الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَرِيكًا لِمَنْ يَتَعَاطَى التَّصْوِيرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ السُّوقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَكَذَلِكَ فِي عَكْسِهِ لَا يَمْكُثُ فِي الدُّكَّانِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ بَلْ يَنْصَرِفُ قَبْلَ اصْفِرَارِهَا لِمَا قَدْ قِيلَ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ الشَّيَاطِينُ ثُمَّ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ، وَعَكْسُهُ الِانْصِرَافُ.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ غَالِبًا حَالُهُ الْحِرْصُ وَالِاسْتِشْرَافُ وَهُمَا مُذْهِبَانِ لِلْبَرَكَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْخَيَّاطِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ اشْتَغَلَ بِحِكَايَتِهِ ثُمَّ أَخَذَ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالْمُضِيِّ إلَى الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ هُوَ وَمَنْ عِنْدَهُ.
فَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ الْبَزَّازِ وَغَيْرِهِ مِنْ سِمْسَارٍ وَشَرِيكٍ وَرَقِيقٍ وَمُبْتَاعٍ فَيَقْطَعُ كُلَّ ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ مِنْهُ عَادَةً مَعْرُوفَةً لَا يَقْصِدُهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَا عَلِمَ مِنْ عَادَتِهِ فَتُحْفَظُ بِذَلِكَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ وَتَنْضَبِطُ وَقَلَّ أَنْ تَفُوتَهُمْ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ وَهَذَا الْفِعْلُ حَاجِزٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ خُرُوجُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُبَادَرَةُ إلَى الْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا حَاجِزٌ عَنْ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي فَإِنْ قَالَ الْبَزَّازُ مَثَلًا: إذَا تَحَرَّزْت مِمَّا ذَكَرْتُمْ قَلَّ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَقَلَّ الرِّزْقُ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ الْخَيَّاطِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
[فَصْلٌ فِي نِيَّةِ التَّاجِرِ الَّذِي يَتَّجِرُ مِنْ إقْلِيمٍ إلَى إقْلِيمٍ]
ٍ وَمِنْ بَلَدٍ إلَى أُخْرَى يَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عز وجل فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِمَّنْ يَتَسَبَّبُ فِي الْأَسْفَارِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَذْهَبَ تَعَبُهُ وَمُخَاطَرَتُهُ فِيهَا بِسَبَبِ الْمُحَاوَلَةِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالزِّيَادَةِ مِنْهَا وَالِاسْتِشْرَافِ إلَيْهَا بَلْ يَكُونُ أَصْلُ أَمْرِهِ الَّذِي يُعَوِّلُ عَلَيْهِ وَيَعْتَمِدُهُ التَّقْوَى وَلَا يُسَافِرُ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ وَالِاسْتِشَارَةِ لِذَوِي الْعُقُولِ الْغَزِيرَةِ الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ وَالتَّجَارِبِ.
وَصِفَةُ الِاسْتِخَارَةِ
الشَّرْعِيَّةِ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي أَلْفَاظِهِ الْجَامِعَةِ لِلْأَسْرَارِ الْعَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَخْتَارُونَ؛ لِأَنْفُسِهِمْ اسْتِخَارَة غَيْرَ الِاسْتِخَارَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِيَارِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ غَيْرَ مَا اخْتَارَهُ لَهُ مَنْ هُوَ أَرْحَمُ بِهِ وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَالِدَيْهِ الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ الْأُمُورِ الْمُرْشِدُ لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّجَاحُ وَالْفَلَاحُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ.
وَبَعْضُهُمْ يَسْتَخِيرُ الِاسْتِخَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَيَتَوَقَّفُ بَعْدَهَا حَتَّى يَرَى مَنَامًا يَفْهَمُ مِنْهُ فِعْلَ مَا اسْتَخَارَ فِيهِ أَوْ تَرْكَهُ أَوْ يَرَاهُ غَيْرُهُ لَهُ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعِصْمَةِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِالِاسْتِخَارَةِ وَالِاسْتِشَارَةِ لَا بِمَا يُرَى فِي الْمَنَامِ وَلَا يُضِيفُ إلَى الِاسْتِخَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَيَخْشَى مِنْ أَنَّ الْبِدْعَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي شَيْءٍ لَا يَنْجَحُ أَوْ لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَمَرَ بِالِاسْتِخَارَةِ وَالِاسْتِشَارَةِ فَقَطْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَيْهِمَا وَلَا يُعَرِّجَ عَلَى غَيْرِهِمَا فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - اخْتَارَ لَنَا أَلْفَاظًا مُنْقَاةً جَامِعَةً لِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى قَالَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ فِي صِفَتِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ وَالْحَضِّ
عَلَى التَّمَسُّكِ بِأَلْفَاظِهَا وَعَدَمِ الْعُدُولِ إلَى غَيْرِهَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ» وَالْقُرْآنُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغَيَّرَ وَلَا يُزَادَ فِيهِ وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ وَإِذَا نَصَّ فِيهِ عَلَى الْحُكْمِ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَا يَرْجِعُ لِغَيْرِهِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عليه الصلاة والسلام فِي الِاسْتِخَارَةِ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَخْتَارُهَا الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مَنَامٍ يَرَاهُ هُوَ أَوْ يَرَاهُ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ انْتِظَارِ فَأْلٍ أَوْ نَظَرٍ فِي اسْمِ الْأَيَّامِ.
قَالَ مَالِكٌ: رحمه الله الْأَيَّامُ كُلُّهَا أَيَّامُ اللَّهِ.
أَوْ انْتِظَارُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فَيَنْظُرُ فِي اسْمِهِ فَيَشْتَقُّ مِنْهُ مَا يُوجِبُ عِنْدَهُ الْفِعْلَ أَوْ التَّرْكَ.
وَمِنْ النَّاسِ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ هَذَا وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ وَالنَّظَرِ فِي النُّجُومِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُهُمْ فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ أَوْ غَيْرَهُ وَتَرَكَ الِاسْتِخَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ فَلَا شَكَّ فِي فَسَادِ رَأْيِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اخْتَارَ لِلْمُكَلَّفِ مَا جَمَعَ لَهُ فِيهِ بَيْنَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِلَفْظٍ يَسِيرٍ وَجِيزٍ وَاخْتَارَ هُوَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْمُخْتَارُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مَا اخْتَارَهُ الْمُخْتَارُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ.
عَلَى هَذَا فَلَا يَشُكُّ وَلَا يَرْتَابُ فِي أَنَّ مَنْ عَدَلَ عَنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْمُبَارَكَةِ إلَى غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ التَّأْدِيبِ أَنْ يَقَعَ بِهِ وَأَنْوَاعُهُ مُخْتَلِفَةٌ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا فِي نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام الْمُكَلَّفَ بِأَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الِاسْتِخَارَةِ يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَضَاءَ حَاجَتِهِ.
وَقَدْ مَضَتْ الْحِكْمَةُ أَنَّ مِنْ الْأَدَبِ قَرْعَ بَابِ مَنْ تُرِيدُ حَاجَتَكَ مِنْهُ، وَقَرْعُ بَابِ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى إنَّمَا هُوَ بِالصَّلَاةِ.
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا كَانَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» وَلِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ آدَابٍ جُمْلَةٍ.
فَمِنْهَا خُرُوجُهُ عَنْ الدُّنْيَا كُلِّهَا وَأَحْوَالِهَا
بِإِحْرَامِهِ بِالصَّلَاةِ أَلَا تَرَى إلَى الْإِشَارَةِ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ إلَى أَنَّهُ خَلَفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى مَوْلَاهُ يُنَاجِيهِ.
ثُمَّ مَا فِيهَا مِنْ الْخُضُوعِ وَالنَّدَمِ وَالتَّذَلُّلِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي الْجَلِيلَةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا.
فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْفَضَائِلِ الْجَمَّةِ حِينَئِذٍ أَمَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عليه الصلاة والسلام بِالدُّعَاءِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فَإِنْ قَرَأَ بِغَيْرِهِمَا مِنْ السُّوَرِ فَذَلِكَ وَاسِعٌ ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي شَرَعَهَا عليه الصلاة والسلام لِأُمَّتِهِ لِيُرْشِدهُمْ إلَى مَصَالِحِهِمْ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.
فَأَوَّلُهَا «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ» فَقَوْلُهُ: اللَّهُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَعْنَاهُ: أَسْأَلُكَ بِجَمِيعِ مَا سُئِلْت بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي تَرْجِعُ إلَيْهِ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ «إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ» أَيْ بِعِلْمِكَ الْقَدِيمِ الْكَامِلِ لَا بِعِلْمِي أَنَا الْمَخْلُوقُ الْقَاصِرُ فَمَنْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَبِّهِ اخْتَارَ لَهُ مَا يَصْلُحُ وَقَوْلُهُ «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» أَيْ بِقُدْرَتِكَ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ لَا بِقُدْرَتِي أَنَا الْمَخْلُوقَةِ الْمُحْدَثَةِ الْقَاصِرَةِ.
فَمَنْ تَعَرَّى عَنْ قُدْرَةِ نَفْسِهِ وَكَانَتْ قُدْرَتُهُ مَنُوطَةً بِقُدْرَةِ رَبِّهِ عز وجل مَعَ السُّكُونِ وَالضَّرَاعَةِ إلَيْهِ فَلَا شَكَّ فِي وُجُودِ الرَّاحَةِ لَهُ إمَّا عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ هُمَا مَعًا.
وَأَيُّ رَاحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ الِانْسِلَاخِ مِنْ عَنَاءِ التَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْخَوْضِ بِفِكْرَةِ عَقْلِهِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ عَاقِبَتَهُ.
وَقَوْلُهُ «وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ» فَمَنْ تَوَجَّهَ بِالسُّؤَالِ إلَى مَوْلَاهُ دُونَ مَخْلُوقٍ وَاسْتَحْضَرَ سَعَةَ فَضْلِ رَبِّهِ عز وجل وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَنَزَلَ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ فَلَا شَكَّ فِي نَجْحِ سَعْيِ مَنْ هَذَا حَالُهُ إذْ فَضْلُ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ وَتَقْدِيرٍ.
وَقَوْلُهُ «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» فَمَنْ تَبَرَّأَ وَانْخَلَعَ مِنْ تَدْبِيرِ نَفْسِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَرَجَعَ بِالِافْتِقَارِ إلَى مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ
شَيْءٌ فَلَا شَكَّ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَبُلُوغِهِ مَا يُؤَمِّلُهُ وَوُقُوعِ الرَّاحَةِ لَهُ.
وَقَوْلُهُ «اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: وَفِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» الشَّكُّ هُنَا مِنْ الرَّاوِي فِي أَيِّهِمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ بَرَكَةِ لَفْظِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْقَطْعِ فَيَأْتِي بِهِمَا مَعًا.
وَقَوْلُهُ «فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ» فَمَنْ رَضِيَ بِمَا اخْتَارَهُ لَهُ سَيِّدُهُ الْعَالِمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَبِمَصَالِحِ الْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَتَحَوَّلُ فَقَدْ سَعِدَ السَّعَادَةَ الْعُظْمَى.
وَقَوْلُهُ «، وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» الشَّكُّ مِنْ الرَّاوِي.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ «فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ» فَمَنْ سَكَنَ إلَى رَبِّهِ عز وجل وَتَضَرَّعَ إلَيْهِ وَلَجَأَ فِي دَفْعِ جَمِيعِ الشَّرِّ عَنْهُ فَلَا شَكَّ فِي سَلَامَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَتَوَقَّعُ مِنْ الْمَخَاوِفِ فَأَيُّ دُعَاءٍ يَجْمَعُ هَذِهِ الْفَوَائِدَ وَيُحَصِّلُهَا مِمَّا اخْتَارَهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ مِمَّا يَخْطِرُ بِبَالِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى مَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ إلَّا أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا كَانَ مُمْتَثِلًا لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مُحَصِّلًا لِبَرَكَتِهَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَحْصُلُ لَهُ بَرَكَةُ النُّطْقِ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَرْبُو عَلَى كُلِّ خَيْرٍ يَطْلُبُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَيَخْتَارُهُ لَهَا.
فَيَا سَعَادَةُ مَنْ رُزِقَ هَذَا الْحَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْعَلَهَا الْمُكَلَّفُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ فِي أَمْرِ الدُّعَاءِ وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ أَوَّلًا بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَأْخُذُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ثُمَّ يَخْتِمُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِخَارَةِ وَالِاسْتِشَارَةِ مِنْ كَمَالِ الِامْتِثَالِ لِلسُّنَّةِ.
فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى إحْدَاهُمَا فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنْ الِاقْتِصَارِ فَعَلَى الِاسْتِخَارَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ.
وَالِاسْتِخَارَةُ وَالِاسْتِشَارَةُ بَرَكَتُهُمَا ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِامْتِثَالِ لِلسُّنَّةِ وَالْخُرُوجِ عَمَّا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْهَوَاجِسِ وَالْوَسَاوِسِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ أَدَبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَمِنْ الْحَزْمِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنْ لَا يُبْرِمَ أَمْرًا وَلَا يُمْضِيَ عَزْمًا إلَّا بِمَشُورَةِ ذِي الرَّأْيِ النَّاصِحِ وَمُطَالَعَةِ ذِي الْعَقْلِ الرَّاجِحِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَشُورَةِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ إرْشَادِهِ وَعَوْنِهِ وَتَأْيِيدِهِ فَقَالَ تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قَالَ قَتَادَةُ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ وَتَطَيُّبًا لِأَنْفُسِهِمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِمَا عَلِمَ فِيهَا مِنْ الْفَضْلِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيَسْتَنَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ وَيَتْبَعَهُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانَ عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ غَنِيًّا.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «الْمُشَاوَرَةُ حِصْنٌ مِنْ النَّدَامَةِ وَأَمَانٌ مِنْ الْمَلَامَةِ» وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَيُصَدِّرُهَا بِرَأْيِهِ وَرَجُلٌ يُشَاوِرُ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ حَيْثُ يَأْمُرُهُ أَهْلُ الرَّأْيِ وَرَجُلٌ حَائِرٌ بَائِرٌ لَا يَأْتَمِرُ رُشْدًا وَلَا يُطِيعُ مُرْشِدًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه نِعْمَ الْمُوَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ الِاسْتِبْدَادُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله: إنَّ الْمُشَاوَرَةَ وَالْمُنَاظَرَةَ بَابَا رَحْمَةٍ وَمِفْتَاحَا بَرَكَةٍ لَا يَضِلُّ مَعَهُمَا رَأْيٌ وَلَا يُفْقَدُ مَعَهُمَا حَزْمٌ.
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَا خَابَ مَنْ اسْتَخَارَ وَلَا نَدِمَ مِنْ اسْتَشَارَ» وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْيِهِ آرَاءَ الْعُلَمَاءِ وَيَجْمَعَ إلَى عَقْلِهِ عُقُولَ الْحُكَمَاءِ فَالرَّأْيُ الْفَذُّ رُبَّمَا زَلَّ وَالْعَقْلُ الْفَرْدُ رُبَّمَا ضَلَّ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ.
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ فَإِنَّهُ يُعْطِيكَ مِنْ رَأْيِهِ مَا قَامَ عَلَيْهِ بِالْغَلَاءِ وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ
مِنْهُ بِالرَّخَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ الْخَطَأُ مَعَ الِاسْتِرْشَادِ أَحْمَدُ مِنْ الصَّوَابِ مَعَ الِاسْتِبْدَادِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «نَقِّحُوا عُقُولَكُمْ بِالْمُذَاكَرَةِ وَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ بِالْمُشَاوَرَةِ» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «إنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ» وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «الْمُسْتَشِيرُ مُعَانٌ وَالْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ إذَا اُسْتُعِنْت فَأَعْنِ وَإِذَا اُسْتُشِرْت فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى تَنْظُرَ» وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «اسْتَرْشِدُوا الْعَاقِلَ تَرْشُدُوا وَلَا تَعْصُوهُ فَتَنْدَمُوا» فَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ ارْتَادَ لَهَا مِنْ أَهْلِهَا مَنْ اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: إحْدَاهُنَّ عَقْلٌ كَامِلٌ مَعَ تَجْرِبَةٍ سَابِقَةٍ فَإِنَّهُ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ تَصِحُّ الرَّوِيَّةُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ احْذَرْ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ، وَإِنْ كَانَ نَاصِحًا كَمَا تَحْذَرُ عَدَاوَةَ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ عَدُوًّا فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَرِّطَك بِمَشُورَتِهِ فَيَسْبِقُ إلَيْكَ مَكْرُ الْعَاقِلِ وَتَوْرِيطُ الْجَاهِلِ.
وَكَانَ يُقَالُ: إيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ رَجُلَيْنِ شَابٌّ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ قَلِيلُ التَّجَارِبِ فِي غِرَّةٍ.
وَكَبِيرٌ قَدْ أَخَذَ الدَّهْرَ مِنْ عَقْلِهِ كَمَا أَخَذَ مِنْ جِسْمِهِ.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ مُحْتَاجٌ إلَى التَّجَارِبِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَقْلَ زَيْنٌ لِأَهْلِهِ
…
وَلَكِنَّ تَمَامَ الْعَقْلِ طُولُ التَّجَارِبِ
وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ ذَا دِينٍ وَتُقَى فَإِنَّ ذَلِكَ عِمَادُ كُلِّ صَلَاحٍ وَبَابُ كُلِّ نَجَاحٍ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدِّينُ فَهُوَ مَأْمُونُ السَّرِيرَةِ مُوَفَّقُ الْعَزِيمَةِ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَرَادَ أَمْرًا فَشَاوَرَ فِيهِ امْرَأً مُسْلِمًا وَفَّقَهُ اللَّهُ لِأَرْشَدِ أُمُورِهِ» .
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا وَدُودًا فَإِنَّ النُّصْحَ وَالْمَوَدَّةَ يَصْرِفَانِ الْفِكْرَةَ وَيُمَحِّصَانِ الرَّأْيَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لَا تُشَاوِرْ
إلَّا الْحَازِمَ غَيْرَ الْحَسُودِ وَاللَّبِيبَ غَيْرَ الْحَقُودِ وَإِيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إلَى الْأَفَنِ وَعَزْمَهُنَّ إلَى الْوَهَنِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مَشُورَةُ الْمُشْفِقِ الْحَازِمِ ظَفَرٌ وَمَشُورَةُ غَيْرِ الْحَازِمِ خَطَرٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
اُصْفُ ضَمِيرًا لِمَنْ تُعَاشِرُهُ
…
وَاسْكُنْ إلَى نَاصِحٍ تُشَاوِرُهُ
وَارْضَ مِنْ الْمَرْءِ فِي مَوَدَّتِهِ
…
بِمَا يُؤَدِّي إلَيْكَ ظَاهِرُهُ
وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْفِكْرِ مِنْ هَمٍّ قَاطِعٍ وَغَمٍّ شَاغِلٍ.
فَإِنَّ مَنْ عَارَضَتْ فِكْرَتَهُ شَوَائِبُ الْهُمُومِ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ رَأْيٌ وَلَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ خَاطِرٌ.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ بِتَرْدَادِ الْفِكْرِ يَنْجَابُ لَكَ الْعِكْرُ.
وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَشَارِ فِيهِ غَرَضٌ يُتَابِعُهُ وَلَا هَوًى يُسَاعِدُهُ فَإِنَّ الْأَغْرَاضَ جَاذِبَةٌ وَالْهَوَى صَادٌّ وَالرَّأْيُ إذَا عَارَضَهُ الْهَوَى وَجَاذَبَتْهُ الْأَغْرَاضُ فَسَدَ.
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ
وَقَدْ تَحْكُمُ الْأَيَّامُ مَنْ كَانَ جَاهِلًا
…
وَيُرْدِي الْهَوَى ذَا الرَّأْيِ وَهُوَ لَبِيبٌ
وَيُحْمَدُ فِي الْأَمْرِ الْفَتَى وَهُوَ مُخْطِئٌ
…
وَيُعْذَلُ فِي الْإِحْسَانِ وَهُوَ مُصِيبٌ
فَإِذَا اُسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ فِي رَجُلٍ كَانَ أَهْلًا لِلْمَشُورَةِ وَمَعْدِنًا لِلرَّأْيِ فَلَا تَعْدِلْ عَنْ اسْتِشَارَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ فَضْلِ رَأْيِكَ وَثِقَةً بِمَا تَسْتَشْعِرُهُ مِنْ صِحَّةِ رَوِيَّتِكَ فَإِنَّ رَأْيَ غَيْرِ ذِي الْحَاجَةِ أَسْلَمُ وَهُوَ مِنْ الصَّوَابِ أَقْرَبُ لِخُلُوصِ الْفِكْرِ وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مَعَ عَدَمِ الْهَوَى وَارْتِفَاعِ الشَّهْوَةِ.
فَعَلَى هَذَا فَمَنْ تَرَكَ الِاسْتِخَارَةَ وَالِاسْتِشَارَةَ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ التَّعَبِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ لِدُخُولِهِ فِي الْأَشْيَاءِ بِنَفْسِهِ دُونَ الِامْتِثَالِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَمَا أَحْكَمْته فِي ذَلِكَ إذْ إنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ إلَّا عَمَّتْهُ الْبَرَكَاتُ وَلَا تُتْرَكُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا حَصَلَ فِيهِ ضِدُّ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْتَخِيرُ إلَى مَا يَنْشَرِحُ إلَيْهِ صَدْرَهُ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ عَزْمُهُ عَلَى السَّفَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَثِلَ