الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في رد فرية بأنهم خوارج
…
فصل
قال العراقي: (تمسك ابن عبد الوهاب في تكفير الناس بآيات نزلت في المشركين، فحملها على الموحدين) .
الجواب أن يقال: هذا كذب بحت، فإنه لا يكفر رحمه الله أهل التوحيد، ولا يحمل الآيات النازلة في المشركين على الموحدين، وإنما يكفر من أشرك بالله في عبادته، واتخذ معبوداً سواه.
مع أن هذا المعترض لم يذكر الآيات التي زعم أن الشيخ رحمه الله تمسك بها في تكفير الناس حتى ننظر هل كان محقاً في ذلك القول أو مبطلاً ضالاً؟
ويقال أيضاً: إن من1 منع تنزيل القرآن، وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل تحت العموم اللفظي فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما
1 سقطت: "من" من ط الرياض.
عليه أهل الإسلام وعلماؤهم قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، ومن أعظم الناس تعطيلاً للقرآن، وهجراً له، وعزلاً له عن الاستدلال به في موارد النزاع، وقد قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} [النساء: 59] الآية. والرد إلى الله1 هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول رد إلى سنته، وقد قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وقد قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ} [الأنعام:19] ، فنصوصه وأحكامه عامة لا خاصة بخصوص السبب، وما المانع من تكفير من فعل كما فعلت اليهود من الصد عن سبيل الله والكفر به، مع معرفته، وهذا العراقي لا يبدي قولةً في اعتراضه وتلبيسه إلا هي أكبر من أختها في الجهالة والضلالة، ولو كان يعرف الكتاب العزيز، وما دل عليه من الأحكام والاعتبار لأحجم عن هذه العبارات التي لا يقولها إلا أفلسُ الخلق من العلم والإيمان.
وأما قوله: (وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه في وصف الخوارج: أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين، وفي رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخوف ما أخاف
1 سقطت: "الله" من ط الرياض.
على أمتي رجل متأول للقرآن يضعه في غير موضعه"، فهذا وما قبله صادق على ابن عبد الوهاب وأتباعه) .
فالجواب أن يقال: هذا الوصف هو المنطبق عليك، وعلى من نحا نحوك من أهل الضلال، حيث زعمت أن لكتاب الله وسنة رسوله ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات فتأول إما إجمالاً ويفوض أمرها إلى الله، وإما تفصيلاً كما هو رأي الكثيرين، فالذي يتأول القرآن، ويضعه في غير موضعه، ويصرفه عن القول الراجح إلى القول المرجوح بالتحكم والهوى -لأن كتاب الله وسنة رسوله عندكم أدلتهما ظنية، لا تعارض نتائج عقول الفلاسفة وورثة المجوس والصائبة وطواغيت اليونان ومن أخذ بأقوالهم من المتكلمين، بل قد صرحت أن العقل يقدم على النقل- فمن قدم معقول هؤلاء على كتاب الله وسنة رسوله فقد خرج من الدين، وفارق جماعة المسلمين.
وأما ابن عبد الوهاب، فهو وأتباعه لا يتأولون القرآن، ولا يضعونه في غير موضعه، بل يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ولا يتأولون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، كما تفعلون أنتم في تأويل آيات الصفات وأحاديثها.
وحاصل مقصود هذا العراقي ونقله: تشبيه أهل
الإسلام والتوحيد بالخوارج في تكفيرهم من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين ودعاهم مع الله -لأن عباد القبور عنده هم أهل التوحيد وأهل الإسلام- من جنس الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة، هذا حاصل كلامه، ومضمونه خطابه، وهذا داء قديم في أهل الشرك والتعطيل، من كفرهم بعبادة غير الله، وتعطيل أوصافه، وحقائق أسمائه، قالوا له: أنت مثل الخوارج، يكفرون بالذنوب، ويأخذون بظواهر الآيات.
ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وتختلف بحسب منافاتها لأصل الحكمة المقصودة بإيجاد العالم، وخلق الجن والإنس، وبحسب ما يترتب عليها من هضم حقوق الربوبية، وتنقص رتبة الإلهية، وقد كفر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بكثير من جنس الذنوب: كالشرك وعبادة الصالحين، وأخبر أنه أكبر الكبائر، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! أي الذنوب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك"، قال قلت: ثم أي؟، قال:"أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك"، قال: قلت: ثم أي؟، قال:"أن تزاني حليلة جارك"، فأنزل الله تعالى:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] الآية1.
1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/492 وفي الأدب 10/433 وفي الحدود 12/114، وفي التوحيد 13/491، ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/90-91.
فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة، ومن فرق بين ما فرق الله ورسوله من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة، وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب والكفر فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة.
ونحن لم نكفر أحداً بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد كما حكاه في "الإعلام" لابن حجر الشافعي.
وأما قوله: (ويظهر من أقواله وأفعاله أنه كان يدّعي أن ما أتى به دين جديد) .
فالجواب أن نقول: بل الذي يظهر من أفعاله وأقواله خلاف ما يزعمه هؤلاء الضلال، فإنه كان رحمه الله على الدين العتيق الذي كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، من الدعوة إلى دين الله، كما قال رحمه الله في رسالته إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي قال:
وأما ما ذكرتم عني فإني لم آته بجهالة، بل أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل: ابن القيم، والذهبي، أو ابن كثير، أو غيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى1 سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجوا أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتاني منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقول إلا الحق اهـ.
فهذا نص كلامه رحمه الله كما ترى لم يقل فيه ولا في غيره من كلامه: إن ما أدعوكم إليه دين جديد، بل كان رحمه الله يجدد ما اندرس من معالم الدين العتيق، ويوطد أساس الملة المحمدية التي انطمست أعلامها، وأقوت رسومها، كما قال الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في أبيات له، قال فيها:
قفي واسألي عن عالم حل سوحها
…
به يهتدي من ضل هن منهج الرشد
1 في ط الرياض: "إلى الله" وهو خطأ.
محمد الهادي لسنة أحمد
…
فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
لقد أنكرت كل الطوائف قوله
…
بلا صدر في الحق منهم ولا ورد
وما كل قول بالقبول مقابل
…
ولا كل قول واجب الرد والطرد
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله
…
فذلك قول جل يا ذا عن الرَّدِّ
وأما أقاويل الرجال فإنها
…
تدور على قدر الأدلة في النقدِ
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
…
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهراً ما طوى كل جاهلٍ
…
ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادماً
…
مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سواع ومثله
…
يغوث وود بئس ذلك من وُدِّ
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
…
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة
…
أهلت لغير الله جهراً على عمد
وكم طائف حول القبور مقبلٍ
…
ومستلم الأركان منهن باليدِ
وقال الشيخ الإمام عالم الأحساء أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى في أبيات له:
لقد رفع المولى به رتبة الهدى
…
بوقت به يعلو1 الضلال ويرفعُ
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى
…
وعاد2 بتيار المعارف يقطع
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه
…
وأوهي به من مطلع الشرك مهيع
سما ذورة المجد التي ما ارتقى لها
…
سواه ولا حاذى فِناها سميدع
وشمر في منها سنة أحمد
…
يشيد ويحيي ما تعفى ويرفع
يناظر بالآيات والسنة التي
…
أمرنا إليها في التنازع نرجع
1 في ط المنار والرياض: "يعلى".
2 في الأصل: "وعامّ".
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها
…
وأمسى محياها يضيء ويلمع
وعاد به نهج الغواية طامساً
…
وقد كان مسلوكاً به الناس تربع1
وجرت به نجد ذيول افتخارها
…
وحق لها بالألمعي ترفع
فآثاره فيها سوام سوافر
…
وأنواره فيها تضيء وتسطع2
وبهذا يظهر لكل ذي عقل سليم، ودين مستقيم، أنه لم يكن يدعو إلى دين جديد كما يزعمه هؤلاء المارقون عن دين الإسلام.
وأما قوله: (ولذلك لم يقبل من دين النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، وقبوله إياه إنما كان ظاهراً) .
فالجواب أن نقول: وهذا أيضاً من نمط ما قبله من المفتريات، ورعونات الخزعبلات والخرافات.
وأما قوله: (والدليل على ذلك أنه هو وأتباعه كانوا
1 في الأصل تأخير هذا البيت.
2 في ط المنار: "وتستطع"!
يأولون القرآن بحسب أهوائهم، لا بحسب ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والسلف الصالح، وأئمة التفسير، وما كان يقول بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، ولا بما استنبطه الأئمة من الكتاب والسنة، ولا يأخذ بالإجماع، ولا القياس الصحيح، وكان يدعي الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد كذباً وتستراً، وقد رد عليه أضاليله كثير من علماء الحنابلة، وألفوا في ذلك رسائل عديدة، حتى أخوه سليمان بن عبد الوهاب ألف رسالة في الرد عليه كما ذكرناه، وكان يقول لعماله: اجتهدوا بحسب نظركم، واحكموا بما ترونه مناسباً للدين، ولا تلتفتوا لهذه الكتب المتداولة، فإن فيها الحق والباطل، وقتل كثيراً من العلماء والصالحين لأنهم لم يوافقوه على ما ابتدعه) .
فالجواب أن نقول: قد أجاب عن هذه الأكاذيب والمفتريات الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقال رحمه الله:
[وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق بأنا نفسر القرآن برأيتنا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح، ولا نعول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رُمة في قبره، وعصا
أحدنا أنفع منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} [محمد: 19] ، مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد أقواله، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق من بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه. ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت، وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شاباً إذا ترافعوا إلينا، ولا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكرنا جوابنا عليه في كل مسألة سبحانك هذا بهتان عظيم.
فمن روى عنا شيئاً من ذلك، ونسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا، وحضر مجلسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص الله على أنه لا يغفره ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] .
فهذا وأشباهه مما تقدم ذكره عن هذا العراقي وأمثاله من الكذب على شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام لا يعتمد عليه ويصدقه في ذلك إلا ضال مضلّ.