الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَالِكٌ رحمه الله نَسْخَ الْمُصْحَفِ فِي أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة: 17] وَهَؤُلَاءِ يُفَرِّقُونَهُ، فَإِذَا كُرِهَ هَذَا فِي الْأَجْزَاءِ فَمَا بَالُك بِتَغْيِيرِهِ عَنْ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ.
وَلَقَدْ سَرَى هَذَا لِبَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَتَّى إنَّهُمْ لَيُعِدُّونَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَنَسْخِ الْخِتْمَةِ بِهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ وَبَعْضُهُمْ يَجْمَعُ فِي الْخِتْمَةِ الْوَاحِدَةِ بَيْنَ كَتْبِهَا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَاللِّسَانِ الْعَجَمِيِّ فَيَكْتُبُ الْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ ثُمَّ يَكْتُبُهَا بَعْدَهَا بِاللِّسَانِ الْعَجَمِيِّ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ وَالْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَرِّجَ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
[فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الصَّانِعِ الَّذِي يُجَلِّدُ الْمَصَاحِفَ وَالْكُتُبَ وَغَيْرَهَا]
(فَصْلٌ)
فِي نِيَّةِ الصَّانِعِ الَّذِي يُجَلِّدُ الْمَصَاحِفَ وَالْكُتُبَ وَغَيْرَهَا. اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذِهِ الصَّنْعَةَ مِنْ أَهَمِّ الصَّنَائِعِ فِي الدِّينِ إذْ بِهَا تُصَانُ الْمَصَاحِفُ وَكُتُبُ الْأَحَادِيثِ وَالْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةِ فَيَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى النِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي النَّاسِخِ؛ لِأَنَّهُ مُعِينٌ بِصَنْعَتِهِ عَلَى صِيَانَةِ مَا تَعِبَ فِيهِ النَّاسِخُ وَحَصَّلَهُ وَفِيهِ أَيْضًا جَمَالٌ لِلْكِتَابِ وَتَرْفِيعٌ لَهُ وَاحْتِرَامُهُ وَتَرْفِيعُهُ مُتَعَيَّنٌ فَإِذَا خَرَجَ الصَّانِعُ مِنْ بَيْتِهِ أَخَذَ مِنْ نِيَّاتِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ مَا يَعْتَوِرُهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَنْوِي إعَانَةَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِصِنَاعَتِهِ عَلَى صِيَانَةِ مَصَاحِفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ ثُمَّ يَصْحَبُ مَعَ ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الصَّانِعَ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصُّنَّاعِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ أَوْ تَأَخَّرَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْعَالِمِ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ إلَى التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَذَلِكَ يَقْبَلُ كُلَّ مَا نَوَاهُ وَالصُّنَّاعُ لَيْسُوا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَغْرِقُونَ فِي الْأَسْبَابِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ إذْ إنَّ الصَّانِعَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمُتَسَبِّبِينَ يَحْتَاجُ إلَى أَرْبَعَةِ عُلُومٍ:
الْأَوَّلُ - عِلْمُ الصَّنْعَةِ الَّتِي يُحَاوِلُهَا.
وَالثَّانِي - الْعِلْمُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِيهَا.
وَالثَّالِثُ - الْعِلْمُ بِمَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ فِيمَا يَعْتَوِرُ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي ذَلِكَ
مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ وَمَا يُصْلِحُ الْعِبَادَةَ وَمَا يُفْسِدُهَا. وَالْعِلْمُ الرَّابِعُ - عِلْمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُكَلَّفُ فِي مُخَالَطَتِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّحَفُّظِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ خَالَطَهُ مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي وَذَلِكَ كَثِيرٌ؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ عُلُومٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا أَوْ يُعَلِّمَهَا لِمَنْ يَطْلُبُهَا مِنْهُ إنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُتْرَكُ الْمُتَسَبِّبُ مِنْ نِيَّةِ الْعَالِمِ مِثْلُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَتَحِيَّتِهِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّا لَا يَعْتَوِرُهُ فِي السُّوقِ أَوْ الدُّكَّانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(فَصْلٌ)
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا جَاءَ إلَى دُكَّانِهِ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ تَأَخَّرَ فِي فِعْلِ الْآدَابِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي دُخُولِهِ بَيْتَهُ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ مِثْلَ تَقْدِيمِ الْيَمِينِ وَتَأْخِيرِ الشِّمَالِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْمِيَةِ وَالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ فِي ذَلِكَ وَأَنْ يَبْدَأَ بِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ لِبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي دُخُولِهِ بَيْتَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ عز وجل فَيَبْدَأُ بِهَذِهِ الصِّلَةِ الْعَظِيمَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِيمَا جَلَسَ إلَيْهِ. وَهَذَا مَعَ الْإِمْكَانِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ يَكُونُ الدُّكَّانُ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعٌ يَرْكَعُ فِيهِ فَيُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ السَّمَادِ أَحَدِ مَشَايِخِ الرِّسَالَةِ أَنَّهُ بَلَغَتْ بِهِ نَافِلَتُهُ فِي دُكَّانِهِ مَعَ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ خَمْسَمِائَةِ رَكْعَةٍ فِي الْيَوْمِ فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ فِي دَكَاكِينِهِمْ لَكِنْ مِنْهُمْ الْمُكْثِرُ وَمِنْهُمْ الْمُقِلُّ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ كَانَ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ أَنْ لَا يَجْلِسَ فِي دُكَّانِهِ إلَّا وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ فَلْيَفْعَلْ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ إذَنْ (فَصْلٌ)
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَفَاسِدَ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِي صَنْعَتِهِ إذْ هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ؛ لِأَنَّ بِتَجَنُّبِهَا يَحْصُلُ لَهُ الدُّخُولُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» وَقَدْ تَقَدَّمَ فَإِذَا تَجَنَّبَ الْمَفَاسِدَ فَقَدْ نَصَحَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَتَحْصُلُ لَهُ شَهَادَةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ فَإِذَا سَلِمَ مِنْ الْمَفَاسِدِ صَحَّتْ لَهُ الْغَنِيمَةُ وَإِلَّا رَجَعَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ
ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ الْكِتَابَ إلَى الصَّانِعِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ عِوَضًا عَنْ أَشْيَاءَ جُمْلَةٍ وَذَلِكَ يُمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ بَيْعِ الْجِلْدِ وَالْبِطَانَةِ وَالْحَرِيرِ وَبَيْنَ أُجْرَتِهِ فِي عَمَلِ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ مَجْهُولٌ.
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ - أَنْ يَأْتِيَ إلَى الصَّانِعِ بِالْجِلْدِ وَالْبِطَانَةِ وَالْحَرِيرِ مِنْ عِنْدِهِ وَيُؤَاجِرَهُ عَلَى عَمَلِ ذَلِكَ.
وَوَجْهٌ ثَانٍ - وَهُوَ أَنَّ الصَّانِعَ يُبَيِّنُ لَهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ وَيُعَيِّنُ ثَمَنَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُؤَاجِرُهُ عَلَى صَنْعَتِهِ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ - وَهُوَ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي شِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ثُمَّ يُؤَاجِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَمَلِهِ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ جَائِزَةٍ وَهِيَ يَسِيرَةٌ سَهْلَةُ الْمَدْرَكِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُمَا فِي ذَلِكَ ثُمَّ مَعَ هَذِهِ السُّهُولَةِ وَعَدَمِ الْمَشَقَّةِ يَتْرُكُ أَكْثَرُهُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَفْعَلُ مَا اعْتَادَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَضَى عَلَى أَثَرِهِ مَنْ لَهُ عِلْمٌ لِاسْتِئْنَاسِ النُّفُوسِ بِالْعَوَائِدِ الْمُحْدَثَةِ فَتَتَعَمَّرُ ذِمَّتُهُمَا مَعًا فَصَاحِبُ الْكِتَابِ تَتَعَمَّرُ ذِمَّتُهُ بِقِيمَةِ مَا أَخَذَ مِنْ الْجِلْدِ وَبِطَانَتِهِ وَالْحَرِيرِ وَأُجْرَةِ الصَّانِعِ وَالصَّانِعُ تَتَعَمَّرُ ذِمَّتُهُ بِمَا أَخَذَ مِنْ صَاحِبِ الْكِتَابِ وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَأْتُونَ بِكُتُبِ الْعِلْمِ وَيُجَلِّدُونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ فِيهَا
(فَصْلٌ)
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْوَرَقِ الَّذِي يُبَطِّنُ بِهِ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِ الصُّنَّاعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْوَرَقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا مَا فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَوْ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا امْتِهَانُهُ حُرْمَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهِ أَسْمَاءُ الْعُلَمَاءِ أَوْ السَّلَفِ الصَّالِح رضي الله عنهم أَوْ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُبْلَغُ بِهِ دَرَجَةُ التَّحْرِيمِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَطَالِبُ الْعِلْمِ أَوْلَى بِأَنْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمَكْرُوهِ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ الصَّانِعَ أَوْ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا يَعْمَلُ عِنْدَهُ شَيْئًا أَوْ يَعْمَلُ عِنْدَهُ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ.
وَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَطِّنَ الْجِلْدَ بِالْأَوْرَاقِ الَّتِي فِيهَا الْحِسَابُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَكْرُوهٍ إلَّا أَنَّهُ يَتَثَبَّتُ فِي ذَلِكَ وَيُمْهِلُ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ ضَاعَ لِبَعْضِ النَّاسِ الدَّفْتَرُ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَيَضِيعُ مَالُهُ بِسَبَبِهِ فَإِذَا كَانَ الصَّانِعُ مِمَّنْ يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ حُفِظَتْ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ضَائِعَةً عَلَيْهِمْ.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى عَدَدِ كَرَارِيسِ الْكِتَابِ وَأَوْرَاقِهِ فَلَا يُقَدِّمُ، وَلَا يُؤَخِّرُ الْكَرَارِيسَ، وَلَا الْأَوْرَاقَ عَنْ مَوَاضِعِهَا وَيَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ النُّصْحِ وَتَرْكُهُ مِنْ الْغِشِّ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ الصَّانِعُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالِاسْتِخْرَاجِ لِيَعْرِفَ بِذَلِكَ اتِّصَالَ الْكَلَامِ بِمَا بَعْدَهُ أَوْ تَكُونَ عِنْده مُشَارَكَةٌ فِي الْعِلْمِ يَعْرِفُ بِهَا ذَلِكَ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَحْتَرِزُ أَنْ يُوَلِّيَ عَمَلَهَا لِمَنْ لَا يَعْرِفُ تَمْيِيزَهَا مِنْ الصُّنَّاعِ وَالصِّبْيَانِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْكِتَابُ عَلَى صَاحِبِهِ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَتْعَبُ فِي عَمَلِهِ ثُمَّ مَعَ التَّعَبِ الْمَوْجُودِ يَأْكُلُ الْحَرَامَ فِيمَا أَخَذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الصَّانِعِ إعَادَتُهُ، وَلَوْ مِرَارًا حَتَّى يَنْصَلِحَ، وَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ إلَّا الْعِوَضَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ مَا تَسَلَّمَهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَهُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ
(فَصْلٌ)
وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ لَا يُجَلِّدَ كِتَابًا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ يَكُونُ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَنْ أَعَانَ عَلَى شَيْءٍ كَانَ شَرِيكًا لِفَاعِلِهِ هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ أَوْ يُقَارِبُهُ وَهُوَ تَغْبِيطُهُمْ بِدِينِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعِينُهُمْ سِيَّمَا عَلَى حِفْظِ مَا فِي كُتُبِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أَتَوْا بِهِ إلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِثْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَنْعِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا
فِيهَا وَغَيَّرُوا وَذَلِكَ لَا تُعْلَمُ مَوَاضِعُهُ فَتُتْرَكُ كُلُّهَا فَإِنْ < m s=002520> أَتَوْا إلَيْهِ بِكِتَابٍ مَكْتُوبٍ بِالسُّرْيَانِيَّةِ أَوْ الْعِبْرَانِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَلَا يُجَلِّدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رحمه الله فِي الرُّقَى بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ كُفْرٌ فَكُلُّ مَا حَاكَ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ مِنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ فَيَتَعَيَّنُ تَجَنُّبُهُ.
(فَصْلٌ)
وَيَتَعَيَّنُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الْعَمَلِ عِنْدَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ مِنْ الصُّنَّاعِ فَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِذَلِكَ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَرْجِعَ. هَذَا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ رَفْعِ ذَلِكَ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَفْعُهُ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ أَوْ رَفَعَهُ وَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ هِجْرَانُ الصَّانِعِ الَّذِي يَتَعَاطَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِالْحُكْمِ فِيهِ حَتَّى يَشِيعَ بَيْنَ النَّاسِ وَيَعْلَمَ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ (أَنَّ الظَّلَمَةَ يُحْشَرُونَ هُمْ وَأَعْوَانُهُمْ حَتَّى مَنْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةً) فَإِذَا كَانَ مَدُّ لَهُمْ مَدَّةٍ بِهَذَا الْحَالِ فَمَا بَالُك بِالصَّانِعِ الَّذِي يُجَلِّدُ لَهُمْ مَا يَصُونُونَ بِهِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْمَلَ غِلَافًا لِدَوَاةٍ فِيهَا ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ بِتَجْلِيدِهَا.
وَكَذَلِكَ لَا يُجَلِّدُ شَيْئًا لِظَالِمٍ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا - مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعِينَ شَرِيكٌ.
الثَّانِي - أَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ وَالصَّانِعُ يَتْعَبُ فِي صَنْعَتِهِ لِيَأْكُلَ الْحَلَالَ ثُمَّ مَعَ تَعَبِهِ يَأْكُلُ الْحَرَامَ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ النَّاسُ يَتَحَفَّظُونَ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ لَقَلَّ الظُّلْمُ وَعُرِفَ صَاحِبُهُ وَلَكِنْ قَدْ صَارَ الْأَمْرُ عِنْدَ الصَّانِعِ وَغَيْرِهِ سَوَاءً فِي الْغَالِبِ فَيُسَوُّونَ بَيْنَ مَنْ كَسْبُهُ حَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَلَا يُعَرِّجُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ التَّغَافُلُ عَمَّا أُمِرَ الْإِنْسَانُ بِهِ وَانْضَمَّ إلَيْهِ اسْتِئْنَاسُ النُّفُوسِ بِالْعَوَائِدِ الْمُحْدَثَةِ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِشْرَافِ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الدُّنْيَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ