الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي الْوَزْنِ أَكْثَرَ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُتَسَبِّبِينَ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ مَا يُرَجِّحُهُ الْخُضَرِيُّ يَسِيرٌ وَإِنْ كَثُرَ غَالِبًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مَا يَزِنُ بِهِ مِنْ حَجَرِ الْكَذَّانِ أَوْ الطُّوبِ الْآجُرِّ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ إذْ إنَّهَا تَنْقُصُ سَرِيعًا فَإِنْ لَمْ يَتَفَقَّدْهَا تَعَمَّرَتْ ذِمَّتُهُ فَلْيَتَحَرَّزْ مِنْ ذَلِكَ
[فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّيَّة لِجُلُوسِهِ فِي الدُكَّانِ التَّيْسِيرَ]
(فَصْلٌ)
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ لِجُلُوسِهِ فِي دُكَّانِهِ التَّيْسِيرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَكْثَرَ اعْتِنَاءً بِتَحْسِينِ النِّيَّةِ فِيمَا جَلَسَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الضُّعَفَاءِ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْعَجَائِزِ وَالْفُقَرَاءِ وَالصِّغَارِ يَحْتَاجُونَ إلَى شِرَاءِ مَا عِنْدَهُ فَيُقَرِّبُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْبَعِيدَ وَيُيَسِّرُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَيُعِينُهُمْ عَلَى قَضَاءِ مَآرِبِهِمْ. «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَمْدَحَ سِلْعَتَهُ، وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ، وَلَا كِنَايَةٍ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ فِي الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْعَتْبُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَدْحَ الْبَائِعِ لِسِلْعَتِهِ مَعَ صِدْقِهِ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -.
وَبَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَمْدَحُ سِلْعَتَهُ بِالْكَذِبِ، حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيُنَادِي عَلَيْهَا وَيَذْكُرُ لَهَا اسْمًا غَيْرَ اسْمِهَا الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ فَمَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، مِثَالُهُ مَنْ يَبِيعُ الْفَقُّوسَ يُنَادِي عَلَيْهِ يَا لُوبْيَا فَمَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ صَحِيحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَسْرِقُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قِيلَ: أَيَزْنِي الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قِيلَ: أَيَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: لَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ «إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ» فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا
الذَّمِّ الْعَظِيمِ ثُمَّ يَرْتَكِبُونَهُ لَا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَا غَيْرِهَا بَلْ لِلْعَبَثِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ وَعَدَمِ مَنْ يَأْمُرُ أَوْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَتَغَالَى فِي تَغْيِيرِ اسْمِ الشَّيْءِ الَّذِي يَبِيعُهُ فَيُنَادِي عَلَيْهِ بِاسْمٍ بَعِيدٍ مِنْهُ. مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْجُمَّيْزِ: يَا فِرْصَادُ يَا عَسَلَ نَحْلٍ يَا أَحْلَى مِنْ التِّينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ. وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ فِي السِّلْعَةِ الَّتِي يَطُوفُ بِهَا مَنَافِعَ يَخْتَلِقُهَا وَيَسْمَعُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ وَكُلُّهَا عَوَائِدُ اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَذَلِكَ مُذْهِبٌ لِلْبَرَكَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَرَكَةَ تَذْهَبُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا وَهُوَ الِاسْتِشْرَافُ فَمَا بَالُك بِهَذَا وَأَمْثَالِهِ فَيَجْمَعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ التَّعَبَ وَالنَّصَبَ وَالْمَشَقَّةَ وَقِلَّةَ الرِّزْقِ لِعَدَمِ الْبَرَكَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.
وَبَعْضُهُمْ تَكُونُ سِلْعَتُهُ رَدِيئَةً فَيَمْدَحُهَا وَيُثْنِي عَلَيْهَا. مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْكُرَّاثِ وَالْبَقْلِ اللَّذَيْنِ قَدْ ذَبَلَا: كُرَّاثٌ مَلِيحٌ بَقْلٌ مَلِيحٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ.
وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ نِدَائِهِ عَلَى سِلْعَتِهِ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُنْهَى عَنْهُ وَيُؤَدَّبُ وَيُزْجَرُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَا شُرِعَتْ عَلَيْهِ مِنْ التَّعَبُّدِ لَا أَنَّهَا تُذْكَرُ عَلَى السِّلَعِ حِينَ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِهِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِيمَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ يَقُولُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ يُعَوِّضُ عَنْ حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُفْسَحَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُ: صَلُّوا عَلَى مُحَمَّدٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ وَبَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْكَذِبِ حِينَ نِدَائِهِ عَلَى سِلْعَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ.
وَبَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ. وَاَلَّذِي يَتَعَيَّنُ مِنْ ذَلِكَ تَوْقِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاحْتِرَامُهُ
وَتَعْظِيمُهُ بِأَنْ لَا يَذْكُرَ اسْمَهُ، وَلَا يُصَلِّيَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -. وَتُنْدَبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ وَمَوَاضِعِ الْغَفْلَةِ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِيهَا سِرًّا وَعَلَنًا.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ ارْتَكَبَ مِنْ الْبَيَّاعِينَ أَوْ الطَّوَّافِينَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَيُؤْمَرُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَجَنَّبَهُمْ بِعَدَمِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ مَا امْتَنَعَ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ إلَّا لِأَجْلِ تَعَاطِيهِمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي حَقِّهِمْ بِشَيْئَيْنِ:
الْأَوَّلُ: عَدَمُ الْإِعَانَةِ لَهُمْ.
وَالثَّانِي: الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ سَمِعَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُمْ يُؤْمَرُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ.
ثُمَّ إنَّ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ الْمُخَالَفَاتِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مَنْ قَامَ بِهِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. لَكِنْ إنَّمَا يَلْزَمُ الْإِنْكَارُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُفِيدُ وَيُقْبَلُ مِنْهُ. وَيُنْدَبُ لَهُ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ يُسْمَعُ مِنْهُ.
وَيُكْرَهُ لَهُ أَوْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ يَزِيدُ فِي الْوُقُوعِ فِي تِلْكَ الْمُخَالَفَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِثَالُهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ فَيَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ أُخْرَى بِأَنْ يَشْتُمَ أَوْ يَقْذِفَ مَنْ نَهَاهُ وَيَشْتُمَهُ وَيَقْذِفَهُ الْآخَرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فَلْيُعْرِضْ عَمَّنْ هَذَا حَالُهُ لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُعَوِّضَ عَنْ ذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا مُنْكَرٌ " ثَلَاثًا " وَقَدْ تَقَدَّمَ.
ثُمَّ إنَّ مِنْ الْبَيَّاعِينَ مَنْ يَقِفُ بِمَوْضِعٍ فِي السُّوقِ أَوْ الطَّرِيقِ فَهَذَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ وَيُمْنَعُ الشِّرَاءُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْمُسْلِمِينَ مَوَاضِعَ مُرُورِهِمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ إنْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا، وَلَوْ لَمْ يُضَيِّقْ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِوُسْعِ الطَّرِيقِ فَيُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيقِهَا بِكَثْرَةِ الْجُلُوسِ فِيهَا وَلِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُ إعَانَةً لَهُ عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَفِيهِ عَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَطُوفُ عَلَى الْبُيُوتِ وَيَدْخُلُ الْأَزِقَّةَ وَيَسْلُكُ الْمَوَاضِعَ الْبَعِيدَةَ مِنْ السُّوقِ فَهَذَا جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَمُرَّ فِي حَاجَتِهِ كَمَا يَمُرُّ غَيْرُهُ وَيُغْتَفَرُ لَهُ الْوُقُوفُ عَلَى بَابِ مَنْ يَبِيعُ لَهُ وَفِي أَثْنَاءِ مُرُورِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ
وَصِيَانَةِ حَرِيمِهِمْ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْأَسْوَاقِ.
لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَرْتَكِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الطَّوَّافِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّهُ يَبِيعُ لِلْمَرْأَةِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ إلَى مَوْضِعٍ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ مَنْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ فَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ فَتَشْتَرِي مِنْهُ فَهَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَلْوَةٌ بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَا لَمْ يَقْصِدَاهُ وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الْبَيْتِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ وَإِنْ أَذِنَتْ لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي حَوْزِهَا.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَتْ السَّلَامَةُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ يَغُضَّ طَرْفَهُ حِينَ بَيْعِهِ لِلْمَرْأَةِ فَلَا يَنْظُرُ إلَّا إلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ أَوْ فِي سِلْعَتِهِ. وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي حَقِّ الطَّوَّافِينَ مُتَعَيَّنٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْبَيَّاعِينَ لَهُنَّ مِنْ الْأُجَرَاءِ مِثْلِ مَنْ يَبِيعُ الْكَتَّانَ وَاللَّبَنَ وَالزَّيْتَ الْحَارَّ وَالسَّقَّاءِ وَالطَّحَّانَ. وَمِنْ الصُّنَّاعِ كَالْمُزَيِّنِ وَالْبَنَّاءِ وَالنَّجَّارِ وَالْمُزَرِّبِ وَالْمُبَلِّطِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ فَيَتَحَفَّظُ أَنْ يَقَعَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. مِثَالُهُ أَنْ يَأْتِيَ مَنْ يَبِيعُ الْكَتَّانَ فَتَارَةً يَخْلُو بِالْمَرْأَةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَارَةً تَأْتِي هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ النِّسَاءِ فَيَجْتَمِعْنَ عَلَيْهِ وَيَقَعُ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِهِنَّ مَعَهُ وَمُحَادَثَتِهِنَّ لَهُ أَشْيَاءُ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُنَّ يَخْرُجْنَ عَلَيْهِ دُونَ حِجَابٍ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُنَّ عَلَيْهَا الثَّوْبُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَصِفُ أَوْ يَشِفُّ أَوْ هُمَا مَعًا وَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهَا الثَّوْبُ الْقَصِيرُ دُونَ سَرَاوِيلَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَوَائِدِهِنَّ فِي الْوَقْتِ وَمَعَ ذَلِكَ يَزْعُمْنَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَيَخْتَلِقْنَ أَحْكَامًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِنَّ بِأَنْ يَقُلْنَ: إنَّ الْكَتَّانِيَّ وَالسَّقَّاءَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمَا لَيْسُوا مِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُسْتَحَى مِنْهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّعِينَ لَا يُوقِعُ النَّاسَ بِغَوَايَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُخَالَفَةِ حَتَّى يَدُسَّ لَهُمْ فِيهَا مَا يَبْعَثُهُمْ عَلَى قَبُولِهَا مِنْهُ بِأَنْ يُلْقِيَ لَهُمْ وُجُوهًا مِنْ التَّعَالِيلِ. وَهَذِهِ بَلِيَّةٌ قَدْ حَدَثَتْ فِي الْأَكْثَرِ مِنْهُنَّ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْأَشْرَافِ مِنْ النِّسَاءِ يَزْعُمْنَ أَنَّهُنَّ لَا يَسْتَحْيِينَ إلَّا مِنْ شَرِيفٍ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا وَبَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ الْأَشْرَافِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لَا يَحْتَجِبْنَ مِنْ الْغَرِيبِ أَصْلًا وَيَتَحَدَّثْنَ مَعَهُ وَيُطِلْنَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْبَسْطِ مِنْهُنَّ مَعَهُ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ الْغَرِيبَ
لَيْسَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُسْتَحَى مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهَا رِيَاسَةٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ لِزَوْجِهَا لَا تَسْتَحِي مِنْ الْغِلْمَانِ، وَلَا مِنْ الْعَوَامّ وَيَرَيْنَ بِزَعْمِهِنَّ أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُمْ.
ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ إلَى كَثِيرٍ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْوَقْتِ يَزْعُمْنَ أَنَّ الطَّوَّافِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ لَيْسُوا مِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُسْتَحَى مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ يَقُولُ سبحانه وتعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَأَوْقَعَهُنَّ اللَّعِينُ بِتَسْوِيلِهِ فِي الْمُحَرَّمِ بِهَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ وَبِمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ.
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ رِجَالِهِنَّ الَّذِينَ هُمْ أَرْجَحُ مِنْهُنَّ عَقْلًا وَأَقْوَمُ دِينًا أَنَّهُمْ يَأْتُونَ إلَى بُيُوتِهِمْ فَيَجِدُونَ الْكَتَّانِيَّ وَمَنْ أَشْبَهَهُ مِنْ الطَّوَّافِينَ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَهْلِيهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْحَدِيثِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا بَلْ انْغَمَسَ أَكْثَرُهُمْ فِي الْجَهْلِ مَعَ زَعْمِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَجْهَلُونَ وَأَنَّهُمْ عَنْ الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ لَا يَحِيدُونَ فَلَوْ نَبَّهَهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَيْقَظَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَمَرَاتِ لَكَانَ الْجَوَابُ أَنْ يَقُولَ: إنِّي لَا أَتَّهِمُ امْرَأَتِي لِمَا أَعْلَمُ مِنْ عِفَّتِهَا وَصِيَانَتِهَا وَأَنَّ الْخِيَانَةَ لَا تَخْطِرُ بِبَالِهَا فَكَيْفَ أَخَافُ عَلَيْهَا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ دَخَلَ اللَّعِينُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَأَوْقَعَهُمْ فِي الْمُخَالَفَاتِ بِسَبَبِ تَحْسِينِ ظَنِّهِمْ بِأَزْوَاجِهِمْ.
وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الظَّنَّ وَصَلَ إلَى حَدِّ الْيَقِينِ لَكَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا شَرْعًا إذْ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَلَى ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا وَهَذِهِ عَوَائِدُ قَدْ اسْتَحْكَمَتْ فَكَثُرَ بِسَبَبِهَا الْوُقُوعُ فِي الْمُخَالَفَاتِ حَتَّى إنَّك لَتَجِدُ الرَّجُلَ إذَا طَلَبَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الْكَتَّانَ أَوْ الْمَاءَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُمَا يَتْرُكُ عِنْدَهَا ثَمَنَ ذَلِكَ حَتَّى يَعْبُرَ عَلَيْهَا الْكَتَّانِيُّ أَوْ السَّقَّاءُ فَتَشْتَرِي مِنْهُ بِنَفْسِهَا، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ تَكُونُ وَحْدَهَا فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا السَّقَّاءُ
أَوْ الْكَتَّانِيُّ أَوْ شِبْهُهُمَا فَتَحْصُلُ الْخَلْوَةُ بِهِ، وَنَفْسُ وُقُوعِ الْخَلْوَةِ مُحَرَّمٌ وَعِنْدَهَا وَمَعَهَا تَكْثُرُ الْمَفَاسِدُ حَتَّى لَا يُسْتَبْعَدَ وُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ مَعَ أَنَّ دَوَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ الْكُبْرَى أَشَدُّ وَأَضَرُّ وَذَلِكَ أَنَّ دَوَامَ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَتْ صُغْرَى أَحَبُّ إلَى اللَّعِينِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ الْكُبْرَى؛ لِأَنَّ النَّاسَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُبْرَى وَالْإِقْلَاعُ عَنْهَا بِخِلَافِ الصُّغْرَى، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَهَاوَنُونَ بِهَا وَهِيَ مَعَ الدَّوَامِ عَلَيْهَا تَصِيرُ كُبْرَى نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. مِثَالُهُ أَنَّ ابْنَ الْعَمِّ وَمَنْ أَشْبَهَهُ إنْ وَاقَعَ الْمَعْصِيَةَ الْكُبْرَى قَدْ لَا يَدُومُ فَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطَانُ تَرْكَهَا حَتَّى تَكْثُرَ مِنْهُ الْمُخَالَفَاتُ بِسَبَبِ دَوَامِ خُرُوجِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ الْمُحَادَثَةِ وَالْمُمَازَحَةِ وَالْخَلَوَاتِ، وَكَذَلِكَ الْجَارُ وَالْجَارَةُ وَمَنْ تَرَبَّى بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَلَا تَجِدُ فِي الْغَالِبِ الْفَرْقَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ ذُكِرَ إلَّا سَلَامَةَ مَحَلِّ الْجِمَاعِ وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الزَّوْجُ وَغَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ قُرْبِ زَوْجِهَا لَهَا بَعْضُهُمْ يُمَثِّلُ الصُّورَةَ الَّتِي رَآهَا وَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ - عَدَمُ السُّؤَالِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَمَّا يَلْزَمُ الْمَرْءَ فِي تَصَرُّفِهِ.
وَالثَّانِي - اسْتِحْكَامُ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمُحْدَثَةِ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا دِينٌ يُتَدَيَّنُ بِهِ غَالِبًا وَالثَّالِثُ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِمَنْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ عليه الصلاة والسلام عَنْهُ بِأَنَّهُ نَاقِصٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَجِدُ بَعْضَهُمْ إذَا حَجَّتْ امْرَأَتُهُ أَطْلَقَ لَهَا السَّبِيلَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِمَنْ شَاءَتْ وَالْخُرُوجِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ لِتَحْسِينِ ظَنِّهِ بِهَا مِنْ أَجْلِ حَجِّهَا وَالْمَفَاسِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا أَشْبَهَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ لَكِنْ مَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ بِغَيْرِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رحمه الله يَحْكِي عَنْ أَحَدِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ كَانَ كَبِيرَ السِّنِّ وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ عُمْرُهَا مِائَةُ سَنَةٍ أَوْ نَحْوُهَا وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ يَدُقُّ الْبَابَ خَرَجَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ فَفَتَحَتْ لَهُ فَكَانَ يَوْمًا فِي الدَّرْسِ فَوَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ احْتَاجَ إلَى إحْضَارِ النَّقْلِ