الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْفِلَاحَةِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْفِلَاحَةِ
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّنَائِعِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي الْغَالِبِ لَكِنَّ بَعْضَهُمَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَوَقَعَتْ الْبُدَاءَةَ بِمَا الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّعَبُّدُ وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالْحَفْرُ لَهُ وَدَفْنُهُ وَالنُّفَسَاءُ وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُبَاشَرَةٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْمُكَلَّفُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِيهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِنِيَّةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ لِيَسْقُطَ عَنْهُمْ فَيَدْخُلَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» ثُمَّ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ النِّيَّاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا فِي كُلِّ فِعْلٍ يَقَعُ لَهُ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْأُجْرَةِ عَلَى مَا هُوَ يَفْعَلُهُ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ.
وَالرِّزْقُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ جِهَةٍ مَعْلُومَةٍ فَإِنْ قُسِمَ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْرَافٍ فَيَذْهَبُ عَنْهُ الِاسْتِشْرَافُ وَتَقَعُ لَهُ الْبَرَكَةُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ تَمَحَّضَ الْفِعْلُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَى لَهُ ذَخِيرَةً يَجِدُهُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إلَيْهِ وَالرِّزْقُ الْمَقْسُومُ فِي الْأَزَلِ لَا يَفُوتُهُ، إذْ إنَّ الرِّزْقَ يَطْلُبُك أَكْثَرَ مَا تَطْلُبُهُ أَنْتَ وَبَقِيَ التَّصَبُّرُ وَالتَّجَمُّلُ وَالْحِرْصُ وَالتَّعَبُ بَيْنَ النَّاسِ فَمَنْ أُرِيدُ بِهِ السَّعَادَةَ أُقِيمَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّصَبُّرُ وَالتَّجَمُّلُ وَمَنْ أُرِيدَ بِهِ ضِدَّ ذَلِكَ أُقِيمَ فِي الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ الْحِرْصُ وَالتَّعَبُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ حِينَ أَخَذَهُ الْجَامِكِيَّة أَوْ تَعَذَّرَهَا فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَيَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْصُلُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ
صَلَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي كُلِّ مَا هُوَ فِيهِ إذْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَدْ رَجَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَبَقِيَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مُتَقَلِّبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَهَذَا أَفْضَلُهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَأَدَاءِ الْمَفْرُوضَاتِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْعُ مُتَعَدٍّ وَذَلِكَ أَرْجَحُ فِي الْوَزْنِ وَأَعْظَمُ عِنْدَ الرَّبِّ عز وجل فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ فَآكَدُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ الزِّرَاعَةُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْحَيَاةِ وَقُوتُ النُّفُوسِ فَلِذَلِكَ بُدِئَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَيَعْقُبُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامُ عَلَى مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى صَنْعَةِ الْحِيَاكَةِ وَهِيَ الْقَزَازَةُ، ثُمَّ الْآكَدُ فَالْآكَدُ وَالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى بِحَسَبِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالزِّرَاعَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَأَكْثَرِهَا أَجْرًا إذْ إنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ لِلزَّارِعِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ كُلُّ ذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِزِرَاعَتِهِ حَتَّى إنَّهُ لَيُقَالُ: إنَّهُ الزَّارِعُ لَوْ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ نَأْكُلُ مِنْهُ حِينَ زِرَاعَتِهِ لَمْ يَزْرَعْ شَيْئًا لِكَثْرَةِ مَنْ يَقُولُ: نَأْكُلُ مِنْهُ فَمَا فِي الصَّنَائِعِ كُلِّهَا أَبْرَكُ مِنْهَا وَلَا أَنْجَحُ إذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِهَا الشَّرْعِيِّ وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْكُنُوزِ الْمُخَبَّأَةِ فِي الْأَرْضِ. لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِالْفِقْهِ وَحُسْنِ مُحَاوِلَةٍ فِي الصِّنَاعَةِ مَعَ النُّصْحِ التَّامِّ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا؛ فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الْبَرَكَاتُ وَتَأْتِي الْخَيْرَاتُ.
قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إلَّا كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَيْضًا «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لِلزَّارِعِ أَوْ لِلْغَارِسِ مَا دَامَ زَرْعُهُ أَخْضَرَ» أَوْ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فِي حِرْفَتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعَلُّمُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ فَلْيَسْأَلْ الْعُلَمَاءَ عَنْ فِقْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي زِرَاعَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْحِرَفِ إذْ إنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى فِقْهٍ كَثِيرٍ.
وَاَلَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْأَمْرُ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا حَصَلَ لَا يُقْدِمُ الْمَرْءُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُحَاوِلُهُ حَتَّى يَعْرِفَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِيهِ وَبِالسُّؤَالِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ.
وَقَدْ جَرَى بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ بَعْضَ الشُّبَّانِ أَصَابَهُ جُذَامٌ وَكَانَ مِمَّنْ يَسْكُنُ
خَارِجَهَا فَجَاءَ بِهِ أَهْلُهُ إلَى طَبِيبٍ بِهَا وَكَانَ عَارِفًا حَاذِقًا مَشْهُورًا بِذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ رَآهُ قَالَ لَهُمْ مَا يَطْلُبُ هَذَا إلَّا حَوَارِيٌّ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى عليه الصلاة والسلام فَأَيْأَسَهُمْ مِنْ بُرْئِهِ فَرَجَعُوا فَبَيْنَمَا هُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إذْ مَرُّوا بِرَجُلٍ مِنْ مَعَارِفِهِمْ وَهُوَ يَزْرَعُ فِي أَرْضٍ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عليهم السلام وَقَالَ لَهُمْ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتُمْ؟ قَالُوا: مِنْ مَدِينَةِ فَاسَ، قَالَ: وَمَا فَعَلْتُمْ فِيهَا؟ قَالُوا: ذَهَبْنَا إلَيْهَا بِسَبَبِ وَلَدِ فُلَانٍ وَأَخْبَرُوهُ بِالْخَبَرِ فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا قَالَ لَكُمْ الطَّبِيبُ؟ قَالُوا لَهُ: قَالَ: لَا يُبْرِئُ هَذَا إلَّا حَوَارِيٌّ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى عليه الصلاة والسلام فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَأَيْنَ حَوَارِيُّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ الشَّابِّ أَيْنَ هُوَ؟ فَقَالُوا لَهُ: هَا هُوَ ذَا حَاضِرٌ فَأَمَرَ بِهِ فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَشَّى يَدَهُ عَلَيْهِ وَنَفَثَ وَإِذَا بِالشَّابِّ قَدْ ذَهَبَ عَنْهُ جَمِيعُ مَا كَانَ بِهِ وَقَامَ صَحِيحًا سَوِيًّا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: ارْجِعُوا بِهِ إلَى الطَّبِيبِ، وَقُولُوا لَهُ: هَذَا فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ حَوَارِيِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ الزَّارِعُ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ بِصَلَاحٍ مَسْتُورَ الْحَالِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْكِسْرَةَ إنْ كَانَتْ طَيِّبَةً جَرَى هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْكَرَامَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ بِبَرَكَتِهَا.
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله يَقُولُ: اعْلَمُوا أَنَّ الْهِمَمَ قَدْ تَقَاصَرَتْ عَنْ الْعِبَادَاتِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْكُمْ بِالزِّرَاعَةِ فَإِنَّهَا تُحَصِّلُ الْأُجُورَ الْكَثِيرَةَ أَرَادَهَا الْمُكَلَّفُ أَوْ لَمْ يُرِدْهَا. وَمَا قَالَهُ رحمه الله ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُرَاعِي هَذِهِ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ تَقَعُ لَهُ الْبَرَكَاتُ حَتَّى يُقَالَ عَنْهُ: إنَّهُ وَجَدَ كَنْزًا وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَا أَرَادَهُ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْكَنْزِ وَمَنْفَعَتَهُ إنَّمَا هِيَ وُجُودُ الْيُسْرِ وَالِاسْتِغْنَاءِ وَهُوَ وَاقِعٌ لِمَنْ حَاوَلَ الزِّرَاعَةَ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ مُحَاوَلَتِهَا شَرْعًا.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ انْقَسَمُوا فِي تَسَبُّبِهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْحَوَائِطِ وَهِيَ الْبَسَاتِينُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَسَبَّبُ فِي الْأَسْوَاقِ وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ وَلَكِنَّ الزِّرَاعَةَ لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَوْلَى وَأَفْضَلُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالنَّفْعَ