الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَيَرْزُقَنَا اجْتِنَابَهُ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ
[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الطَّاحُونِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَصْلُ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ الْقُوتُ الَّذِي بِهِ الْقَوَامُ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَ الْفَصْلُ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ أَكْثُرُهُ مُخْتَصًّا بِالْمَرْضَى قُدِّمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَرِيضِ آكَدُ وَضَرُورَتَهُ أَشَدُّ وَالْفَحْصُ عَمَّا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ فِي حَقِّهِ مُتَأَكِّدٌ وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الصَّحِيحِ وَإِنْ كَانَا مَعًا مُتَأَكِّدَيْنِ. فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الطَّاحُونِ أَنْ يُحْضِرَ نِيَّتَهُ وَيُحْسِنَهَا وَيُنَمِّيَهَا مَهْمَا اسْتَطَاعَ ثُمَّ يَنْوِيَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ تِلْكَ النِّيَّاتِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْعَالِمُ مِنْ بَيْتِهِ وَيَرْجِعُ إلَيْهِ لِيَكُونَ فِي سَبَبِهِ وَهُوَ فِي عِبَادَةٍ مُقْبِلًا عَلَى مَوْلَاهُ فَيَقْصِدُ بِمَا هُوَ فِيهِ أَنْ يُيَسِّرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ أَقْوَاتَهُمْ لِكَوْنِهِ يَفْعَلُهَا عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَيَكْفِيهِمْ مُؤْنَةَ الْفِكْرِ فِيمَا هُمْ يَتَوَقَّعُونَهُ فِي الطَّحِينِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ.
أَلَا تَرَى إلَى مَا نُقِلَ فِي الْقِدْرِ إذَا أَعَارَهَا الْإِنْسَانُ كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَا طُبِخَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ إذَا أَعْطَى مِنْهُ شَيْئًا كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَا طُيِّبَ بِذَلِكَ الْمِلْحِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَمَا بَالُك بِتَخْلِيصِ الْقُوتِ الَّذِي بِهِ قَوَامُ الْبِنْيَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَعْتَرِيهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّوَابَ فِي هَذَا أَعْظَمُ وَكَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَا يُبَاشِرُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَالتَّطَوُّعِ بِهِمَا وَبَيْنَ سَبَبِهِ بَلْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ مَقْصُورَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ سَبَبِهِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ عَامٌّ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ إذْ إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَقْدِرُ عَلَى عَمَلِ الطَّاحُونِ فِي بَيْتِهِ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ أَيْضًا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ بِيَدِهِ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ أَيْضًا يَقْدِرُ عَلَى شِرَاءِ جَارِيَةٍ أَوْ عَبْدٍ يَطْحَنَانِ لَهُ وَصَاحِبُ الطَّاحُونِ قَدْ رَفَعَ هَذِهِ الْكُلْفَةَ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يَكُونُ تَطَلُّعُهُ وَتَشَوُّقُهُ لِلرِّزْقِ لِرَبِّهِ عز وجل لَا إلَى السَّبَبِ فَإِنْ شَاءَ عز وجل أَنْ
يَرْزُقَهُ رَزَقَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ أَبْوَابَ الرِّزْقِ عِنْدَهُ سبحانه وتعالى لَا تَنْحَصِرُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الصُّنَّاعِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَأَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ فِي جَمَاعَةٍ وَمَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ مِنْهُمْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ فِي الْإِثْمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ هِجْرَانُهُ وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ تَرْكُ الشِّرَاءِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْتَرَ مِنْهُ كَسَدَتْ عَلَيْهِ مَعِيشَتُهُ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ الشِّرَاءِ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ عَدَمِ تَغْيِيرِهِ عَلَى الصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ عِنْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ مِثْلُهُ عَلَى مَنْ كَانَ يَطْحَنُ لِلنَّاسِ وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلَا يُطْحَنُ عِنْدَهُ شَيْءٌ حَتَّى يُقْلِعَ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَعَلَّ قَائِلًا: يَقُولُ: إنَّ الْهِجْرَانَ لَا يُفِيدُ مِنْ وَاحِدٍ، وَلَا مِنْ اثْنَيْنِ حَتَّى يَتْرُكَهُ سَائِرُ الْمُشْتَرِينَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا بِوَظِيفَةٍ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ فِي إنْكَارِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام حَيْثُ قَالَ «إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ الْمُنْكَرُ فَلَمْ تُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّ اللَّهُ الْكُلَّ بِعَذَابٍ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّغْيِيرَ قَدْ حَصَلَ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُ السُّؤَالِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ مُوجِبِ تَرْكِ شِرَاءِ الدَّقِيقِ وَغَيْرِهِ وَتَرْكِ طَحْنِ الْقُوتِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَإِذَا سَأَلَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ أَخْبَرَا بِمُوجِبِهِ فَيَشِيعُ الْأَمْرُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ فَبَعْضُ النَّاسِ يَقْتَدِي وَيَهْتَدِي وَبَعْضُهُمْ يَعْلَمُ الْحُكْمَ، وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ فِعْلِهِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ خَيْرٌ عَظِيمٌ.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ لَا يُغَيِّرَانِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ مَعَهَا عَلَى التَّغْيِيرِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا يَقُولُ كَمَقَالَتِهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى عَدَمِ التَّغْيِيرِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَقَعُ الْعَذَابُ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلُ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ