الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في زعم الملحد تقديم العقل لأنه الأصل
…
فصل
ثم قال العراقي: (لا ريب أنه إذا تعارض العقل والنقل أوِّل1 النقل بالعقل، إذ لا يمكن حينئذ الحكم بثبوت مقتضى كل منهما، لما يلزم عنه من اجتماع النقيضين، ولا بانتفاء2 ذلك لاستلزامه ارتفاع النقيضين، لكن بقي أن يقدم النقل على العقل، أو العقل على النقل، والأول باطل؛ لأنه إبطال للأصل بالفرع وإيضاحه: أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، وذلك لأن إثبات الصانع، ومعرفة النبوة، وسائر ما يتوقف صحة النقل عليه لا يتم إلا بطريق العقل، فهو أصل للنقل الذي تتوقف صحته عليه، فإذا قدم على العقل وحكم بثبوت مقتضاه وحده، فقد أبطل الأصل بالفرع، ويلزم منه إبطال الفرع أيضاً، إذ تكون حينئذ صحة النقل متفرعة على حكم العقل الذي يجوز فساده وبطلانه، فلا يقطع بصحة النقل، فلزم من تصحيح النقل بتقديمه على العقل
1 في ط الرياض: "أو".
2 في ط الرياض: "بانتقاء".
عدم صحته، وإذا كان تصحيح الشيء منجراً1 إلى إفساده كان مناقضاً لنفسه، فكان باطلاً، فإذا لم يمكن تقديم النقل على العقل بالدليل السابق، فقد تعين2 تقديم العقل على النقل، وهو المطلوب) .
والجواب أن نقول: إذا تعارض النقل والعقل، وجب تقديم النقل، لأن العقل مصدق للنقل في كل ما أخبر به، والنقل لم يصدق العقل في كل3 ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل، فالواجب رد ما اشتبه4 إلى نصوص الكتاب والسنة، ولا يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو بقول من يقول العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل، والعقل أصل النقل، فإذا عارضه قدمنا العقل، وهذا لا يكون قط، لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك، فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعي أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح، فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً، ونعارض5 كلام من يقول ذلك بنظره6.
فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل،
1 في ط الرياض: "منجزاً".
2 في ط الرياض: "يعين".
3 في ط الهند: "كلما".
4 في ط الرياض: "ما أثبته".
5 في ط الرياض: "وتعارض".
6 هو في: موافقة صريح المعقول 1/116 بنحوه.
لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دل على صحة السمع، ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يلزم أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل، فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمله بشبهة أو شك، أو نقدم عليه آراء الرجال، وزبالة أذهانهم.
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير1
1 في الأصل: "أن لا يصير".
عالماً، ولا يمكن العالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً فدل عليه عامياً آخر، ثم اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي، لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتٍ، فلزم القدح في فرعه. فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفت، ودللت عليه، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك؛ لأنه مفت. هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ1، والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له، والانقياد لأمره.
وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها، قد تضمنت كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه لا
1 في ط الرياض: "يخطأ".
نتلقى منه هدياً ولا علماً، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرض منه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن يؤمن بشيء مما جاء به الرسول، إذ العقول متفاوتة والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوسواس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به.
وقد قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة: 99]، وقال:{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4]- {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] – {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 1-2]- {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] – {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] – {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] .
ونظائر ذلك كثيرة في القرآن، فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على
الحق أم لا. الثاني: باطل، وإن كان قد تكلم على الحق بألفاظ مجملة محتملة فبلغ البلاغ المبين، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم بالموقف الأعظم، فمن يدع أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين فقد افترى عليه صلى الله عليه وسلم.
[وفي المعلوم بالاضطرار أن عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق، فلو وزن عقله بعقولهم لرجحها، وقد أخبر الله أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان، كما لم يكن يدري الكتاب، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] . وقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 6-8] وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر سورة الشورى.
فإذا كان أعقل الخلق على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50] فكيف يحصل لسفهاء العقول، وأخفاء الأحلام: الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم، دون نصوص الوحي، حتى اهتدوا بتلك الهداية
إلى المعارض بين العقل ونصوص الأنبياء {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم:89-90]1.
وقد سئل شيخ الإسلام عن مثل ما أورده هذا الملحد فقال:
قول السائل: (وإذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر2 النقلية، والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا3 جميعاً، وإما أن يقدم السمع، وهو محال لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل ثم النقل، إما أن يتأول وأما أن يفوض، وإما إذا تعارضاً تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما) .
قال رحمه الله تعالى: وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانوناً كلياً فيما يستدل به من كتب الله، وكلام أنبيائه، وما لا يستدل به، ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت
1 ما بين المعقوفين سقط من ط الهند.
2 في ط الهند: "الظاهر".
3 في ط الهند: "يردان".
به الأنبياء والمرسلون -صلوات الله وسلامه عليهم- في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها، وظن هؤلاء أن العقل يعارضها، وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين.. إلى أن قال:
ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع1 كل فريق لأنفسهم قانوناً فما جاءت بها الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه.
وهذا يشبه ما وضعه النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص2 التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء، أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد، وإما في المتن، وأما هؤلاء فقد وضعوا قوانينهم على ما رأوه3 بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي4 والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، لكن النصارى يشبههم
1 في ط الهند: "يصنع".
2 سقطت: "نصوص" من ط الرياض.
3 في ط الرياض: "ما رواه".
4 في ط الهند: "الري".
من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص، أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية، والفلاسفة، فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء.
ثم ذكر طريقة أهل التبديل وطريقة أهل التجهيل، وطريقة أهل التحريف والتأويل، وقد تقدم منه طرفاً إلى أن قال:
وإجماع الأمر أن الأدلة نوعان: شرعية وعقلية.
فالمدعون لمعرفة الإلهيات بعقولهم، من المنتسبين إلى الحكمة والكلام والعقليات، يقول من يخالف نصوص الأنبياء منهم: إن الأنبياء لم يعرفوا الحق الذي عرفناه، أو يقولون: عرفوه ولم يبينوه للخلق كما بيناه، بل تكلموا بما يخالفه من غير بيان منهم.
والمدعون للسنة والشريعة واتباع السلف من1 الجهال بمعانبي النصوص2 يقولون: إن الأنبياء –والسلف الذين اتبعوا الأنبياء- لم يعرفوا معاني هذه النصوص التي
1 "من" وضعتها من: درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام 1/19 ط الشيخ محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى.
2 في "الدرء": "نصوص الأنبياء".
قالوها والتي بلغوها عن الله، أو إن1 الأنبياء عرفوا معانيها ولم يبينوا مرادهم للناس، فهؤلاء الطوائف قد يقولون: نحن عرفنا الحق بعقولنا، ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على ما يوافق مدلول العقل، وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات اجتهاد الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدون في تأويل كلام الأنبياء الذين لم يبينوا به مرادهم، أو أنا عرفنا الحق بعقولنا، وهذه النصوص لم تعرف الأنبياء معناها، كما لم يعرفوا وقت الساعة، ولكن أمرنا بتلاوتها من غير تدبر لها، ولا فهم لمعانيها، أو يقولون: هذه الأمور لا تعرف بعقل ولا نقل، بل نحن منهيون عن معرفة العقليات، وعن فهم السمعيات، وأن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات، ولا يفهمون السمعيات، ثم ذكر كلاماً طويلاً لا يحتمله هذا الموضع، ثم قال:
والمقصود هنا الكلام على قول القائل: (إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية
…
) إلى آخره كما تقدم.
والكلام على هذه الجملة بني على ما في مقدمتها من التلبيس، فإنها مبنية على مقدمات:
أولها: ثبوت تعارضهما.
1 "إن" وضعتها من: درء تعارض العقل والنقل.
والثانية: انحصار التقسيم فيما ذكره من الأقسام الأربعة.
والثالثة: بطلان الأقسام الثلاثة.
والمقدمات الثلاث باطلة. وبيان ذلك بتقديم أصل وهو أن يقال:
إذا قيل: تعارض دليلان، سواء كانا سمعيين أو عقليين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فالواجب أن يقال: لا يخلو إما1 أن يكونا قطعيين، أو يكونا ظنيين، وإما أن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً.
فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما: سواء كانا2 عقليين أو سمعيين، أو أحدهما عقلياً والآخر سمعياً، وهذا متفق عليه بين العقلاء، لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله، ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة.
وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان، وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم3 الجمع بين النقيضين، وهو محال، بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية، فلا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي، أو أن
1 سقطت: "أما" من ط الهند.
2 في ط الهند: "كان".
3 في ط الرياض: "لزم".
لا يكون مدلولاهما1 متناقضين، فأما مع2 تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين.
وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر، فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي، فإن الظن لا يدفع اليقين.
وإما إن كانا جميعاً ظنيين: فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم، سواء كان سمعياً أو عقلياً.
ولا جواب عن هذا، إلا أن يقال: الدليل السمعي لا يكون قطعياً، وحينئذ فيقال: هذا مع كونه باطلاً فإنه لا ينفع، فإنه على هذا التقدير يجب تقديم القطعي لكونه قطعياً لا لكونه عقلياً، ولا لكونه أصلاً للسمع، وهؤلاء جعلوا عمدتهم في التقديم كون العقل هو الأصل للسمع، وهذا باطل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وإذا قدر أنه لم يتعارض قطعي وظني، لم ينازع عاقل في تقديم القطعي، لكن كون السمعي لا يكون3 قطعياً دونه خرط القتاد.
1 في ط الرياض: "مدلولهما".
2 سقطت "مع" من ط الهند.
3 سقطت "لا يكون" من ط الهند.
وأيضاً فإن الناس متفقون على أن كثيراً مما جاء به الرسول معلوم بالاضطرار من دينه، كإيجاب1 العبادات، وتحريم الفواحش، والظلم وتوحيد الصانع، وإثبات المعاد، وغير ذلك.
وحينئذ فلو قال قائل: إذا قام الدليل القطعي على مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما، فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله، وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول فيما علم بالاضطرار أنه جاء به، وهذا هو الكفر الصريح، فلا بد لهم من جواب عن هذا.
والجواب عنه: أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا.
فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي. ومثل هذا الغلط2 يقع فيه كثير من الناس، يقدرون تقديراً يلزم منه لوازم، فيثبتون تلك اللوازم، ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعاً، والتقدير3 الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة، كما في قوله تعالى: {لَوْ
1 في ط الهند "كإيجاب كإيجاب".
2 في النسخ "اللفظ"، والمثبت من: درء تعارض العقل والنقل 1/80.
3 في ط الرياض: "والتقديم".
كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ثم ذكر كلاماً إلى أن قال:
وبه يتبين أن إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي، والجزم بتقديم العقلي، معلوم الفساد بالضرورة، وهو خلاف ما اتفق عليه العقلاء.
وحينئذ فنقول: الجواب من وجوه:
أحدها: أن قوله: (إذا تعارض النقل والعقل) إما أن يريد به القطعيين، فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ.
وإما أن يريد به الظنيين، فالمقدم هو الراجح مطلقاً.
وإما أن يريد به ما أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقاً، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعياً، لا لكونه عقلياً.
فعلم أن تقديم العقلي مطلقاً خطأ، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً خطأ.
الوجه الثاني: أن يقال: لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكرته من الأقسام الأربعة، إذ من الممكن أن يقال: يقدم العقلي تارة والسمعى أخرى، فأيهما1 كان قطعياً قدم،
1 في ط الرياض "فأيما".
وإن كانا جميعاً قطعيين فيمتنع التعارض، وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم.
فدعوى المدعي أنه لا بد من تقديم العقلي مطلقاً، أو السمعي1 مطلقاً، أو الجمع بين النقيضين، أو رفع النقيضين: دعوى باطلة، بل هنا قسم ليس من هذه الأقسام، كما ذكرناه، بل هو الحق الذي لا ريب فيه.
الوجه الثالث: قوله: (إن قدمنا النقل كان ذلك طعناً في أصله الذي هو العقل، فيكون طعناً2 فيه) غير مسلم. وذلك لأن قوله: (إن العقل أصل للنقل) إما أن يريد3 به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر. أو أصل في علمنا بصحته. والأول لا يقوله عاقل، فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت، سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته، أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علماً بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها، فما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلم. ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس
1 في في ط الرياض "والسمعي".
2 في النسخ "طعنه فيه" والمثبت من: درء تعارض العقل والنقل 1/87 محمد رشاد سالم و 1/82 ط الباز.
3 في النسخ: "يراد" والمثبت من "الدرء".
أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فالله آمر به وإن لم يطعه1 الناس، فثبوت الرسالة في نفسها، وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر ليس2 موقوفاً على وجودنا3 [فضلاً عن أن يكون موقوفاً على عقولنا] 4، أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا. وهذا كما أن وجود الرب تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه.
فتبين بذلك أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطياً له صفة لم تكن له، ولا مفيداً له صفة كمال، إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثراً فيه.
فإن العلم نوعان: أحدهما: العملي، وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به، محتاج إليه.
والثاني: الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير
1 في الأصل: "يطع".
2 في ط الرياض "فليس".
3 في النسخ: "عقولنا" والثبت من طبعتي "الدرء".
4 في ما بين الحاصرتين من طبعتي "الدرء".
مفتقر في وجوده إلى العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالى، وأسمائه وصفاته، وصدق رسوله، وملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإن الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، وهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالماً به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكان جاهلاً ناقصاً.. ثم ذكر كلاماً طويلاً.
ثم قال رحمه الله: فإن قيل: فهب أن تقديم الشرع عليها لا يكون قدحاً في أصله، لكن يكون تقديماً له على أدلة عقلية، فلا بد من بيان الموجب لتقديم الشرع.
قيل: الجواب من وجوه:
أحدها: أن المقصود هنا بيان أن تقديم الشرع على ما عارضه من مثل هذه العقليات المحدثة في الإسلام ليس
تقديماً له على أصله الذي يتوقف العلم بصحة1 الشرع عليه، وقد حصل، فإنا إنما2 ذكرنا في هذا المقام بيان3 بطلان من يزعم أنه يقدم العقل على الشرع المعارض له، وذكرنا أن الواجب تقديم ما قام4 الدليل على صحته مطلقاً.
الجواب الثاني: أن نقول: الشرع قول المعصوم الذي قام الدليل على صحته، وهذه الطرق لم يقم دليل على صحتها، فلا يعارض ما علمت صحته بما لم تعلم صحته.
الجواب الثالث: أن نقول: بل هذه الطرق المعارضة للشرع كلها باطلة في العقل، وصحة الشرع مبنية على إبطالها لا على صحتها، فهي باطلة بالعقل وبالشرع، والقائل بها مخالف للعقل والشرع من جنس أهل النار الذين قالوا:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] ، وهكذا شأن جميع بدع
1 في ط الرياض: "لصحته" والمثبت من الأصل. والدرء 1/319 ط الشيخ رشاد سالم، 1/239 ط الباز.
2 في الأصل: "فإنا إذا" وفي ط الرياض: "نجانا ذكرنا"، والمثبت من الدرء 1/239 ط الباز، و 1/319 ط الشيخ رشاد سالم.
3 سقطت "بيان" من الأصل.
4 في النسخ: "ما قام به الدليل"، والمثبت من طبعتي الدرء.
المخالفين لنصوص الأنبياء، فإنها مخالفة للسمع والعقل، فكيف ببدع الجهمية المعطلة التي هي في الأصل من كلام المكذبين للرسل.
والكلام على إبطال هذه الوجوه على التفصيل، وأن الشرع لا يتم إلا بإبطالها، مبسوط في غير هذا الموضع. انتهى.
والمقصود أن ما ذكره هذا العراقي الملحد في أوراقه هو كلام الرازي. وكتاب "موافقة العقل الصحيح للنقل الصريح" من أوله إلى آخره في بطلان هذه المقدمات التي ذكرها، وبيان مخالفتها للشرع، فالمصير إليها، والاعتماد عليها: اعتماد ومصير إلى مذهب الجهمية.
فإذا تبين لك ما تقدم، علمت أن هذا الملحد قد عزل كتاب الله وسنة رسوله، ونبذهما وراءه ظهرياً، لاعتقاده أن ما عارضهما بالعقل كان واجباً وقولاً جلياً، وإذا انكشفت الحقائق علمت من هو خير مقاماً وأحسن ندياً.
فمن أراد الوقوف على التفصيل فكلام الشيخ في "العقل والنقل" في ذلك مبسوط، موضح بأدلته العقلية والنقلية، إذ المقام لا يحتمل ما ذكره الشيخ هناك1، لأني إنما قصدت الاختصار والاقتصار.
1 سقطت "هناك" من ط الرياض.
وأما قوله: (إما تأويلاً إجمالياً، ويفوض تفصيله إلى الله تعالى، كما هو مذهب أكثر السلف) .
فأقول: قال شيخ الإسلام:
الوجه السادس [عشر] 1: أن يقال: غاية ما ينتهى إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم من المشهورين بالإسلام هو التأويل أو التفويض، فأما الذين ينتهون إلى أن يقولوا: الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر، فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة، والتأويل المقبول هو ما دل عليه مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرادها، بل يعلم بالإضطرار في عامة النصوص: أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم2، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص، وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد.
1 ما بين المعقوفين من طبعتي الدرء 1/201 ط الشيخ محمد رشاد سالم.
2 في النسخ: "در ما قالوه"، والمثبت من: طبعتي الدرء.
وأما التفويض: فمن المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يُراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟
وأيضاً: فالخطاب الذي أريد به هدانا، والبيان لنا، وإخراجنا من الظلمات إلى النور، إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك، فعلى التقديرين لم نخاطب1 بما بين فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر.
وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، أو ما خطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئاً أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه.
وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله، ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد. ثم ذكر كلاماً إلى أن قال:
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم
1 في النسخ "يخاطب" والمثبت من" طبعتي "الدرء".
متبعون للسنة والسلف من أشر أقوال أهل البدع والإلحاد. انتهى.
فإذا تبين لك هذا فاعلم أن التأويل والتفويض ليس هو مذهب السلف، ولا أكثرهم ولا أقلهم، ونسبة ذلك إلى السلف خطأ، وضلال وتلبيس، وإنما قال بذلك من يزعم أنه متبع للسنة والسلف، وهم على خلاف السنة، وأقوال السلف في هذه المسائل.
وهذا كلام أئمة الحديث، وأهل السنة المحضة، ليس فها شيء من هذا الكلام المحدث، المبتدع الملعون.
وقوله: (وإما تفصيلياً كما هو مذهب أكثر الخلف
…
) .
فأقول: قد تبين لك مما تقدم أن هؤلاء هم الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية أقدامهم بما انتهى إليه أمرهم1، وهو أبو المعالي الجويني:
1 في النسخ "مرامهم" والمثبت من "الحموية" لشيخ الإسلام مجموع الفتاوى 5/10، وقد نقل المؤلف هذا الكلام منها.
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
…
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر
…
على ذقن أو قارعاً سن نادم
وأقروا على أنفسهم بما قالوا متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم وهو أبو عبد الله محمد بن عمر1 الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
…
وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولة
…
فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها
…
رجال فزالوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
1 في ط الرياض: (عمرو) .
اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} [فاطر: 10] . واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110] . ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي.
ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي.
ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام.
فإذا كان هذا حال أئمة المتكلمين، كيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يوجب على الناس اعتقاد ما كان عليه هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون، الحيارى المتهوكون.
وقد علم بالاضطرار أن هؤلاء هم ورثة أفراخ الفلاسفة، وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين. وأن يتأول1 ما تأولته الجهمية والمعتزلة، ومن نحا نحوهم من المتكلمين، كقولة هذا الملحد:
1 في ط الرياض: "أن من تأول"، والصواب ما أثبته كما هو في الأصل، وهو راجع إلى قوله: "فإذا كان هذا حال أئمة المتكلمين كيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يوجب على الناس
…
وأن يتأول ما تأولته الجهمية". الله أعلم.
(فالاستواء على العرش في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هو الاستيلاء، ويؤيده قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف ودم مهراق
وجوابه فيما ادعى من أن معنى الاستواء أنه بمعنى الاستيلاء، وأنه ليس في لغة العرب ما يفيد ذلك، أن نقول:
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] قال: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه:
منها: انتهاء شباب الرجل وقوته، فيقال إذا صار ذلك: قد استوى الرجل.
ومنها: استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره1 إذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيم:
1 في ط الرياض: "أمر".
طال على رسم مهدد أبده
…
وقد عفا واستوى به بلده1
أي استقام به.
ومنها: الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوؤه بعد الإحسان إليه.
ومنها: الاحتياز والاحتواء2، كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها.
ومنها: العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه.
وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} [البقرة: 29] : علا عليهن، وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات.
1 البيت في ط الرياض، هكذا:"طال على رسم مهده أبده وقد عض واستوى به بلده"، وفي الأصل:"طال على رسم مهده أبده وعض واستوى به بلده" والمثبت من تفسير ابن جرير 1/191 ط الحلبي. و 1/429 ط المعارف بتحقيق محمود وأحمد شاكر.
قال في اللسان 3/2164 ط المعارف، في مادة (سوا) : وهذا البيت مختلف الوزن، فالمصراع الأول من المنسرح، والثاني من الخفيف. اهـ.
2 في ط الحلبي لتفسير ابن جرير 1/192: "والاستيلاء".
والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم، كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر1، ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له2: زعمت أن تأويل قوله سبحانه (استوى) : أقبل، أفكان3 مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل4: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال.
ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن5 فساد قول كل قائل قال6 في ذلك قولاً لأهل الحق فيه مخالفاً، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم
1 في النسخ: "المستكره"، والمثبت من: تفسير ابن جرير.
2 "له" زيادة من: تفسير ابن جرير.
3 في النسخ: "أو كان"، والمثبت من التفسير.
4 في النسخ: "قيل".
5 في النسخ: "لأثبتنا عند"، والمثبت من التفسير.
6 "قال" مثبته من: تفسير ابن جرير.
على ما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى. انتهى.
فقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
أي: ملكها، واحتوى عليها، وحازها.
ولو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض، وعلى السماء وعلى الحشوش، والأقذار لأنه قادر على الأشياء، مستولٍ عليها.
وإذا كان قادراً1 على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية: لم يجز أن يكون الاستواء على العرش. الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها، فيكون استواؤه على العرش علوه عليه، وارتفاعه، كما هو مذهب سلف الأمة وأئمتها، وقد تقدم بيان ذلك.
ثم قال العراقي: (وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] أي: جاء أمره، وقوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} [فاطر: 10] أي: يرتضيه،
1 في ط الرياض: "قادر".
فإن الكلم عرض يمتنع عليه الانتقال بنفسه، وقوله سبحانه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] أي: يأتي عذابه، وقوله تعالى:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8-9]
أي: قرب رسوله إليه بالطاعة، والتقدير بقاب قوسين أو أدنى تصوير للمعقول بالمحسوس، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ " معناه: تنزل رحمته وخص بالليل لأنه مظنة الخلوات، وأنواع الخضوع والعبادات، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث) . انتهى كلامه.
وقد علمت مما تقدم بطلان هذه التأويلات، وأنها تأويلات الجهمية والمعتزلة الخارجين عن طريقة أهل السنة والجماعة، وإنما ذكرناها هاهنا من كلامه ليعرف المسلم قدر نعمة الله عليه بالإسلام، وسلوك طريقة سلف الأمة وأئمتها، ويشكر الله عليها، ويحمده، فإن من أنعم الله عليه بالسلامة من سولك طريقة هؤلاء الضلال فقد أوتي خيراً كثيراً، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فإن الرسول قد بلغ البلاغ المبين، ونصح الأمة، وأدى الأمانة، وقامت حجة الله على خلقه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] .