة القائلين بإسقاط الأسباب الظاهرة، وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سبباً لشيء أصلاً، ولا شيء جعل لشيء، ولا يكون شيء لشيء، فالشبع عندهم لا يكون
بالأكل، ولا العلم الحاصل في القلب بالدليل، ولا ما يحصل للمتوكل من الرزق والنصر له سبب أصلاً لا في نفسه، ولا في نفس الأمر، ولا الطاعات عندهم سبب للثواب، ولا المعاصي سبب للعقاب، فليس للنجاة وسيلة، بل محض الإرادة الواحدة يصدر عنها كل حادث، ويصدر مع الآخر مقترناً به اقتراناً عادياً لا أن1 أحدهما متعلق بالآخر، أو سبب له، أو حكمة له، ولكن لأجل ما جرت به العادة من اقتران أحدهما بالآخر يجعل أحدهما أمارة وعلماً ودليلاً على الآخر، بمعنى إذا وجد أحد المقترنين عادة كان الآخر موجوداً معه، وليس العلم الحاصل في القلب حاصلاً بهذا الدليل، بل هذا أيضاً من جملة الاقترانات العادية.
وقال أيضاً بعد كلام سابق:
وكذلك أيضاً لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسباباً وقوى وطبائع، ويقولون: إن الله يفعل عندها لا بها، فيلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز. وإن أثبت قدرة وقال: إنها مقترنة بالكسب، قيل له: لم2 تثبت فرقاً معقولاً بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل، ولا بين
1 في ط الرياض "لأن".
2 سقطت "لم" من ط الرياض.
القادر والعاجز، إذ كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته، وغير ذلك من صفاته، فإن لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها، وكذلك قول من قال: القدرة مؤثرة في صفة الفعل، لا في أصله، كما يقوله القاضي أبو بكر، ومن وافقه، فإنه أثبت تأثيراً بدون خلق الرب، فلزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله تعالى، وإن جعل ذلك معلقاً بخلق الرب فلا فرق بين الأصل والصفة.
وأما أئمة السنة وجمهورهم فيقولون ما دل عليه الشرع والعقل، قال تعالى:{سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، وقال:{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164]، وقال تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16]، وقال تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} 1 [البقرة: 26] ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب. انتهى المقصود منه.
1 من هنا إلى ص 500 بياض بالأصل (الطبعة الهندية) وقد رجعت إلى أكثر من نسخة فتتفق في هذا البياض، وهو من ص 586 إلى ص 593.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء، بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله تعالى سبحانه أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وقف العبد للدعاء كان ذلك علامة له، وأمارة على أن حاجته قد قضيت. وهكذا، كما إذا رأيت غيماً أسوداً بارقاً في زمن الشتاء، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر. قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب، لا أنها أسباب له، وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سبباً ألبتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الاقتران العادي، لا التأثير السببي، وخالفوا بذلك الحس، والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء.
والصواب: أن هنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى ما لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، إلى أن قال:
وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشر في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع
…
إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
والمقصود بيان ضلال هذا الملحد في قوله: (والسكين سبب عادي خلق الله القطع عنده) . فاجتمع في هذا الملحد أنواع الشر والضلال، فأضاف إلى كونه مشركاً في عبادة الله غيره مذهب الجهمية النافين لعلو الله على خلقه، ونفي صفات كماله ونعوت جلاله، ومذهب المعتزلة والرافضة مع مذهب الجهمية في جحد رؤية الله تعالى في الآخرة. ومذهب الاقترانية في إسقاط الأسباب القائلين إن الله يخلق عند السبب لا السبب.
ومراد هذا الملحد: أن دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين سبب عادي لنيل المقصود، وقد تقدم من الأدلة ما يبين أن تعاطي هذا السبب محرم، وأن دعاء الأموات والغائبين من الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك، وأنه ليس بسبب شرعي.