الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَتَارَةً يُسْرِعُ الْقَصَّارُ فِي قِصَارَتِهَا وَتَارَةً يَسْتَعْمِلُهَا الْآخَرُ ثُمَّ يُقَصِّرُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا فَرَغَتْ قِصَارَتُهَا خَرَجَتْ كَأَنَّهَا جَدِيدَةٌ لِمَا يَفْعَلُ فِيهَا مِمَّا يُحَسِّنُهَا ظَاهِرًا فَإِذَا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي وَلَبِسَهَا تَقَطَّعَتْ سَرِيعًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَسَبَبُ هَذَا الْغِشِّ عَدَمُ الْبَيَانِ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَقَدْ وَرَدَ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَتْرُكْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.
شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا وَاحِدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَنِيَّتِهِ وَآخَرُ يَدْخُلُ النَّارَ بِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ سُوَيْدَاءُ الْقُلُوبِ مِنْ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ وَضِدِّهَا وَمِنْ حُسْنِ التَّصَرُّفِ أَوْ ضِدِّهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي عِلِّيِّينَ يَرْجِعُ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ بِسَبَبِ عَمَلِهِ وَنِيَّتِهِ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغِشِّ مِنْ الْمَهَالِكِ إلَّا أَنَّ الْبَرَكَةَ تُنْزَعُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ضَرَرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ فِي حَقِّهِمْ وَعَدَمِ نُصْحِهِ لَهُمْ، وَمَنْ نَصَحَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ فَقَدْ فَازَ بِالرَّاحَةِ وَالْعَافِيَةِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِكَرَمِهِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ.
[فَصْلٌ فِي صِنَاعَةِ الْخِيَاطَةِ]
ِ وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ أَيْضًا مِنْ آكَدِ الصَّنَائِعِ وَهِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ غَالِبًا وَذَلِكَ فَرْضٌ سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا عَوْرَةٌ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ فَمِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ وَسَتْرُ بَاقِي بَدَنِهِ سُنَّةٌ وَكَمَالٌ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّجَمُّلُ الْمَطْلُوبُ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، ثُمَّ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَى عِبَادِهِ {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] فَنَبَّهَ سبحانه وتعالى بِذِكْرِ الْحَرِّ عَلَى الْبَرْدِ إذْ أَنَّ مَا يَقِي الْحَرَّ يَقِي الْبَرْدَ
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْخِيَاطَةُ خَيْرُهَا مُتَعَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَحْدَهُ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُدَنِّسَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشِينُهَا أَوْ يَذْهَبُ بِثَوَابِهَا أَوْ يُنْقِصُهَا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالتَّعْلِيمِ أَوْ بِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ.
فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النُّصْحُ فِي صَنْعَتِهِ جَهْدَهُ لِتَحْصِيلِ هَذَا الثَّوَابِ، وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَفَاسِدَ فِي صَنْعَتِهِ فَإِنَّ ضَرَرَهَا مُتَعَدٍّ كَمَا أَنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ إذْ إنَّهُ إذَا لَمْ يَنْصَحْ فِيهَا كَانَ فِي ذَلِكَ ضَيَاعٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ.
وَمَفَاسِدُهَا عَدِيدَةٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا لَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا كَلَّفَ الصَّانِعَ الَّذِي عِنْدَهُ أَنْ يَخِيطَ بِالْخَيْطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتِلَهُ فَلَا يَفْعَلُ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَيْطَ إذَا لَمْ يُفْتَلْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ تُقِيمُ الْخِيَاطَةَ مَعَهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُلَّ وَيُوَسِّعَ بَيْنَ الْغُرْزَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ أَوْ يُكْرَهُ فَيَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَخِيطُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا لِأُجْرَتِهِ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبَ حَرِيرٍ لِلرِّجَالِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِ الْحَرِيرِ سَابِلًا لِأَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ أَوْ يَكُونَ فِي الثَّوْبِ لِلرِّجَالِ وُسْعٌ خَارِقٌ يَصِلُ إلَى حَدِّ السَّرَفِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ.
وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالثَّوْبُ الْوَاسِعُ وَالسَّابِلُ فِي حَقِّهِنَّ سُنَّةٌ وَكَمَالٌ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تَفْصِيلِهِ ثِيَابَ النِّسَاءِ عَلَى مَا اصْطَلَحْنَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِنْ لُبْسِ الضَّيِّقِ وَالْقَصِيرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَائِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ فِي ثِيَابِ الرِّجَالِ أَنْ تَكُونَ قَصِيرَةً دُونَ وُسْعٍ خَارِقٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ وَلَمَّا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ سَيِّدُ الْعِبَادِ فِي زَمَانِهِ عَلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ ثَوْبُهُ إلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، قَالَ لَهُ بِلَالٌ: مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ يَا ابْنَ وَاسِعٍ؟
فَقَالَ لَهُ ابْنُ وَاسِعٍ: أَنْتُمْ شَهَرْتُمُونَا هَكَذَا كَانَ لِبَاسُ مَنْ مَضَى وَإِنَّمَا أَنْتُمْ طَوَّلْتُمْ ذُيُولَكُمْ فَصَارَتْ السُّنَّةُ بَيْنَكُمْ بِدْعَةً وَشُهْرَةً وَالْوَاسِعُ الطَّوِيلُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ هُوَ السُّنَّةُ فَعَكَسُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَصِّلَ ثَوْبًا لِجِنْدَارٍ أَوْ ظَالِمٍ وَمَا أَشْبَهَهَا وَلَا يَخِيطُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى مَا يَتَعَاطَوْنَهُ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْإِثْمِ بِسَبَبِ الْإِعَانَةِ لَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَبِهِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ أَقَلَّ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ إذَا بَاشَرَهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ الْهِجْرَانِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا سُحْتٌ وَهُوَ يَتْعَبُ فِي صَنْعَتِهِ لِيَأْكُلَ الْحَلَالَ فَكَيْفَ يَأْخُذُ الْحَرَامَ الْبَيِّنَ فِي أُجْرَتِهِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ التَّعَبُ وَأَكْلُ الْحَرَامِ.
وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَلَالَ بِسَبَبِ صَنْعَتِهِ وَهُوَ يَعْمَلُهَا لِمَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنْ اضْطَرَّ إلَى الْخِيَاطَةِ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ غُصِبَ عَلَيْهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَسِّعَ الْحِيلَةَ فِي أَخْذِ أُجْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبِهِمْ مِثْلَ أَنْ يَتَدَايَنُوا وَيَدْفَعُوا لَهُ أُجْرَتَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يُحِيلُوهُ بِهَا عَلَى مَنْ هُوَ مُسْتَتِرٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِيمَا بِيَدِهِ.
وَهَذَا إذَا كَانَ مَالُ الظَّالِمِ كُلُّهُ حَرَامًا فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَيَّلَ فِي أَخْذِ أُجْرَتِهِ مِنْ الْجِهَةِ الْمَسْتُورَةِ بِالْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ أَبْرَكُ وَأَنْجَحُ لِعَمَلِهِ وَسَعْيِهِ وَمِنْ آكَدِ مَا يَجْتَنِبُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَخِيطَ لِمُقَدِّمٍ وَمَنْ فَوْقَهُ وَمَنْ دُونَهُ مِمَّنْ يُشْبِهُهُمْ فِي كَثْرَةِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ
وَمِنْ آكَدِهَا أَيْضًا أَنْ لَا يُفَصِّلَ وَلَا يَخِيطَ ثَوْبًا لِامْرَأَةٍ يَتَّهِمُهَا بِالْبِغَاءِ أَوْ مَنْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهِ فَإِنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهَا عَلَى الزِّنَا لِكَوْنِهَا تَتَجَمَّلُ بِلُبْسِ ذَلِكَ لِغَيْرِ زَوْجِهَا.
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ لِنُطْفَةٍ وَقَعَتْ فِي حَرَامٍ» أَوْ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ.
وَكَذَلِكَ لَا يَخِيطُ لِمَنْ كَانَتْ مُتَبَرِّجَةً مِنْ النِّسَاءِ مُظْهِرَةً لِلزِّينَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهَا عَلَى الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّجَ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ وَيَجُرُّ
ذَلِكَ إلَى إدْخَالِ التَّشْوِيشِ وَالْفَسَادِ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْفِتْنَةِ فَهُوَ كَفَاعِلِهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِتْنَةَ شَارِبِ الْخَمْرِ قَدْ تَعَدَّتْ إلَى لَعْنِ نَحْوِ الْعَشَرَةِ وَهُمْ عَاصِرُهَا وَشَارِبُهَا وَبَائِعُهَا وَمُشْتَرِيهَا وَالْمَحْمُولَةُ لَهُ وَمُقْتَنِيهَا وَحَاضِرُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ كُلُّ مُخَالَفَةٍ فِي الْغَالِبِ تَجِدُ فِتْنَتَهَا مُتَعَدِّيَةً فَيَقَعُ الْإِثْمُ عَلَى فَاعِلِهَا وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَعَانَهُ بِشَيْءٍ مَا بِحَسَبِ حَالِهِ فَلْيَحْذَرْ مَنْ يَحْذَرُ وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ.
وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَصِّلَ وَلَا يَخِيطَ ثَوْبًا لِمَكَّاسٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّنْ شَابَهَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَتَرْكُ التَّغْيِيرِ عَلَيْهِ أَيْضًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ الْوَاسِعِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُتَلَبِّسًا بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ مَا يَأْمُرُ الْعِلْمُ بِهِ وَالْعِلْمُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ثَوْبِهِ مِنْ السِّجَافِ الْوَاسِعِ فِي ذَيْلِهِ وَأَكْمَامِهِ وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُ جَهْدَهُ.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ قُصَاصَةَ كُلِّ مَا خَيَّطَهُ وَمَا فَضَلَ فَيَحْفَظُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُلْقِيه فِي الثَّوْبِ حِينَ طَيِّهِ وَلَا يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ فَتَعْمُرُ بِهِ ذِمَّتُهُ.
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ وَيَشْغَلَ بِحِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالْمُضِيِّ إلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا يَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ فَضِيلَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ صَنْعَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ خُسْرَانٌ بَيِّنٌ وَحِرْمَانٌ ظَاهِرٌ وَمُذْهِبٌ لِلْبَرَكَاتِ وَسَائِقٌ إلَى الْمُخَالَفَاتِ؛ لِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَهَا أُخَيَّاتٌ كَمَا أَنَّ الْحَسَنَةَ لَهَا أُخَيَّاتٌ فَيَخَافُ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَئُولَ أَمْرُهُ إلَى تَرْكِ الصَّلَوَاتِ أَوْ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِيهَا وَشُغْلُهُ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ وَالْأَخْذُ فِي شَأْنِهَا يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَيُذْهِبُ بِالتَّعَبِ وَتَقَعُ بِهِ الْبَرَكَةُ.
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]
الْآيَةَ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ رحمه الله أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الَّذِينَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ تَرَكُوا كُلَّ شُغْلٍ وَبَادَرُوا إلَيْهَا وَرَأَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَهْلَ السُّوقِ وَهُمْ مُقْبِلُونَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَادَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] وَمَا يَفْعَلُهُ هُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَأْمُرُ بِهِ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ الصُّنَّاعِ فَإِنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ «وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالْخَيَّاطِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ مِنْ الْخَيَّاطِينَ وَغَيْرِهِمْ فَحَقٌّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَادِرُوا إلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُدِبُوا إلَيْهِ لِتَحْصُلَ لَهُمْ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ لِامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ عليه الصلاة والسلام، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ مِنْ الْغِيبَةِ وَالْمُزَاحِ بِالْكَذِبِ وَأَخْبَارِ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ مَا هُوَ حَرَامٌ وَمِنْهُ مَا يَجُرُّ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ الْبَيِّنِ سِيَّمَا إنْ كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ الشُّبَّانِ فَتَكْثُرُ الْمَفَاسِدُ وَقَدْ يَئُولُ إلَى ارْتِكَابِ أُمُورٍ كَانُوا عَنْهَا فِي غِنًى.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ: يَفْرُغُ ثَوْبُك بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ لَا يَفِي لَهُ بِذَلِكَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «وَيْلٌ لِلصَّانِعِ مِنْ غَدٍ وَبَعْدَ غَدٍ وَوَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ تَاللَّهِ وَبِاَللَّهِ» ثُمَّ لِيَحْذَرْ أَيْضًا مِنْ الْأَيْمَانِ فَإِنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَلَيْسَتْ مِنْ شِيَمِ النَّاسِ وَلَا مِنْ عَادَتِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ رضي الله عنهم كَانُوا يَحْتَرِمُونَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَذْكُرُوهُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّخَاذَ السَّجَّادَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ فَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهَا بِسَبَبِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ تَوَقِّي نَجَاسَةٍ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حَصِيرٍ أَوْ مِنْ الْقُمَاشِ الْغَلِيظِ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى مَا لَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مَكْرُوهَةٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا
بَالُك بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّجَّادَاتِ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْ النَّصَافِي وَشَبَهِهَا وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا وَالْإِعَانَةُ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ يَكُونُ مَكْرُوهًا فَلَا يُعِينُ بِخِيَاطَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ مَخِيطَةً عَلَى تَرْتِيبِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ جَعْلِ الْقِبْلَةِ وَتَضْرِيبِهَا؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ وَخُشُوعٍ وَذِلَّةٍ وَمَسْكَنَةٍ لَا حَالَ فَخْرٍ وَخُيَلَاءَ وَتَنَعُّمٍ، حَتَّى إنَّهُ لَيُعْطِي بَعْضُهُمْ فِي خِيَاطَةِ السَّجَّادَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ خِرْقَتِهَا.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ خِيَاطَةَ دُلُوقِ الشُّهْرَةِ وَالْمُرَقَّعَاتِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ النَّاسِ كَأَنَّهَا دَكَاكِينُ فَتَجِدُ بَعْضُهُمْ يَأْخُذُ خِرَقًا جُمْلَةً مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَخْضَرَ وَأَحْمَرَ وَأَسْوَدَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَيُرَتِّبُونَهَا وَاحِدَةً بِجَنْبِ الْأُخْرَى وَبَعْضُهُمْ يَتَغَالَى فِي تِلْكَ الْمُرَقَّعَاتِ فَيَجْعَلُهَا مِنْ الْقُمَاشِ الرَّفِيعِ الْفَاخِرِ الَّذِي لِتَفْصِيلِهِ ثَمَنٌ كَثِيرٌ فَيَقْطَعُونَهَا خِرْقَةً خِرْقَةً لِأَجْلِ غَرَضِ الشُّهْرَةِ الْمَمْنُوعَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى صِفَةِ هَذِهِ الْمُرَقَّعَةِ أَيُّ شَبَهٍ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مُرَقَّعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الَّتِي كَانَ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً أَحَدُهَا مِنْ أُدْمٍ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ وَقَدْ رَقَّعَ الْخُلَفَاءُ ثِيَابَهُمْ قَالَ: وَذَلِكَ مِنْ شِعَارِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْمُتَّقِينَ قَالَ وَأَخْطَأَتْ الصُّوفِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَجَعَلَتْهُ فِي الْجَدِيدِ وَأَنْشَأَتْهُ مُرَقَّعَاتٍ مِنْ أَصْلِهِ وَهَذَا دَاخِلٌ فِي بَابِ الرِّيَاءِ، قَالَ: وَالْمَقْصُودُ بِالتَّرْقِيعِ اسْتِدَامَةُ الِانْتِفَاعِ بِالثَّوْبِ عَلَى هَيْئَتِهِ أَوْ يَكُونُ رَافِعًا لِلْعُجْبِ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
لَيْسَ التَّصَوُّفُ لُبْسَ الصُّوفِ تُرَقِّعُهُ
…
وَلَا بُكَاؤُك إنْ غَنَّى الْمُغَنُّونَا
وَلَا صِيَاحٌ وَلَا رَقْصٌ وَلَا طَرَبٌ
…
وَلَا ارْتِعَاشٌ كَأَنْ قَدْ صِرْت مَجْنُونًا
بَلْ التَّصَوُّفُ أَنْ تَصْفُوَ بِلَا كَدَرٍ
…
وَتَتْبَعَ الْحَقَّ وَالْقُرْآنَ وَالدِّينَا
وَأَنْ تُرَى خَاشِعًا لِلَّهِ مُكْتَئِبًا
…
عَلَى ذُنُوبِك طُولَ الدَّهْرِ مَحْزُونًا
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ ذُلٍّ وَصَغَارٍ ثُمَّ أَشْعَلَهُ عَلَيْهِ نَارًا» وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رحمه الله فِيمَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ: إنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْمُطْرَقِ بِالْمِطْرَقَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْمُطْرَقَ بِالْمِطْرَقَةِ قَدْ عَلِمَ مَنْعَهُ وَتَحْرِيمَهُ بِالشَّرْعِ الشَّرِيفِ غَالِبًا بِخِلَافِ هَذِهِ الْمُرَقَّعَاتِ فَإِنَّهُ يَلْتَبِسُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَمْرُهَا فَيَظُنُّ جَوَازَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخِيطَ أَقْبَاعَ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ كَمَا لَا يَخِيطُ ثَوْبًا حَرِيرًا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَكَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْإِثْمِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَكَذَلِكَ يَجْتَنِبُ خِيَاطَةَ الْقُبَعِ الَّذِي أُجْرَةُ خِيَاطَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ لِحُسْنِ خِيَاطَتِهِ كَمَا سَبَقَ فِي السَّجَّادَةِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْغِشِّ بِعَمَلِ الطَّوَاقِي وَالْأَقْبَاعِ مِنْ الْخِرَقِ الْمَلْبُوسَةِ الَّتِي يُدَلِّسُونَ بِهَا عَلَى النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يَغْسِلُونَهَا وَيُنَشُّونَهَا وَيُصْقِلُونَهَا صَقْلًا كَثِيرًا حَتَّى تَصِيرَ كَأَنَّهَا جَدِيدَةٌ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَبِيعُهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا لَوْ كَانَتْ جَدِيدَةً أَوْ بِمَا يُقَارِبُهُ فَإِذَا غُسِلَتْ تَقَطَّعَتْ وَتَمَزَّقَتْ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الصَّنْعَةِ فِي شَيْءٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ وَذَلِكَ مِنْ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهَا وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا مِنْ الْخَلِيعِ وَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَإِنْ بَاعَهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا وَرَضِيَا بِذَلِكَ هَذَا إذَا صَقَلَهَا وَحَسَّنَهَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَقْلَهَا وَتَحْسِينَهَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ يَزِيدُهَا ضَعْفًا عَلَى ضَعْفِهَا.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ لَا يَعْمَلَ الذَّهَبَ فِي أَقْبَاعِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُهُ فِي الْقُصَاصَةِ وَالْخِرَقِ الَّتِي تَفْضُلُ مِنْ الْخِيَاطَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَقْبَاعِ الْجَائِزِ لُبْسُهَا يَرُدُّ مَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الْإِشَارَةِ مَا يُغْنِي عَنْ الْعِبَارَةِ بِذِكْرِ تَفَاصِيلِ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْخِيَانَةِ وَعَدَمِ الِاحْتِرَازِ لَا جَرَمَ أَنَّ الْبَرَكَةَ قَدْ انْحَازَتْ عَنْهُمْ بِمَعْزِلٍ وَكَيْفَ لَا وَالْبَرَكَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الِامْتِثَالِ وَالنُّصْحِ لِلْعِبَادِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.
وَأَمَّا الْجَمَاجِمُ
الَّتِي اعْتَادَهَا بَعْضُ مَنْ يَنْسُبُ إلَى الْخِرْقَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَعْمَلُونَ الْجُمْجُمَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ السَّرَفِ وَالْبِدْعَةِ وَالْخُيَلَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُ مَا يُعَوِّضُ عَنْهُ بِدِرْهَمَيْنِ إلَى سَبْعَةٍ إلَى عَشْرَةٍ وَهُوَ كَثِيرٌ سِيَّمَا وَمَنْ يَفْعَلُ هَذَا مَنْسُوبٌ فِي الظَّاهِرِ إلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَتَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِهَا وَصَرْفِهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَبِسَ الْجُمْجُمَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ ضِدَّ هَذَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ ثَمَنُ قَدَمِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى لُبْسِ مَا يُنَاسِبُهُ عَلَى بَدَنِهِ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَسْكَنِ وَالزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ غَالِبًا فَصَارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ يَسْتَقِلُّ مَا يَأْتِيه مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لِأَجْلِ مَا اعْتَادَهُ مِنْ هَذِهِ الْوَظَائِفِ فَالْحَاصِلُ فِي حَقِّ الصَّانِعِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَرَاتِبِ النَّاسِ وَتَحْصِيلِهَا إمَّا بِالتَّعَلُّمِ أَوْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ.
فَمَا كَانَ مِنْهَا وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا فَيَفْعَلُهُ بِنِيَّةِ الْإِعَانَةِ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ؛ فَيَكُونُ شَرِيكًا لِفَاعِلِهِمَا فِي الثَّوَابِ.
وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَيَفْعَلُهُ بِنِيَّةِ قَضَاءِ حَوَائِجِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَيَصِيرُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ قُرْبَةً ثُمَّ يَصْحَبُهُ بِنِيَّةِ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَيَعْمَلُ عَلَى تَرْكِهِ جَهْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ ارْتَكَبَهُ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ.
وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَلَا يَقْرَبُهُ أَصْلًا بَلْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِزٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ فَالْوَاجِبُ مِنْ اللِّبَاسِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنْ أَبْصَارِ الْخَلْقِ وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَفِي النِّسَاءِ آكَدُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ إسْلَامِيٌّ وَالْوَاجِبُ مِنْهُ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ مَا يَقِي مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَيَسْتَدْفِعُ بِهِ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى فِي الْحَرْبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ عز وجل فَهُوَ كَالرِّدَاءِ لِلْإِمَامِ وَالْخُرُوجِ إلَى
الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ عز وجل {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ الرِّدَاءُ.
وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] أَنَّهُ الطَّاعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَجْمَلُ وَلَا أَزْيَنُ مِنْهَا إذْ إنَّهُ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى يَكُونُ الْقَبُولُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَهُ ثِيَابٌ لِلْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ» وَمَا فِي مَعْنَاهُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ وَهُوَ مَا يَتَجَمَّلُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ «لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلِ الَّذِي نَزَعَ الثَّوْبَيْنِ الْخَلَقَيْنِ وَلَبِسَ الْجَدِيدَيْنِ أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَك قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَهُوَ لُبْسُ مَا كَانَ مِنْ الرَّقِيقِ لِلرِّجَالِ بِلَا خِلَافٍ وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ إلَّا مَعَ زَوْجٍ.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عليه الصلاة والسلام بِقَوْلِهِ «نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ» .
وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَلُبْسُ ثَوْبٍ لِلشُّهْرَةِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَلُبْسُ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَهُوَ مُبَاحٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.
فَإِنْ قَالَ الصَّانِعُ مَثَلًا: إذَا تَحَرَّزْت مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ ذَهَبَتْ الْمَعِيشَةُ أَوْ قَلَّتْ وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى الصَّنْعَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَاتِ وَالْعَائِلَةِ وَقَلَّ أَنْ تَتَأَتَّى الصَّنْعَةُ مَعَ مَا ذَكَرْتُمْ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ هُوَ الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ جَلْبًا وَيَسُوقُهُ سَوْقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْمُتَّقِينَ الْمُوفِينَ بِالْأَمَانَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ نَصَحَ فِي صَنْعَتِهِ فَقَدْ نَصَحَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثُرَ الْحَلَالُ لَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ بِذَلِكَ بَادَرَ إلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَشْغَالِهِمْ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَسْبُهُمْ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ الْحَلَالِ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِذَا امْتَثَلَ الْخَيَّاطُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَشَى عَلَى مَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ وَتَحَرَّى لِنَفْسِهِ فَلَا يُبَالِي فِي أَيِّ وَقْتٍ يَفْجَؤُهُ الْمَوْتُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا كَانَ فِي دُكَّانِهِ أَوْ فِي بَيْتِهِ كَانَ فِي صَنْعَتِهِ أَوْ فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى جَاءَهُ الْمَوْتُ وَجَدَهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالطَّاعَةِ