الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَانَ مُعْتَنًى بِهِ فَيَخَافُ مَنْ اسْتَطَبَّهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مُعْتَنًى بِهِ أَنْ يَهْلِكَ مَعَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا الْخَوْفُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِرِ لَكَانَ مُتَعَيَّنًا تَرْكُهُ فَكَيْفَ مَعَ وُجُود مَا تَقَدَّمَ.
[فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِطِبِّ الْأَبَدَانِ وَتَكْحِيلُ الْعُيُونِ وَمَعْرِفَةُ الْحِسَابِ]
(فَصْلٌ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى اشْتِغَالِهِمْ بِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ طِبُّ الْأَبَدَانِ وَتَكْحِيلُ الْعُيُونِ وَمَعْرِفَةُ الْحِسَابِ؛ لِأَنَّهُمْ تَوَصَّلُوا بِسَبَبِهَا إلَى إتْلَافِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ غَالِبًا فِي أَبْدَانِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُهِمُّهُ صَلَاحُ بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ فَإِنْ اعْتَلَّ بَدَنُهُ احْتَاجَ إلَى مُبَاشَرَةِ الطَّبِيبِ لَهُ وَالْكَحَّالِ لِعَيْنَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ احْتَاجَ لِمَنْ يَحْصُرُهُ وَيَحْسِبُهُ وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِخْلَالَ بِالدِّينِ؛ لِأَنَّهُ بِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِي أَحَدِهِمَا يَقَعُ الْخَلَلُ فِي الدِّينِ غَالِبًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ قَائِمًا فَإِذَا حَصَلَ لَهُ الْخَلَلُ فِي بَدَنِهِ رَجَعَ إلَى الْجُلُوسِ فَإِنْ اشْتَدَّ عَلَيْهِ رَجَعَ إلَى الِاضْطِجَاعِ، وَكَذَلِكَ يُفْطِرُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَكَذَلِكَ الْمُكَلَّفُ يَكُونُ مَعَهُ مَا يَتَسَبَّبُ فِيهِ فِي سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ مِثْلُ الزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِ بِالظُّلْمِ وَالْغَرَامَةِ يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ إلَى مَخْدُومِهِمْ مِنْ الظَّلَمَةِ فَيَضْطَرُّ الْمُتَسَبِّبُ الْمِسْكِينُ إلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْحِيَلَ فِي التَّسَبُّبِ بِسَبَبٍ آخَرَ لِيَقْتَاتَ مِنْهُ فَيَحْصُلَ لَهُ بَطَالَةُ الْوَقْتِ وَخُلُوِّهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالْفِكْرِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لِشُغْلِهِ بِالْفِكْرَةِ فِي أَمْرِ قُوتِهِ. وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه الرِّفْقُ فِي النَّفَقَةِ، وَلَا الزِّيَادَةُ فِي الْكَسْبِ أَوْ كَمَا قَالَ.
فَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِقْلَالَ مِنْ التَّكَسُّبِ فِي الدُّنْيَا أَبْرَكُ وَأَنْجَحُ لِأَجْلِ التَّفَرُّغِ لِلِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَثُرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ التَّنَقُّلُ مِنْ سَبَبٍ إلَى سَبَبٍ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رحمه الله لِمَنْ قَالَ لَهُ: لِمَ تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَكَانَ عَلَى كَتِفِهِ جِرَابٌ؟ فَقَالَ: إلَى بَلَدٍ أَمْلَأُ هَذَا بِدِرْهَمٍ أَوْ كَمَا قَالَ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ السِّعْرَ إذَا رَخُصَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَبِيرِ تَسَبُّبٍ، وَلَا عَمَلٍ فَيَبْقَى الْمَرْءُ مُقْبِلًا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ مُعْرِضًا عَمَّا يَشْغَلُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى
قَالَ أَهْلُ الطَّرِيقِ: مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ كُلِّفَ مِنْ الْعَمَلِ أَكْثَرَ مِنْ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ مَعَ أَكْثَرِ مَا تَعْمَلُهُ فَإِنْ كَثُرَتْ أَسْبَابُ الدُّنْيَا عَلَيْهَا مَالَتْ إلَيْهَا وَإِنْ كَثُرَ شُغْلُهَا بِأَسْبَابِ الْآخِرَةِ مَالَتْ إلَيْهَا. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالُوا: إنَّ مَنْ نَقَصَ فِي عَشَائِهِ عَنْ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ يُطِيلُ الْقِيَامَ أَوْ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ ضِدَّ مَا تُرِيدُهُ النَّفْسُ مِنْ الرَّاحَةِ عِنْدَ الشِّبَعِ، فَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ أَوْ أَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ كَانَتْ الطَّاعَةُ أَغْلَبَ عَلَى الْجَوَارِحِ فَتَنْقَادُ النَّفْسُ إلَيْهَا أَكْثَرَ وَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ فَضِيلَةُ الْجِهَادِ، وَلَا جِهَادَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «رَجَعْتُمْ مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» أَوْ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام؛ لِأَنَّ جِهَادَ النُّفُوسِ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ إذْ إنَّهُ عَمَلٌ بَيْنَ الْمُكَلَّفِ وَبَيْنَ رَبِّهِ عز وجل وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى مُبَاشَرَتِهِمْ لِوُجُودِ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ؛ لِأَنَّك قَدْ تَجِدُ فِي الْمَدَارِسِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ مَنْ لَهُ الْيَدُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَقَدْ جُبِلُوا عَلَى الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّهَا عَوَائِدُ اُنْتُحِلَتْ وَأَنِسَتْ النُّفُوسُ بِهَا مَعَ وُجُودِ الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي وَالْهَوَى الْمُرْدِي أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.
مَعَ أَنَّ أَصْلَ الطِّبِّ إنَّمَا هُوَ بِالتَّجْرِبَةِ وَعَنْهَا أُخِذَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ طَبِيبٌ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ أَوْ كَحَّالٌ وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُشْتَرِينَ لَدَيْهِ الْمَعْرِفَةُ التَّامَّةُ الْجَيِّدَةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَمَا ذَاكَ إلَّا بِسَبَبِ كَثْرَةِ التَّجَارِبِ فَمَنْ كَثُرَتْ تَجَارِبُهُ كَثُرَتْ مَعْرِفَتُهُ فِيهِ، وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْقَوَابِلِ وَالْعَجَائِزِ يَعْرِفْنَ جُمْلَةً مِنْ ذَلِكَ الْمَعْرِفَةِ الْجَيِّدَةِ وَهَذَا رَاجِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَثْرَةِ التَّجَارِبِ.
وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَرْجِعُونَ إلَى اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ تَيَقُّنِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنَّ الطَّبِيبَ الْكَافِرَ يُبَاشِرُهُمْ وَلَيْسَ فِي عَقْلِهِ