الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِهَا إذْ إنَّ قَاعِدَةَ مَذْهَبِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى بَاطِنِ الْأَمْرِ وَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ لَا إلَى اللَّفْظِ الظَّاهِرِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُ الِاحْتِرَافِ بِهَا كَمَا تَعَيَّنَ تَرْكُ الزَّارِعَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى سَبَبٍ آخَرَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَهَكَذَا كُلَّمَا وَجَدَ عِلَّةً فِي سَبَبِ تَرْكِهِ وَعَدَلَ إلَى غَيْرِهِ إلَى أَنْ يَجِدَ سَبَبًا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَيَحْتَرِفُ بِهِ فَتَقَعُ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ بِخِلَافِ مَنْ تَسَبَّبَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تُمْحَقُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مَعَ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ لَهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
[فَصْلٌ فِي صِنَاعَةِ الْقَزَازَةِ]
ِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا كَالْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسَةِ أَعْنِي فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَالْفَرْضُ أَعْلَى فِي الْفَضْلِ مِنْ السُّنَنِ فَيُنْظَرُ أَوَّلًا فِي النِّيَّاتِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْعَالِمُ إلَى الْمَسْجِدِ وَإِلَى إلْقَاءِ الدُّرُوسِ وَإِلَى السُّوقِ فَيَنْوِي مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْهَا فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ أَمْرِ صِنَاعَةِ الْقَزَازَةِ وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ فِي أَمْرِ صِنَاعَتِهَا عَلَى نِيَّةِ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْهُ وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِرَفْعِ الْكُلْفَةِ عَنْهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا يُحَاوِلُهُ وَتَيْسِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَالنُّصْحِ لَهُمْ فِيهِ وَأَمْرُ الرِّزْقِ تَابِعٌ لِذَلِكَ لَا مَتْبُوعٌ إذْ إنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ فَلَيْسَ لِلْمَرْءِ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا بِصِنَاعَتِهِ وَلَا بِحِيلَتِهِ وَلَا عَلَى أَنْ يُنْقِصَ مِنْهُ شَيْئًا بِكَسَلِهِ وَتَرْكِهِ لِمُعَانَاتِهِ بَلْ يَكُونُ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عز وجل لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلًا وَلَا عِوَضًا.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النَّصِيحَةُ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ مِنْ صِنَاعَتِهِ فَيَنْصَحُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرُ وَقَدْ قِيلَ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، فَإِذَا كَانَ الْغَزْلُ فِيهِ عَفَنٌ أَوْ أَصَابَتْهُ مِنْ قِلَّةِ التَّبْيِيضِ عِلَّةٌ تُضْعِفُ شَيْئًا مِنْ قُوَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَيْعِ الْبَيَانَ الشَّرْعِيَّ.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ
بَعْضُ مَنْ لَا يَسْأَلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي صَنْعَتِهِ مِنْ النَّصِيحَةِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْبَيَانِ لَهُمْ.
وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْخُذُ غَزْلَ الْحَرِيرِ فَيَغْلِيه نِصْفَ غَلْيٍ ثُمَّ يُخْرِجُهُ وَهُوَ بَعْدُ عَلَى حَالِهِ مِنْ عَدَمِ كَمَالِ التَّبْيِيضِ ثُمَّ يَصْبُغُهُ ثُمَّ يَفْتَرِقُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهُ غَزْلًا لِمَنْ يُطَرِّزُ بِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسِجُهُ وَيَبِيعُهُ خِرْقَةً.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ مِنْهُ حَاشِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْزِجُهُ مَعَ الْغَزْلِ كَثَوْبِ الطُّرَحِ، كُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ.
أَمَّا تَرْكُهُمْ كَمَالَ بَيَاضِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى لِلِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ الَّذِي يُكَمِّلُ بَيَاضَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَقْوَى.
وَأَمَّا بَيْعُهُ غَزْلًا فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا وَالْخَدِيعَةِ إذْ إنَّهُ لَا يَمْكُثُ إلَّا قَلِيلًا وَيَتَغَيَّرُ إنْ لَمْ يُغْسَلْ فَإِذَا غُسِلَ ذَهَبَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْغَسْلِ يَتَصَوَّفُ وَيَرْجِعُ إلَى أَصْلِهِ شَعْرًا.
وَأَمَّا نَسْجُهُ خِرْقَةً وَبَيْعُهَا فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْغِشِّ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهَا إنَّمَا يَأْخُذُهَا عَلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَيَّنَ لَهُ الْبَائِعُ مَا يَتَأَتَّى فِي الْخِرْقَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ بِسَبَبِ مَا جَرَى فِي غَزْلِهَا لَامْتَنَعَ مِنْ شِرَائِهَا.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْبَائِعَ بَيَّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي وَرَضِيَ بِهِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا - مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَقَدْ نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَمَنْ ارْتَكَبَ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ آثِمٌ.
وَالثَّانِي - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَشْتَرِي الْخِرْقَةَ؛ لَأَنْ يَبِيعَهَا فَتَتَعَدَّى الْمَفْسَدَةُ إلَى غَيْرِهِ وَغَيْرِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ هَذَا لَا يُبَيِّنُ الْآخَرَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ إضَاعَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكِيمْيَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ بَيَّنَ فَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ لَا يُبَيِّنُ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي التَّحْرِيمِ.
وَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا إلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَصْلًا مِثْلُ الصَّبِيِّ فِي الْمَهْدِ يَرِثُ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمُرُّ بِبَالِهِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ كَالْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يَحْسِمُ الْكِتَابَةَ وَلَا تُفْهَمُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَيَجِبُ قَطْعُ هَذِهِ
الْمَفْسَدَةِ حَتَّى يَسْلَمَ الْمَرْءُ مِنْ آفَتِهَا.
وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَتَمْتَحِقُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.
وَمِنْ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ صُنْعِ الْغَزْلِ بِالْحُرْبُثِ وَهُوَ يُحْرِقُ الْغَزْلَ وَيُذْهِبُ بِقُوَّتِهِ وَيَتْرُكُ الصُّنْعَ بِالنِّيلَةِ وَهِيَ نَافِعَةٌ لِلْغَزْلِ غَيْرُ مُضِرَّةٍ لَهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْفَسَادُ بِتَرْكِ مُلَاحَظَةِ اجْتِنَابِ مَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» وَلَا شَكَّ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَوْلَا مَحَبَّتُهُ لِلدُّنْيَا مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُرْبُثَ عِنْدَهُمْ أَرْخَصُ مِنْ النِّيلَةِ فَيَسْتَعْمِلُونَهُ لَعَلَّ أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ ثَمَنِ الصِّبْغَيْنِ وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِعَكْسٍ، فَلَوْ اسْتَعْمَلُوا النِّيلَةَ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَكَانَ أَبَرْكَ وَأَنْجَحَ وَمَعَ ذَلِكَ يَسْلَمُونَ مِنْ غِشِّ النَّاسِ وَعَدَمِ نُصْحِهِمْ وَعَدَمِ الْإِثْمِ فِي الْمُخَالَفَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ شَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُنْقِصُ قُوَّةَ الْغَزْلِ أَوْ فِيهِ تَدْلِيسٌ مَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْخِرْقَةِ شَمْعًا وَلَا يُدَلِّكُهَا بِشَيْءٍ حَتَّى تَحْسُنَ وَتَبْرُقَ أَوْ يَظْهَرَ أَنَّهَا صَفِيقَةٌ وَهِيَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ.
وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» فَلْيُعْمِلْ جَهْدَهُ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَيُعَوِّضْ عَنْهُ النَّصِيحَةَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْخِرْقَةِ أَرْشٌ أَوْ خَلَلٌ مَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْخِرْقَةِ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ لَهُ الْبَيَانَ التَّامَّ، إذْ إنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ وَعُمْدَتَهَا إنَّمَا هُوَ بِأَكْلِ الْحَلَالِ وَالْحَلَالُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ النَّصِيحَةِ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ أَوْ أَبَى، وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ أَوْ أَبَى.
، وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ عَمَلِهِ لِلصِّنَاعَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِتَحْصُلَ الْبَرَكَةُ لَهُ وَلِمَنْ يَسْتَعْمِلُ
تِلْكَ الْخِرْقَةَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِشُغْلِ بَالِهِ بِتَدْبِيرِ صَنْعَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ الذِّكْرِ بِقَلْبِهِ وَهَكَذَا يَفْعَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُحَاوِلُهُ مِنْ شُغْلِهِ بِأَمْرِ الصِّنَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَفَاعِلُهَا يَتَصَرَّفُ فِي فَرْضٍ وَاجِبٍ وَفِعْلُهُ فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ، فَكَيْفَ بِهِ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ حُسْنُ النِّيَّةِ وَتَعَدُّدُهَا وَاحْتِسَابُهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ لَا يَحْصُرُهُ إلَّا مَنْ مُنَّ بِهِ فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ شُغْلِهِ فِي الصِّنَاعَةِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَرْءِ الْمُتَعَدِّيَةِ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي مِنْ الْخَيْرِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُبَالِي صَاحِبُ هَذَا الْحَالِ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَفْجَؤُهُ الْمَوْتُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَهُ إنَّمَا يَجِدُهُ فِي الطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي إذْ إنَّ أَحْوَالَهُ كُلَّهَا قَدْ صَارَتْ جَمِيعُهَا عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّهِ عز وجل.
لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ فِي صِنَاعَتِهِ كُلَّ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِنِيَّتِهِ أَوْ مُنْقِصٌ لَهَا وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى عِلْمِ الصَّنْعَةِ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَرَى أَهْلُ الصَّنْعَةِ أَنَّهُ غِشٌّ أَوْ مَكْرُوهٌ فِيهَا فَيَجْتَنِبُهُ وَلَا يَقْرَبُهُ.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ أَنْ يَمَسَّ الْخِرْقَةَ أَوْ الْغَزْلَ إذْ ذَاكَ حَتَّى يَغْسِلَ النَّجَاسَةَ.
وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهَا بِقَدَمِهِ وَفِيهَا النَّجَاسَةُ. وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ أَوْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ أَوْ يَنْشُرَ الْغَزْلَ عَلَى حَائِطٍ أَوْ جَرِيدٍ أَوْ حَبْلٍ نَجِسٍ.
وَكَمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ مَنْ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ مِنْ الصَّانِعِ وَالصَّبِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّنَائِعِ وَأَعْظَمِهَا؛ لِأَنَّ بِهَا تَقَعُ السُّتْرَةُ غَالِبًا وَالسُّتْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي الشَّرْعِ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ.
وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَاعِي حَقَّ أَهْلِهَا وَمَا زَالَ الْفُضَلَاءُ وَأَهْلُ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ يَحْتَرِفُونَ بِهَا.
وَهَذَا بِضِدِّ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَيُجَاسِرُ بِالنُّطْقِ بِضِدِّ مَا يُخَالِفُهُ نَصُّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي كِتَابِهِ عَنْ كُفَّارِ قَوْمِ نُوحٍ عليه السلام -
أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] قَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ الْقَزَّازُونَ فَهُمْ الْأَرْذَلُونَ عِنْدَ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْخَوَاصُّ عِنْدَ الرَّبِّ عز وجل، وَهَذَا مَدْحٌ لَهُمْ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ خَصَّهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَ نُوحًا عليه السلام.
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ أَصْحَابِهِ «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» يَعْنِي أَنَّ مَنْ سَبَقَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ فَازَ بِالسَّبْقِ فَلَا يَقْدِرُ مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ أَنْ يَصِلَ إلَى فَضِيلَتِهِ، وَلَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] وَانْظُرْ إلَى قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] وَقَوْله تَعَالَى {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119]{ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [الشعراء: 120] فَلَا يَخْطِرُ بِقَلْبِ مُسْلِمٍ أَنَّ مَنْ نَجَا مَعَ نُوحٍ عليه السلام أَنَّهُمْ هُمْ الْأَرْذَلُونَ، وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ السُّفَهَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي زَمَانِ الْحَرِّ تَعَرَّوْا مِنْ السُّتْرَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَتَبْقَى عَوْرَاتُهُمْ بَادِيَةً وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُمْ.
وَقَدْ سَلِمَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مِنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ لَكِنْ قَدْ بَقِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَلْبَسُونَ سَرَاوِيلَ بِحَيْثُ إنَّهُ يَكُونُ فِي الصِّغَرِ يَصِفُ الْعَوْرَةَ وَيَبْقَى بَعْضُ الْفَخِذِ مَكْشُوفًا وَلَيْسَ الثَّوْبُ الَّذِي يَصِفُ الْعَوْرَةَ مَمْنُوعًا وَإِظْهَارُ بَعْضِ الْفَخِذِ مَكْرُوهٌ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ: حَرَامٌ، وَمَنْ تَعَرَّى مِنْ السُّتْرَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْبَهَائِمِ إذْ إنَّ وَجْهَ الْبَهِيمَةِ وَفَرْجَهَا مَكْشُوفَانِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الْبَهِيمَةِ إذْ إنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ وَهَذَا الْمِسْكِينُ مُخَاطَبٌ فَهُوَ عَاصٍ فِي فِعْلِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ وَصِيَانَةُ أَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ مِنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ فَإِنَّهَا شَنِيعَةٌ قَبِيحَةٌ.
وَقَدْ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ بَعْضُ الْمُبَارَكِينَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ يَعْمَلُ عَلَى نَوْلِهِ حَصِيرًا يَسْتُرُهُ مِنْ رُؤْيَةِ النَّاسِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُ أَوْ يُمْنَعُ.
وَهَذَا هُوَ لِلَّذِي يَتَعَيَّنُ
فِي هَذَا الزَّمَانِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مِنْ قَوْمٍ رَاجِعِينَ إلَيْهِ مُمْتَثِلِينَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْغَزْلَ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَيَخْلِطُونَ الْجَمِيعَ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مِثْلَ الْآخَرِ أَوْ أَرْفَعَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ فَيَنْسِجُونَ الْجَمِيعَ وَيُعْطُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ غَزْلِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْغَزْلَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ.
وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ لَا يَلْبَسُ إلَّا الْحَلَالَ الْبَيِّنَ.
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ بِالْعَكْسِ وَمَا بَيْنُهُمَا.
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْغَزْلَ الرَّفِيعَ لِنَفْسِهِ وَيُبَدِّلُهُ بِأَغْلَظَ مِنْهُ، أَوْ بِغَزْلٍ عَفِنٍ ضَعِيفِ الْقُوَّةِ مِثْلِهِ فِي الرُّفْعِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ الْبَيِّنِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ فِي شَيْءٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ قِسْمَيْنِ:
إمَّا أَنْ يَكُونَ صَانِعًا يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ.
وَهُوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ بِالْغَزْلِ يَنْسِجُهُ لَهُمْ وَهَذَا يُسَمُّونَهُ بِالْقِبَالَةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَ الْغَزْلَ وَيَنْسِجَهُ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعَهُ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ - يَحْتَاجُ الصَّانِعُ فِيهِ إلَى النُّصْحِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ لِمُعَلِّمِهِ وَيَتَّبِعُ غَرَضَهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَقْتَضِي التَّدْلِيسَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلَا يَرْجِعُ لِمُعَلِّمِهِ فِيهِ فَإِنْ أَبَى الْمُعَلِّمُ؛ تَرَكَهُ وَمَرَّ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يُخْلِصُ ذِمَّتَهُ عِنْدَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي - أَنْ يَعْمَلَ لِلنَّاسِ لِلْقِبَالَةِ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى النُّصْحِ أَيْضًا فِي عَمَلِهِ وَيَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَرِزَ عَلَى الْخُيُوطِ الَّتِي تَفْضُلُ فَلَا يَرْمِي مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنْ قَلَّ.
وَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ الصِّغَارِ الَّذِينَ يَخَافُ مِنْهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا شَيْئًا مِنْ الْغَزْلِ أَوْ يَرْمُوهُ أَنْ يُبَاشِرُوا غَزْلَ النَّاسِ فَيَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ فَإِنْ فَضَلَ.
بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْخُيُوطِ جَمَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِي بَاطِنِ الْخِرْقَةِ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ، وَأَمَّا