الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عن عمر -أيضًا- رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ [جُلُوسٌ](1) عِنْدَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَديدُ بياضِ الثِّيابِ، شَديدُ سَوادِ الشَّعرِ، لا يُرَى علَيْهِ أثرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبتَيْهِ إلى رُكْبتَيْهِ، وَوَضَعَ كفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ، وقال: يا مُحَمَّدُ! أَخْبِرني عنِ الإِسْلامِ؟ فقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهدَ أنْ لا إِله إلا اللهُ، وأَنَ مُحَمَّدًا رسُولُ اللهِ، وَتُقيمَ الصلاةَ، وتُؤْتي الزكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضانَ، وتَحجّ البَيْتَ إنِ اسْتَطَعتَ إليهِ سَبيلًا".
قال: صَدَقْتَ!
فَعَجِبْنَا لهُ؛ يَسْألهُ وَيُصَدِّقُهُ!
قالَ: فأَخْبِرني عن الإيمَانِ؟
قال: "أَنْ تُؤْمنَ باللهِ ومَلائِكَتِهِ وكتبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وتُؤْمنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ".
قال: صَدَقْتَ!
قال: فَأَخْبِرني عن الإِحسَانِ؟
قال: "أَنْ تَعبُدَ الله كَأَنَّكَ تَراهُ، فإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنهُ يَراكَ".
(1) من متن "الأربعين"(23).
قال: فَأَخْبِرني عن الساعةِ؟
قال: "مَا المَسْؤُولُ عنها بِأَعلَمَ مِنَ السَّائِل".
قال: فأخْبِرني عن أَمَارَاتِها؟
قال: "أنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتها، وأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ".
ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قال لي:"يا عُمَرُ! أَتَدري مِن السَّائِل؟ ".
قلتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعلَم.
قال: "فإِنَّهُ جِبْريلُ أَتَاكُم يُعَلِّمُكُم دِينكُم" رواه مسلمٌ (1).
(1) رواه أحمد (1/ 434 رقم 367، 368، 374، 375)، ومسلم (1/ 36 رقم 8)، وأبو داود (5/ 48 رقم 4695، 4697)، والترمذي (4/ 355 رقم 2610)، والنسائي (8/ 97 رقم 4990)، و"الكبرى"(5/ 380 رقم 5852)، وابن ماجه (1/ 24 رقم 63).
وللتوسع في تخريج الحديث ينظر: "تعظيم قدر الصلاة" للمروزي (1/ 367 - 395)، و"الإيمان" لابن منده (1/ 126 - 163، 321 - 325).
فائدة: روى مسلمٌ في "صحيحه"(1/ 40 رقم 10) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في سبب وُرود هذا الحديث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سَلُوني" فَهابُوا أنْ يَسْألوهُ. فَجَاءَ رَجُلٌ فَجَلَسَ عندَ رُكْبَتَيْهِ فقال: يا رسول الله! ما الإسلام" الحديث.
ووقع في رواية ابن منده (1/ 141 رقم 7) -بإسنادٍ صحيح رجاله كلهم ثقات- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب وأن جبريل صعد المنبر فسأله
…
الحديث.
فائدة أخرى: انظر شرح المؤلف لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتابه "التوضيح لشرح الجامع الصحيح"(3/ 169 - 187).
هذا حديث عظيم مُتَّفَق على عِظَمِ مَوْقِعِهِ وَجَلالَتِهِ، يَكَادُ يكونُ مَدَارُ الإسلام عليه؛ لأنّهُ قاعِدَةٌ مِنْ قواعِدِه، مُشْتَمِلٌ على أساسِهِ، مفصِّلٌ طاعاته القَلْبِية والبَدَنِية أُصُولًا وفُرُوعًا، وعلى أمرِ الغَيْبِ، حتى قال بعضُهُم:"لو لَمْ يَكُن في هذه "الأربعين" -بل في السُّنَّةِ جميعها- غيرهُ لكان وافيًا بأحكَام الشَّريعة، لاشتماله على جُملَتِها مُطَابقةً، وعلى تفصيلها تَضَمُّنًا"(1).
فهو جامِعٌ لها عِلْمًا ومَعْرِفَةً وأدَبًا ولُطْفًا، ومَرجِعُهُ مِنَ القرآن كُلُّ آيةٍ تَضَمَّنت ذِكْرَ الإيمان والإسلام نحو:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] الآية. {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] الآية. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} [النساء: 136] الآية. {لَّيْسَ الِبرَّ} [البقرة: 177] ونحو ذلك، والحديث "الثالث" و"الثامن" شاهِدٌ لهُ.
قال القاضي عياض: "هوَ مُشْتَمِلٌ على جَميعِ وظَائِفِ العِبادات، الظاهِرَةِ والبَاطِنَةِ، مِنْ عُقُود الإيمان، وأَعمَال الجَوارح، وإخلاص السَّرائر، والتَّحَفُّظ مِن آفات الأعمال، حتى إنَّ علومَ الشَّريعة كُلَّها راجِعَة إليهِ وَمُتَشَعِّبة منه.
وعلى هذا الحديث وأقْسَامِهِ الثلاثةِ ألَّفْنَا كتابنا الذي سَمَّيْنَاهُ بـ "المقاصد الحِسان فيما يَلْزَمُ الإنسان" إذْ لا يَشذُّ شيءٌ من الواجِبات والسُّنن، والرَّغائب، والمَحْظُورات، والمَكْرُوهات عن أقسامهِ الثلاثةِ" (2).
(1) من كلام الطوفي في "التعيين في شرح الأربعين"(76 - 77).
(2)
قاله في كتابه: "إكمال المُعلِم بفوائد صحيح مسلم"(1/ 101 - 102).
وللحافظ ابن رجب كلام جميل في بيان أهمية هذا الحديث انظره في: "جامع العلوم والحِكَم"(1/ 97، 134 - 135).
قال القرطبي رحمه الله: "فيصلح أن يُقال فيه إنَّهُ: أُمُّ السّنَّةِ؛ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ جُمَلِ عِلْمِها كَمَا سُمِّيَت "الفاتِحَة": "أمَّ القُرآن" لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ جُمَلِ عِلْمِها"(1).
قلتُ: ولنُلخّص الكلام عليه من ثلاثين وجهًا:
الأول: هذا الحديث هو مِن أفراد "مُسلم" كما أفهمَ إيرادُ المصنِّف حيثُ عَزَاهُ إليه وحدَهُ، ولم يخرج "البخاري" عن عمر في هذا شيئًا؛ بل أخرجه من حديث أبي هريرة بنحوه و"مُسلِم" أيضًا (2).
الثاني: في التَّعريف براويهِ، وقد سَلَفَ في الحديث الأول.
الثالث: في ألفاظِهِ معانيه (3):
الأول: قوله "بينما" معناه: بينَ أوقات كذا؛ لأنَّ "بين" تَقْتَضِي شيئين فصاعِدًا، وتجوز -أيضًا- "بينا" بلا ميم، لأنَّ "بين" هذه هي الظَّرفية، فَزيدَت عليها الألف لتكفّها عن عملها الذي هو الخَفْضُ، كما قد زيدت عليها -أيضًا- "ما" كذلك، وما بعدها مَرفوعٌ على الابتداء في اللغة المشهورة، ومنهم من
(1) في كتابه: "المُفْهِم لِمَا أَشْكَلَ مِن تَلْخِيصِ مُسلم"(1/ 152). وقد احتفى أهل العلم بكلمته هذه فنقلوها عنه. انظر: "فتح الباري"[الفتح الأول] لابن رجب (1/ 222)، و"الفتح" الثاني لابن حجر (1/ 152).
فائدة: قال الطيبي: "لهذه النكتة استفتح به -يعني هذا الحديث- البَغَويُّ كِتَابَيْه "المصابيح" [1/ 112]، و"شرح السنة" [1/ 7] اقتِداءً بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة، لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالًا". "فتح الباري" لابن حجر (1/ 152).
(2)
رواه البخاري (1/ 19 رقم 50)، ومسلم (1/ 39 رقم 9، 10).
(3)
تحت هذه الفائدة ستأتي الأوجه الثلاثين وما يتبعها من فوائد وهي بمجموعها تبلغ (42).
خفضَ "ما" بعد الألف على الأصل، وشذَّ بعضُ النُّحاة فقال: الألف للتأنيث، و"بينا " عِنده: فَعلَى كـ "شروى".
الثاني: "نحنُ" من الأسماء المُضمرة، تُستَعمَل للجمع، والمثنى، وللواحد المعظم نفسه، نحو قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنا} [الحجر: 9]، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} [يس: 12] ومَا أَشْبَه ذلك.
الثالث: "عِنْدَ" ظرف مَكان غير مُتَمَكِّن، ولا يدخل عليها مِن حُروف الجَرِّ سِوى "مِن" خاصَّة، وهي تكون لما تملك حاضِرًا كان أو غائبًا، ومثلها "لدى" إلَّا أنها تختص بالحاضِر.
الرابع: "ذاتَ" هنا تأنيث "ذو" بمعنى صاحب؛ أي: بينا نحن في ساعةٍ ذاتَ مرَّةٍ في يومٍ، فحُذِفَت هذه المُضافات لوضُوح الأمر، كما حُذِفت هذه المُضافات لوضوح الأمر، كما حُذِفَت مِنْ قولِهِ:
إذا قامَتَا تضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا
…
نَسِيمَ الصبَا ....... (1)
أي: تَضَوَّع تضوعًا مثل تضوع نسيم الصَّبا (2).
الخامس: "إذْ" و"إذَا"ـ ظَرْفَا زَمان غير مُتَمَكّنين، يُضافان إلى الجُمل، إلَّا أنَّ "إذ" للمضي (3)، وتُضاف للجملتين: الاسميَّة والفعلية، قال الله تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] الآية. وقال: {وَإِذْ قلتمْ يا مُوسَى} [البقرة: 55] الآية.
(1) تمامُهُ: "
…
جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُل". والبيت من معلقة امرئ القيس (32 رقم 8). و"تضوَّع المسك" أي: فاحت رائحته. "شرح المعلقات العشر" للتبريزي (32).
(2)
قارن هذا الوجه بـ "التعيين" للطوفي (46).
(3)
يعني أنها لِمَا مَضَى. انظر: "المفهم"(1/ 137).
و"إِذا" لِمَا يُستقبل، ولا تُضَافُ (1) إلَّا إلى الفِعلية، وفيها معنى الشَّرط غالبًا، وليسَ ذلِكَ في:"إِذْ" إلَّا إذا دَخَلَت عليها "ما" كقولِه:
إذْ مَا أتيتَ على الرسولِ فقل لهُ
وقولنا: "غالبًا" يخرجُ به ما إذا كانت متمحضة للتأقيت بأن كانت معرفةً، نحو: آتيكَ إذا طلع الفجر.
أو معاقبة لـ "إذْ"، نحو قوله تعالى:{وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 156] التقدير: إذْ ضَربوا.
أو كان ما بَعدَها مُقدَّرًا بالحال، نحو قوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي: غاشيًا ومُتَجَلِّيًا.
ولا يجزم بـ "إذا" -كان كان فيها معنى الشَّرط- كما وقعت "إذ" هُنا، و"إذا" المفاجأة، نحو قوله تعالى:{فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48]"فإذَا" الأولى ظرفِية، والثانية مفاجأة.
ومَا جَزَمتُ به مِنْ كَوْن "إذَا" التي للمفاجأة ظرفُ زمان هو رأي الزَّجاج، واختاره الزَّمَخشري، وزَعَمَ أنَّ عامِلها فعل مُقَدَّر مشتق من لفظ المفاجأة، ورأى المبرِّد أنها ظرفُ مكان، واختاره ابن عصفور، وهي حرف عند الأخفش، واختاره ابن مالك (2).
وقولي "إذْ" ظرفُ زمان تعم الماضي، نحو قوله تعالى:{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40]. والمستقبل نحو: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} [الزلزلة: 4].
(1) في الأصل: "يُضاف" والتصويب من "المفهم"(1/ 137)! والسياق يقتضيه.
(2)
انظر: "تهذيب اللغة"(15/ 47 - 51)، و"ألفية ابن مالك"(4/ 38) مع شرح ابن عقيل.
وقَد تأتي "إذ" بَدَلًا مِنَ الفِعل، نحو:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} [مريم: 16] فـ "إذْ" بدل اشتمال مِن مريم.
وقد تأتي مفعولًا به، نحو:{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86].
وقد تأتي مُضَافًا إليها اسمُ زمان، نحو:"يومَئذٍ"، و"حينئذ".
وقد تأتي للتعليل، نحو قوله تعالى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 39] أي: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب لأجل ظلمكم في الدُّنيا.
وقد تأتي للمفاجأة -كما سَلَفَ- وكقوله:
استَقْدِرِ الله خيرًا وارضَيَن بِهِ
…
فَبَيْنَمَا العُسْرُ إذْ دَارَتْ مَيَاسيرُ
فائدة: يُؤخذ مِن هذا الحديث أن "بينا" يجوز أن تتلقى بـ "إذ" كما جاء في بعض طرقه، ومثله الحديث الصحيح:"بَيْنَا أَنَا نَائِم إذْ جِيء بِمفاتيح الأرض فَوُضِعَتْ في يَدَيَّ"(1) وغيرهما من الأحاديث. ووقع في "الدرة" للحريري (2) أنها لا تتلقى بـ "إذ" ولا بـ "إذا"، أي: بخلاف: "بينما"، قال:"والمسموع عند العرب: بينا زيدٌ قائمٌ جاء عمرو، بدون "إذ"؛ لأنَّ المعنى: بين أثناء الزمان جاء عمرو". ومَا ذكرناه يرُدُّهُ فتنبّه له.
السادس: قوله "لا يُرى عَلَيْهِ أثَرُ السَّفَرِ، ولا يَعرِفُهُ مِنَّا أَحَد" هو بالياء المثناة تحت المضمومة -على ما لم يُسمَّ فاعِلُهُ-، ورُويَ بالنون المفتوحة فيهما مَبْنيًّا للفاعل، وكلاهُما واضحُ المعنى -والأول أبلغ- وعليه اقتصَر عليه
(1) رواه البخاري (4/ 54 رقم 2977)، ومسلم (1/ 371 رقم 523) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري (ت:516 هـ). "السير"(19/ 460).
النووي في "نُكَتِهِ" عليه (1).
ووقعَ في "صحيح ابن حبان": "إِذْ جَاءَ رَجُل [لَيْسَ](2) عليه سَحْنَاءُ سَفَرٍ، وليسَ مِنْ أهلِ البَلَدِ يَتَخَطَّى
…
" إلي آخره (3). والسَّحناءُ: الهيئة، فيحتاج إلي الجمع بينها وبين ما في "الصحيح".
السابع: قوله "فَأَسْنَدَ رُكبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْه" ظاهِره أَنَّهُ جلسَ بينَ يَدَيْهِ، وإلا لم يتصوَّر ذلك؛ لأنه لو جَلَسَ إلى جَانِبِهِ لَمَا أَمْكَنَهُ إلَّا إسنَاد رُكبة واحِدَة، وهذا جُلُوس المُتَعَلِّم بين يديْ شيخه للتَّعلُّم؛ وإِنَّمَا فَعَلَ ذلِكَ جبريل للتنبيه على ما ينبغي للسائل مِن قُوةِ النَّفْسِ عِندَ السُّؤال، وعَدَمِ المبالاة بِمَا يَقطَعُ عليهِ خَاطِرهُ -وإنْ كانَ المَسْؤُولُ مِمَّن يَحْتَرِمُهُ ويَهَابُهُ-، وعلي ما ينبغي للمسؤول مِنَ التَّواضع والصَّفحِ عن السائل، وإنْ تَعَدَّى ما يَنْبَغي مِنَ الاحترام والأدب.
الثامن: قوله "وَوَضَعَ كفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ" الضَّمِيرُ في "كفَّيه" للرَّجُل، وفي "فَخِذَيْهِ" يحتمل أن يكون له أيضًا، وأن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الأشبهُ، وفعلَ ذلك للاستئناس باعتبار ما بينهما من الأنس في الأصل حين يأتيه بالوحي (4).
وقد جاء مُصَرَّحًا بهذا في "النسائي"(5) مِن حديث أبي هريرة وأبي ذر: "حتى وَضَعَ يَدَهُ علي رُكبَتَيْ النبي صلى الله عليه وسلم " وفي أوله: "كان عليه الصلاة والسلام
(1) في آخر "الأربعين"(91)، وانظر:"المفهم"(1/ 138).
(2)
ما بين المعقوفتين من "صحيح ابن حبان".
(3)
(1/ 397 رقم 173)، ورواه ابن منده في "الإيمان"(1/ 157 رقم 14).
(4)
وبه جزمَ البغوي، وإسماعيل التيمي، والطيبي، وابن حجر وغيرهم. انظر:"الفتح"(1/ 142).
(5)
(8/ 101 رقم 4991)، وفي الكبرى" (5/ 376 رقم 5843)، ورواه أبو داود (5/ 51 رقم 4698)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (1/ 385 رقم 378)، وابن منده في "الإيمان" (1/ 324 رقم 159) وإسناده صحيح رجاله ثقات.
يَجْلِسُ بينَ ظَهرَانَيْ أَصحَابِهِ فَيَجِيءُ الغَريبُ، فَلَا يَدْرِي أَهُوَ (1) حتى يَسأَل، فَطَلَبنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن نجعَلَ لهُ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الغَريبُ إِذَا أَتَاهُ، فَبَنَيْنا لَهُ دكانًا (2) مِنْ طِينٍ يَجْلِسُ عليه، وإنَّا (3) لَجُلُوسٌ عليه عِندَه إذْ أقبَلَ رَجُلٌ أحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا، وأَطْيَبُ النَّاسِ ريحًا، كأَنَّ ثِيابَهُ لَا يَمَسُّها دَنَسٌ، حتى سَلَّمَ مِنْ طَرَفِ السِّمَاط (4)، فقال: السلامُ عليكم يا مُحمَّد! فرَدَّ عليه السلام عليه السلام. قال: أَدْنُو يا مُحَمد؟ قال: "ادْنُهْ". فَمَا زالَ يقول: أَدْنُو؟ -مِرارًا-، ويقول:"ادْن" حتي وضَعَ يدهُ علي ركْبَتَيْ النبي صلى الله عليه وسلم" وذَكَرَ نحوَ حديث مُسْلِم.
وفيه خمسُ فوائِدَ:
ابتِداءُ الدَّاخل بالسَّلام؛ وإقبَالُهُ على رأسِ القَوْم، حيثُ قال:"السَّلامُ عليكم"، فَعَمَّ، ثم قال:"يا محمد"! فَخَصَّ (5).
والاستئذانُ في القُرب مِن الإِمَام مِرارًا، وإن كانَ الإمامُ في مَوْضِعٍ مَأْذُونٍ في دُخوله.
وتَرْكُ الاكتفاء بالاستئذان مَرَّةً أو مرَّتين علي جِهَةِ التعظيم والاحتِرام.
(1) في "النسائي": "أيُّهُمْ هُوَ".
(2)
الدُّكّان: "الدكَّةُ المَبْنِية للجُلوس عليها". "النهاية"(2/ 128).
(3)
الواو من "النسائي".
(4)
السماط- بِكَسر السين-: الجماعة مِنَ الناس. انظر: "النهاية"(2/ 401)، وحاشية السندي على "النسائي"(8/ 101).
(5)
روى ابن عبد البر في "الجامع"(1/ 580 رقم 992)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" (1/ 199 رقم 347) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:"مِن حَقّ العالِم عليكَ إذا أتيتهُ أن تُسَلِّمَ عليه خاصّة، وعلى القومِ عامةً، وتجلس قُدَّامهُ، ولا تُشِر بيديكَ، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل: قال فلانٌ خلاف قولك، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه في السؤال، فإنه بمنزلة النخلة المرطبة لا يزال يسقط عليك منها شيء".
وجَوازُ اختصاص العالِم بِمَوْضِعٍ مُرْتَفِع مِنَ المَسْجِد إذا دَعَت إلي ذلِكَ ضروره تعليم (1) أو غيره (2).
التاسع: قوله: "الإِسلام: أن تشهدَ أن لا إلهَ إلَّا الله وأنَّ محمدًا رسول الله" إلي آخره، و"الإيمان أن تؤمن بالله" إلي آخره. فيه المُغَايرَةُ بينَ الإسلام والإيمان، وقد اختلفَ العُلَمَاءُ فيهِما، وعُمومِهما، وخُصوصهما، وأنَّ الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ وأنَّ الأعمال مِن الإيمان أم لا؟ اختلافًا مُنْتَشِرًا، والحقُّ أن الإيمان والإسلام يجتمعان في مادةٍ، ويفترقان في أخُرى، وأنَّ كُلَّ مُؤمنٍ مسلم، وليس كُلُّ مسلم مؤمنًا، وأنَّ الإيمان يزيدُ وينقصُ، وأنَّ الإيمان يُطلق علي الأعمال.
وقد بَسَطْنَاهُ بَسْطًا شافيًا في "شَرح صحيح البخاري" فَلْيُراجع منهُ (3).
العاشر: قوله "أنْ تَشهدَ" هو منصوبٌ بـ "أنْ"، وكذا ما عُطِفَ عليه مِن:"وتُقِيمَ"، "وتُؤْتيَ"، "وتَصُومَ"، "وتحجَّ"، وكذا قوله:"أنْ تُؤْمنَ".
الحادي عشر: لا بُدَّ مِن مجموع الشَّهَادَتين في الإسلام، فإن اقتَصَرَ علي إِحدَاهُما لم يكفِ، ولا يُشتَرَط معهما البراءَة مِن كُلِّ دينٍ يُخالِفُ الإسلام علي الأصح (4)، إلَّا أنْ يَكُونَ مِنْ قومٍ يَعْتَقِدُونَ اختِصَاصَ رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى
(1) في الأصل "تعلم"، والتصويب من "المفهم".
(2)
الوجه الثامن بفوائده مُستفادٌ من "المُفهم"(1/ 138 - 139).
(3)
انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح"(2/ 449 - 458، 602، 610، 662)، (3/ 121 - 130).
(4)
كلمة التوحيد تتضمن البراءة من كل دين سوى الإسلام، فـ"لا إله إلَّا الله" تشتمل علي أمرين هما رُكْنَاها: النفي والإثبات، فـ"لا إله" نافيًا وجود معبود بحق سوى الله، و"إلا الله" مثبتًا العبادة لله وحده دون كل ما سواه، والنفي المحض ليس بتوحيد، =
العَرَبِ خاصَّة، وأبعَدَ بعضُ أصحابنا فقال: إذا اقتصرَ على قول: لا إلهَ إلَّا الله، فقد صحَّ إسلامه، ويُطالَبُ بالكلمة الأُخرى، فإِن أَبَى جُعِلَ مُرتَدًّا.
الثاني عشر: الإسلام -لغة-: الاستسلام والطاعة والانقياد، ومنهُ:{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، أي: انقَدْنا، فهو مصدَر: أسْلَمَ إسلامًا.
وهو شرعًا: مَا فُسِّرَ به الحديث، وهو: الانقياد إلي الأعمال الظاهرة كالشَّهادَتَيْن وَمَا ذُكِرَ معها من العِبادَات، وروى ابن أبي شيبةَ في "مُسنَده" عن أنس مَرْفُوعًا:"الإسلامُ عَلَانِيَة، والإِيمَانُ في القَلْبِ"(1).
الثالث عشر: قوله "أنْ تُؤْمنَ
…
" إلي آخِرهِ، "أن" وصِلتها في مَوضع رفع خبر مبتدأ محذوف، أي أن الإيمان: أن تؤمن، أو هو أن تؤمن.
و"الإيمان" مصدَر: آمن إيمانًا، كَأَكرَم إكرامًا، أفعَل لا فَاعَلَ، وإلَّا كان
= وكذلك الإثبات المحض، فلا بد مِن الجمع بين النفي والإثبات، وهذا هو تفسير كلمة التوحيد قال عز وجل {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} ، وقال سبحانه وتعالي {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية.
وعن أبي مالك الأشعري قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "مَنْ قالَ: لا إِلهَ إلا اللهُ، وكفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِن دون اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ ودَمُهُ. وحِسابُهُ علي اللهِ"[رواه مسلم (1/ 53 رقم 37)].
(1)
رواه في "المصنَّف"(10/ 289 رقم 30833)، و"الإيمان"(18 رقم 6)، وأحمد في "المسند"(19/ 374 رقم 12381)، وأبو يعلى (5/ 301 رقم 2923)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 971)، وابن عدي في الكامل (5/ 207)، وابن حبان في "المجروحين"(2/ 87) من طرق عن علي بن مَسْعَدَة عن قتادة، وإسناده ضعيف؛ عليٌّ هذا "صدوق له أوهام" كما قال الحافظ في "التقريب"(704 رقم 4832).
قلت: وقد تفرَّد به. قال ابن حبان: "يَنْفَرِدُ بِمَا لا يُتابَعُ عليه، فاستَحَقَ ترك الاحتجاج به". وقال ابن عَدِي: "أحاديثه عن قتادة غير محفوظة". وقد ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2280).
مصدره الفعال، نحو قاتل قِتالًا، وضَارَبَ ضِرابًا، وهو قياس في مصدر: فاعل، والمُفاعلة كالمُقاتلة والمُضارة.
وهو لغةً: التَّصديق.
وشرْعًا: تَصْديق بالقواعد الشرعية من وجوب وجُوده سبحانه وتعالى ووَحدَانيَّته وصفاته الثابتة له، وتنزِيهها عن سِمات الحَدَث والنَّقص (1).
والحديث دالٌّ على أنَّ السؤالَ إنما هو عن حقيقةِ الإيمانِ والإسلام، ولهذا تطابق الجوابُ بقوله:"أنْ تُؤمِنَ" إلي آخرهِ.
و"الإيمان بالملالكة": أنهم كائنون في العبادة، لا يَعْصونه طَرْفَةَ عينٍ، مُلازِمون علي امتثال الأوامر، صادِقون فيما أخبروا به عن ربهم تبارك وتعالى.
و"اليوم الآخر": هو يوم القيامة، وما اشْتَمَلَ عليه مِنَ البعث والجزاء والحِساب، والميزان والصِّراط، والجنَّة والنار.
الرابع عشر: اختَلَفَ عُلماءُ الأصول في الأسماء اللغوية هل هي مبقاة علي وضعها اللغوي، والشَّارع إنَّمَا تَصَرَّفَ في شُروطها وأحكامها أم لا؟ ومَحَلُّ الخوضِ في ذلك كُتُبُ "الأصول" فالإسلام والإيمان يَعُمَّان كلَّ انقِيَادٍ وكُل تَصْدِيقٍ، وقَصرَهما الشارع على انقياد وتصديق مخصوص كما في الأسماء العُرفيَّة، كالدابة، فإِنَّهَا في الأصل لكل ما يدُبُّ، ثم خُصِّصت بالعرف للبعض (2).
(1) سيأتي في كلام المؤلف أن الإيمان: تصديق وانقياد، والتصديق يكون بالقلب واللسان وساء الجوارح كما في الحديث "
…
والفَرْجُ يُصَدق ذلكَ أو يُكَذِّبُهُ" [رواه البخاري (6612)، ومسلم (2657)]. أَمَّا شَرعًا فكما تقدَّمَ في كلام المؤلف: إنه قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. أما هذا التعريف فيقصِدُ به أصل الإيمان.
(2)
انظر: "المفهم"(1/ 140).
الخامس عشر: ظاهر الحديث تغاير الإسلام والإيمان، لأنَّ جبريل سأل عنهما سؤالين، وأُجيب بِجَوابَيْن، وفَسر له الإسلام بأعمال الجوارح كالصلاة ونحوها، والإيمان بعمل القلب، وقد يُتَوَسَّعُ فيُطْلق الإيمان علي الإسلام كما في حديث وفدِ عبد القيس، فَإِنَّهُ أَمَرهم بالإيمان ثم قال:"أتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ"؟ قالوا: اللهُ ورَسُوله أعلم. قال: "شَهادَةُ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأن محمدًا رسولُ الله"(1).
ووجهُ ذلك: أنه عنه يكون غالبًا، وهو مُظْهِره، وقد قال -عليه أفضل الصلاة والسلام-:"الإيمَانُ بِضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَةً: أَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عن الطَّريق، وأَعْلاها شَهادة أنْ لا إلهَ إلَّا الله"(2). وهذا أَوْلى مِنْ دَعْوَى اضطراب مَتْنِهِ (3).
حيث قال: "آمرهم بأربع" ولم يأمرهم إلَّا بالإيمان وحدَهُ، وفسَّره بخمس، وفي رواية:"شهادة أن لا إله إلَّا الله" وعَقَدَ واحدة، وليسَ فيه ذِكرُ الحجِّ، بخلاف "حديث جبريل" ..
وقد أطلَق الإسلام يُريد أنه سَمَّى الإسلام والإيمان، قال تعالي:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وقد وصفَ الله تعالى آل لوطٍ مرَّةً بالإسلام، ومرَّةً بالإيمان، فقال {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذريات]، ووجههُ: أَنَّهُ أكمل. نعم؛ أثبتَ في حقِّ الأعراب الإسلام فقط حيث قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14](4).
(1) رواه البخاري (1/ 20 رقم 53)، ومسلم (1/ 46 رقم 17) عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (1/ 63 رقم 35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث أصله في "البخاري"(1/ 11 رقم 9) وقد رواه "الجماعة".
(3)
كما زعمَ ذلكَ الطوفي في كتابه "التعيين"(56 - 60)! وانظر في الجواب عليه: "المفهم"(1/ 174 - 175)، و"فتح الباري"(1/ 161 - 163).
(4)
اختلف السلف وأئمة الإسلام في مسألة "العلاقة بين مسمى الإسلام والإيمان"، وتنحصر مذاهبهم في الأقوال التالية: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= 1 - ذهب الزهري وحماد بن زيد إلي أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، والمراد بالكلمة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
2 -
وذهب الإمام البخاري ومحمد بن نصر المروزي وابن منده وابن عبد البر وغيرهم إلي أن الإسلام والإيمان مترادفان يراد بأحدهما ما يراد بالآخر.
3 -
وذهب أكثرُ أهل العلم من السلف إلي القول بأن الإسلام والإيمان إذا أُفرِدَ أحدهما شَمِل الدِّين كُلَّه أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة.
وإذا قُرنَ بينهما وذُكرا معًا، فعند ذلك يفترقان في المعني فَيُراد بالإسلام الأعمال الظاهرة والإيمان الاعتقادات الباطنة.
وهذا القول هو القول الذي تجتمع عليه النصوص وهو أرجح الأقوال.
فإن المتتبع لآيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن اسم الإيمان تارة يُذْكَرُ مُفْرَدًا غير مقرون باسم الإسلام، وتارة يُذكر مقرونًا به، وكذلك اسم الإسلام تارة يذكر مفردًا غير مقرون باسم الإيمان، وتارة يذكر مقرونًا به، وبالتالي فإنهما أحيانًا يكونان بمعنى واحد فهما مترادفان، وأحيانًا يُرَادُ مِن أحدِهما معنى مُغَايِرٌ لمعني الآخر، فهما مُتغايران.
وقد وَرَدت آيات في القرآن الكريم وأحاديث في سنة المصطفي صلى الله عليه وسلم تدل على أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالي: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ومنها: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا. ومنها: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطًا وسعدٌ جَالِسٌ فيهم، قال سعد: فَتَرَكَ رسول الله بيمين منهم من لم يُعْطِهِ، وهو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراهُ مؤمنًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَوَ مُسلمًا" فأعادها سعد ثلاثًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَوَ مُسْلِمًا"[رواه البخاري (27)، ومسلم (150)].
فهذه الأدلة تدل على أن الإسلام والإيمان متغايران.
ينظر في حكاية هذه الأقوال وأدلة كل فريق: "تعظيم قدر الصلاة" للمروزي (2/ 506 - 531)، و"الإيمان" لابن منده (1/ 130، 321)، و"التمهيد" لابن عبد البر (9/ 247 - 531)، و"الإيمان" للقاضي أبي يعلى (421 - 438)، و"السنة" للخلال (3/ 602 - 608)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 140)، و"شرح السنة" للبغوي (1/ 10)، و"الفتاوى" لابن تيمية (7/ 359)، و"شرح الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي (2/ 487 - 494)، و"لوامع الأنوار" للسفاريني (1/ 427).
السادس عشر: جاءَ في "مُسلِمٍ" تَقْدِيمُ السؤالِ عن الإسلام علي السؤالِ عن الإيمانِ، وجاءَ في "التِّرمِذي" بالعكس (1) ولعلها أَوْلي، حتى قيل: إنَّ الأُولى وقعَ مِن بعض الرُّواة: قدَّمَ مُؤَخَّرًا مِن باب الرواية بالمعنى (2).
السابع عشر: المُراد -والله أعلم- بإقامةِ الصلاة: الإتيانُ بها بأركانها وشُروطها.
وقولى: "وتؤتي" أي: تُؤَدِّي، و"الصلاة" في اللغة: الدعاء.
وفي الشرع: أفعالٌ مَخْصُوصةٌ (3).
و"الزَّكاة" في اللغة: النَّماء، ومنه:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74]، (4) {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9].
وفي الشَّرع: أَخْذُ شيءٍ مخصوصٍ، عَلَى وَجْهٍ مَخصوص.
(1) رواه أحمد (1/ 439 رقم 374، 375)، والترمذي (4/ 355 رقم 2610) وصححه، والنسائي في "الكبرى"(5/ 380 رقم 5852) عن عمر رضي الله عنه. وكان الأولى بالمؤلف أن يعزو إلى روايةِ أبي هريرة في "الصحيحين" ففيها تقديم "الإيمان"! وقد تقدَّم تخريجها.
(2)
قيل: "بدأ بالإسلام؛ لأنه الأمر الظاهر، وثنى بالإيمان؛ لأنه الأمر الباطن وهذا حسنٌ لما فيه مِنَ التَّرقي. وفي الرواية الثانية: أنه بدأ بالسؤال عن الإيمان؛ لأنه الأصل، وثنى بالإسلام؛ لأنه يظهر مصداق الدعوى، وثلثَ بالإحسان! لأنه مُتَعلِّقٌ بهما". انظر: "الفتح" لابن حجر (1/ 143).
(3)
في "المفهم"(1/ 141) بعدها: "
…
بشروطٍ مخصوصة، الدُّعاءُ جزءٌ منها".
(4)
كذا بالأصل، قال ابن الجوزي في تفسيره (5/ 172):"قوله تعالى: {أقتلت نفسًا زاكية} قرأ الكوفيون، وابن عامر {زكيَّة} بغير ألفٍ، والياء المُشددة. وقرأَ الباقون بالألف من غير تشديد. قال الكِسائي: هما لُغَتان بمعنى واحد، وهما بمنزلة القاسية، والقسيّة". وانظر: "جامع البيان في القراءات السبع" للإمام أبي عمرو الداني (3/ 1315).
و"الصَّوم" لغةً الإمساك، وشرعًا: إمساك مخصوص.
و"رَمَضان": قيل إِنَّهُ اسمٌ مِن أسمائه تعالى، والصحيح أَنَّهُ اسم للشهر المشهور، سُمِّيَ بذلك، لاشتداد حَر الرَّمْضَاء فيه حين وُضِعَ له هذا الاسم (1).
و"الحَجُّ": في اللغة: القَصد.
وفي الشَّرع: قَصْدُ الكَعبَةَ -شَرَّفَها الله تعالى- بأفعالٍ مخصوصَةٍ.
و"الاسِتطَاعة": القوة على الشيء والتَّمَكّن منه. ومِنهُ: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97].
وقيد (2) الحج بالاستطاعة دُونَ الصَّلاة والصوم، مُوافَقَةً لِلفظِ القُرآن، وإن كانت العبادات كلها مَشْرُوطَةً بالاستطاعة، قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال رسوله -عليه أفضل الصلاة والسَّلام-:"وإذا أَمَرتكم بِأمْرٍ فأتوا مِنهُ ما استَطَعْتُم" كما سيأتي (3).
فائدة: التقييد في الحج: وجُودُ المَشقَّة فيه ما ليسَ في غيره.
و"السَّبيل": تُذكَّر وتُؤنَّث.
وزادَ ابن حِبان -في هذا الحديث-: "وتعتَمِرُ وتَغتَسِلُ عن الجَنَابَةِ، وأَنْ تُتِمَّ (4) الوُضُوءَ" ثم قال -في آخره-: "تَفَرَّدَ سليمان التيمي بقوله: "تعتَمِرُ وتغتَسِلُ وتُتِمُّ الوُضُوءَ"، وكذا بقوله: "خُذُوا عَنْهُ" يعني بعدَ قوله: "هذا جبريل
(1) انظر في هذا: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 135) و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 151 - 154).
(2)
في الأصل: "وقيل"! وما أثبتناه هو الصواب بدليل السياق، وما بعده.
(3)
في ضمن "الأربعين"، وهو الحديث التاسع.
(4)
في الأصل: "يعتمر، يغتسل، يتم" والتصويب من "ابن حبان".
أتاكم يعلمكم دينكم، خذُوا عنه" (1).
الثامن عشر: الإيمان بالقَدَر واجِبٌ، خيره وشَرّه، حُلْوه ومُرّه، ومعناهُ: أنَّ اللهَ تعالى قَدَّرَ الخَيْرَ والشَّرَّ قبلَ خَلْقِ الخَلْق، وأَنَ جميعَ الكائنات بقضَاءِ الله وقَدَرِهِ، وهو مُريدٌ لها.
ويكفي اعتقادٌ جَازِمٌ بذَلِكَ مِن غير نَصْبِ بُرهَان، هذا هو المُخْتَار.
التاسع عشر: "الملائكةُ": جمعُ مَلَك، فقيل: لا اشْتِقَاقَ له، وقيل: بلى، فقيل: فعل من الملك، وقيل: مفعل من لأَكَ إذا أرسل، وقيل: مِنَ الألوكة -وهي الرِّسالة-، ومحلّ الخوض في ذلك التفسير (2).
و"اليوم الآخر": هو يوم القيامة، وجاء "وتؤمن بالبعث الآخر" فيحتمل أن يكون تأكيدًا، أو أنَّهُ إحياء بعدَ إماتة، فيكون إشارة إلى النُّطفة (3).
العشرون: وجهُ عَجَبهم من سؤاله وتصديقه، سؤالهُ يقتضي عدم العلم بما يسأل عنه، وتصديقه بما جاء به يقتضي علمه به، وكأَنَّ ظاهر حاله أنه عالمٌ بذلك (4)، ثم زال التَّعَجب بأنه "جبريل جاءَ يُعَلِّمُكُمْ دينَكُم" فبيَّنَ أنه كان عالِمًا في صورة مُتَعَلِّم لقصدِ التَّعليم، وكذا قال النووي في "شرحه": "سببُ تعجُّبِهم
(1)"صحيح ابن حبان"(1/ 397 رقم 173).
(2)
انظر: "جامع البيان" للطبري" (1/ 444 - 447)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 263 - 262) وكتب التفسير عند آية (30) من "سورة البقرة". وانظر: "المفهم" (1/ 147)، وانظر في تفاصيل الإيمان بالملائكة كتاب: "الملائكة المقربين" للدكتور محمد بن عبد الوهاب العقيل -وفقه الله-.
(3)
قال ابن حجر في "الفتح"(1/ 145): "وكأَنَّ الحكمة في إعادة لفظ "وتؤمن" عندَ ذِكر البعث الإشارة إلى نوع آخر مِمَّا يؤمن به، لأنَّ البعث سيوجد بعد، ومَا ذكر قَبله موجود الآن، وللتنويه بذكرهِ لِكَثرَةِ مَن كان يُنْكِرُهُ مِن الكفار، ولهذا كثُرَ تكراره في القرآن".
(4)
في الأصل بعدها: "غير عالم به"؟! ولعلها من أخطاء الناسخ.
أن هذا بخلافِ عادَةِ السَّائل الجاهِل، إِنَّما هذا كلام خبيرٍ بالمسؤولِ عنا، ولم يكن في ذلك الوقت مَن يعلمُ هذا غيرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم " (1).
الحاي بعد العشرين: "الإِحْسَانُ" مصدر أحسَنَ إحسَانًا، ويتعدى بنفسه كـ: أحسنتُ كذا، وفي كذا، إذا حسَّنته، وهو منقول بالهمزة من حسَّن الشيءَ، ومتعدٍّ بحرف الجرِّ، وهو هنا بالمعنى الأول دون الثاني، إذْ حَاصِلهُ راجعٌ إلى: إتقَانِ العِبَادات، ومُراعاةِ حقوق الله تعالى فيها، ومُراقبته، واستحضار عظمته وجَلالته حالَة الشُروع، وحالة الاستمرار فيها.
وأرباب القلوب في هذه المُراقبة على حَاليْن:
أحدهما: غالب عليه مشاهدة الحوق، فكأَنَّهُ يراه. ولعل الشارع أشار إلى هذا بقوله:"وجُعِلَت قُرَّةُ عيْنِي في الصَّلاة"(2).
الثاني: مَن لا ينتهي إلى هذه الحالة، لكن يغلب عليه أنَّ الحقّ سبحانه مُطَّلِع عليه، ومُشاهِد له، وإليهِ الإشارة بقوله تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} [الشعراء: 218، 219]، وبقوله:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس: 61] الآية.
وهاتان الحالتان ثَمرةُ معرفَةِ (3) الله تعالى وخَشْيَته، ولذلك فَسَّرَ الإحسان
(1)"شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 272).
(2)
رواه أحمد (19/ 305 رقم 12293، 12294)، والنسائي (7/ 61 رقم 3939، 3940)، وفي "الكبرى"(8/ 149 رقم 8837، 8836)، وأبو يعلى (6/ 199 رقم 3482، 3530)، وأبو عوانة (3/ 14 رقم 4020، 4021)، وأبو الشيخ في (أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (3/ 443 رقم 727)، والطبراني في "الأوسط"(6/ 54 رقم 5772)، و"الصغير"(2/ 39 رقم 741)، والحاكم (2/ 160)، والبيهقي (7/ 78)، وصححه الحاكم، وصحح إسناد النسائي المؤلف في "البدر المنير"(1/ 501) وانظر تخريجه عنده، وحسَّنه ابن حجر في "التلخيص"(3/ 116)، وصححه الألباني "الصحيحة"(7/ 2 / 859 رقم 3291).
(3)
في الأصل: "معرفة ثمرة معرفة .. " والصواب حذف الأولى. انظر: "المفهم"(1/ 143).
في حديث أبي هريرة بقوله "أنْ تَخشى الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ"(1) فَعَبَّرَ عن المُسَبِّبِ باسم السَّبَب تَوَسُعًا، ثم الألف واللام في "الإحسان" المسؤول عنه المعهود المذكور في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، و {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] فلَمَّا تكَرَّرَ الإِحْسَانُ في القُرآن في غيرِ آيٍ، ورَتَّبَ عليهِ هذا الثواب الجَسيم، سأل عنهُ الرُّوح الأمين، فأجابَهُ لِتَعْمَلَ بهِ أُمَّته، فيفوزوا بالأَجْرِ الجَسِيم، فقال:"الإحسَان: أن تَعْبُدَ اللهَ" إلى آخره (2).
وهوَ مِن جَوامِعِ كلِمِه الذي أُوتيَها؛ لأنَّهُ لو قَدَّرْنا أن أحدًا قامَ في عبادةٍ وهو يُعاين ربَّهُ -تعالى- لم يترك شيئًا مما يَقْدِرُ عليه مِن الخُضوع والخشوع وحُسن الصَّمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن الوجوه إلَّا أَتَى بهِ، فقال: اعبد الله في جميع أحوالك كعبادته في حال العيان، فإنَّ التَّتميم المذكور في حال العيان إنما كان لِعِلم العَبْدِ باطّلاع ربّه عليه تبارك وتعالى، فلا يُقدِم على تَقصِير في هذا الحال إلَّا اطلع عليه، وهذا المعنى موجودٌ في عدَم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه.
فمقصود الكلام: الحثُّ على الإخلاص في العبادة، ومُراقبة العبدِ ربَّهُ تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك.
وقد نَدَبَ أهلُ الحقائق إلى مُجالسة الصَّالِحين ليكون ذلك مانِعًا مِن تَلَبُّسِهِ بشيءٍ مِن النَّقائِصِ احتِرَامًا لهم واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزال الله تبارك وتعالى مُطَّلِعًا عليه في سِرِّه وعلانيته (3).
(1) رواه البخاري (1/ 19 رقم 50)، ومسلم (1/ 40 رقم 10).
(2)
هذا الوجه "الحادي والعشرون" مستفَادٌ مِن "المفهم"(1/ 143 - 144).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (1/ 272)، و"الفتح" لابن رجب (1/ 211 - 215).
* تنبيهان:
الأوَّل: قوله "فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ" فإنه ينبغي أن يكونَ مُستأنَفًا، وأنَّ الجواب تمَّ عندَ قوله:"كَأَنَّكَ تَرَاه"؛ لأنَّهُ مِنْ جِنسِ مَقُدورِ العَبد، بخلاف رؤيته تعالى.
ثانيهما: يؤخَذُ مِنْهُ جوازُ رؤية الباري تعالى لإتيانه بِـ "لَمْ" دونَ "لا"؛ لأنَّ الممكن يُنْفَى بِـ "لَم" والمستحيل بـ "لا" فَيقالُ: زيدٌ لَمْ يَقُم، والحَجَرُ لا [يقوم](1) ومنه "الشُّفعَةُ فيما لم يُقْسَم"(2). وقد نطقَ الله بها في الآخرة، وأبعد الله مَن نَفَاها، وفي الدنيا جَائِزةٌ (3) عَقلًا.
الثاني بعد العشرين: "الساعة" المرادُ بها هنا: يوم القيامة، وإن كانَ أصلها وضعًا: مقدارًا ما مِنَ الزَّمان غير مُعيَّن ولا مُحَدَّد، قال تعالى:{مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55].
والموقتون اصطَلَحوا على أنها: جزءٌ مِن أربعةٍ وعِشرين جُزءًا مِنَ الليل والنهار.
فمعنى "أخبرني عن الساعة" أي: عن زمن وجود القيامة، سُمِّيت ساعة -وإن طال زمنها- اعتبارًا بأول أزمنتها، فإنها:{لَا تَأْتِيكُمْ إلا بَغْتَةً} [الأعراف: 187]، {قَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] (4).
وقوله: "مَا المَسؤول عنها بأعلَمَ مِنَ السَّائل" أي: كِلانا سَواءٌ في عَدَمِ العِلمِ به مِن وقوعها: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15]، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187].
(1) في الأصل "انقطع" وبدا من الكلمة: "يعـ" ولعل ما أثبتناه الصواب.
(2)
رواه البخاري (3/ 87 رقم 2257) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(3)
في الأصل: "خاسِرةٌ"!
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (1/ 216 - 217).
وفي " الصحيح": "مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يعْلَمُهن إلَّا الله، وتَلَا:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (1). ومَعْناه: أنه ينبغي للعالِم والمُفْتِي وغيرهما إذا سُئِلَ عما لا يعلم فليقل: لا أعلم. وأنَّ ذلك لا ينقصه، بل يُسْتَدَلُّ به على ورعِه وتقواه ووُفور عِلْمِه.
الثالث بعد العشرين: "الأَمَارة" -بفتح الهَمزة-: العَلامة، وكَذا:"الأَمار" بحذف الهاء (2)، وكذا "أشراطها" أي: عَلاماتُها. ومنه: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ، ومنهُ: سُمِّيَ الشُّرَط: لأنهم يُعَلِّمونَ أنفسهم بعلامات يُعْرَفونَ بها. وربما روي "أَمَارَاتها" بالجمع (3).
وأمَّا الإمارة -بالكسر-: فالوِلاية.
الرابع بعد العشرين: "الأَمَةُ" هنا الجارية المستولدة، و"رَبَّها": سيدها.
و"ربَّتُها"-تأنيث رب-: سيدتُها ومالِكَتُها، وفي رواية "ربَّها" على التَّذكير، وفي أُخرى "بَعْلَها" (4) وقال: يعني السَّراري.
واخْتُلِفَ في معناه على أقوال (5):
(1) رواه البخاري (1/ 19 رقم 50)، ومسلم (1/ 40 رقم 10). وسيرد في كلام المؤلف في شرح هذا الحديث قوله "كما في حديث أبي هريرة" في ذِكر بعض ألفاظ الحديث وهو المراد بقوله، ولذا لن نعيد تخريجه فرارًا مِن التكرار.
(2)
انظر: "كشف المُشْكِل" لابن الجوزي (1/ 131).
(3)
كما في لفظ الحديث المشروح.
(4)
"بعلها" مالِكُها. "المفهم"(1/ 148)، و"كشفِ المشكل"(1/ 131).
طريفة: ذكر ابن الجوزي "أنّ بعض العرب أضلّ ناقته، فجعل يُنادي: مَن رأى ناقةً أنا بعلُها! فجعل الصبيان يقولون: يا زوجَ الناقة"!
(5)
انظر هذه الأقوال في: "التوضيح" للمؤلف (3/ 179 - 180)"كشف المشكل"(1/ 131)، و"المُعْلِم"(1/ 187)، و"إكماله"(1/ 205)، و"شرح النووي"(1/ 273 - 274)، و"المفهم"(1/ 148)، و"التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" لتلميذه (3/ 1247 - 1248)، و"التعيين"(64)، و"جامع العلوم"(1/ 136)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 217 - 219)، ولابن حجر (1/ 149) وغيرها.
أصحُّها: أنهُ إخبارٌ عن كثرةِ السراري وأولادهن؛ فإنَّ ولَدَها مِن سيدها بمنزِلةِ سيدها؛ لأنَّ مالَ الإنسان صائرٌ إلى ولدِه، وقد يتصرَّفُ فيه في الحال تصرّف المَالِكين: إمَّا بالإذن، أو بقرينة الحال أو عُرف الاستعمال.
وعبَّرَ بعضهم عنه: "بأن يستوليَ المُسلِمون على بِلاد الكُفر، فتكثر فيه السَّراري فيكون ولد الأَمَة من سيدها بِمَنْزِلة سيدها لشَرَفه مِن أبيه، وعلى هذا فالذي يكون مِن أشراط السَّاعة: استيلاء المسلمين على المشركين، وكثيرة الفتوح، والتَّسري"(1).
ثانيها: أنَّ معناه أن الإماء تلدن الملوك فتكون أُمُّه مِن جُملةِ رعِيَّتِهِ وهو سيدها وسيِّد غيرها من رَعِيَّته: قاله الحربي.
ثالِثُها: أن معناه بأنه تفسدُ أحوالُ الناس فيكثر بيعُ أمهات الأولاد في آخر الزمان، فيكثر تردادها في أيدي المشركين حين يشتريها ابنُها من غير علم.
وعلى هذا يكون مِنَ الأشراط غَلَبَةُ الجهل بتحريم بيعِ أمَّهَات الأولاد، [والاستهانة بالأحكام الشَّرْعِيَّة، وهذا على قول مَن يرى تحريم بيع أُمَّهات الأولاد](2) وَهُم الجُمهُور (3)، ويَصِحُّ أن يُحْمَلَ ذلِكَ على بَيْعِهِنَّ في حالِ حَمْلِهِنَّ، وهو مُحَرَّمٌ إجماعًا.
(1) قاله أبو العباس القرطبي في "المفهم"(1/ 148).
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأَثْبَتُّهُ مِن "المفهم"(1/ 148)؛ لأنه من كلام القرطبي، وقد نقل أبو عبد الله القرطبي كلام شيخه صاحب "المفهم" في كتابه "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة"(3/ 1247) بحروفه. والظاهر أن نظر الناسخ انتقل فأسقط العبارة، ولا تستقيم العبارة إلا بما أثبتناه، والله أعلم بالصواب.
(3)
ينظر: "الأم" للشافعي (7/ 175)، و"المغني" لابن قدامة (14584 - 589)، و"عجالة المحتاج" للمؤلف (4/ 1901).
ويحتمل على هذا القول ألا يختص هذا بأُمَّهات الأولاد، فإنه يُتَصَوَّرُ في غيرهِنَّ، فإنَّ الأَمَةَ تَلِدُ ولدًا آخر مِن غير سيدها بشُبْهَةٍ، أو رقيقًا بنكاح، أو زنًا ثم تُبَاعُ الأَمَةُ في الصورتين بيعًا صحيحًا، وتَدُور في الأيدي حين يشتريها ولدها، وهذا أكثر وأعَمّ من تقديره في أمهات الأولاد، وقيل فيه غير ذلك.
ومنهُ: أنْ يَكثُرَ العقُوقُ في الأولاد، فيُعَامِلُ الولدُ أُمه معامَلَةَ السَّيد أَمَتَهُ مِنَ الإهانةِ والسبِّ. ويَشْهَدُ لذلك حديث أبي هريرة "المرأة" مكان "الأَمَة"(1)، وحديث:"لا تَقُومُ الساعةُ حتى يَكُون الوَلَدُ غيْظًا"(2).
الخامس بعد العشرين: استَدَلَّ بهذا الحديث إمامان على بيع أُمَّهَات الأولاد ومنْعِهِ، وليسَ فيه دِلالةٌ لِواحِدٍ منهما، فإنَّهُ ليسَ كلُّ ما يخبِرُ به الشَّارع بكونه مِن علامات الساعة يكون مُحَرَّمًا أو مذمومًا: فإنَّ تطاول الرعاء في البنيان، وتيسير المال (3)، وكون خمسين امرأة لهن قيِّم واحِدٌ (4) ليسَ بحرام، وإنما هذه علاماتٌ، والعلامة تكون بالخَير وغيره (5).
(1) تقدَّمَ تخريجه، وهذه اللفظة في البخاري (6/ 115 رقم 4777).
(2)
رواه الطبراني في "الأوسط"(6/ 284 رقم 6427)، والقضاعي في "الشهاب" (2/ 92 رقم 949) بإسناد ضعيف. قال الهيثمي فيه في "المجمع" (7/ 325):"فيه جَمَاعة لم أعرفهم".
قلتُ: في إسناده المؤمل بن عبد الرحمن بن العباس، ضعفه أبو حاتم الرازي؛ وقال الدارقطني:"وقد تفرد به". قال ابن عدي: "عامة حديثه غير محفوظ". انظر: "الجرح والتعديل"(8/ 374)، و"الكامل"(6/ 441)، و"الميزان"(4/ 229).
وإسماعيل بن يعلى أبو أميَّة الثقفي: "متروك". انظر: "المجروحين"(1/ 133)، و"الميزان"(1/ 254).
(3)
فيه عِدَّةُ أحاديث منها: ما رواه البخاري (2/ 108 رقم 1412)، ومسلم (2/ 701 رقم 60/ 157) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقومُ الساعةُ حتى يَكْثُرَ فيكم المال" الحديث.
(4)
روى البخاري (1/ 27 رقم 81)، ومسلم (4/ 2056 رقم 2671) عن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مِن أشراطِ السَّاعة: أنْ تكْثُر النساءُ، وَيَقِلَّ الرجال، حتى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيمُ الوَاحِدُ".
(5)
"شرح النووي لمسلم"(1/ 274).
السادس بعد العشرين: "الحُفاة" -بالحاء المُهمَلة- جمعُ حافٍ، وهو: مَن لا نَعل في رِجْله.
و"العُراة": جمعُ عارٍ، وهو: مَن لا شيءَ على جَسَدِه، وفي رواية محمد بن الحذاء التميمي:"الحفاة": "يعني الخدمة".
و"العَالَة": -بِفَتح اللام المُخَفَّفة- جمعُ عائل، وهو: الفقير، والعَيْلة: الفقر، وعال الرجلُ يعيل عيلةً: افتقر، وأعالَ يعيل: إذا كثر عياله، قال تعالى:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]، وقال:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] والمُرادُ: أنَّ أرَاذِلَ الناس يَصيرونَ أهلَ ثروةٍ ظاهِرةٍ.
و"الرِّعَاء": -بِكَسر الراء وبالمَدِّ- جمعُ راعٍ، ويُقال فيه: رُعاة -بضمِّ الراء وزيادة الهاء بلا مدٍّ-، وأَصْلُ الرعي: الحِفْظ.
و"الشَّاء": الغَنَم، أي: رعاة الغَنَم، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23]. وهو جمعُ شاةٍ، وخَصَّهم بالذكر؛ لأنهم أضعفُ أهلِ البادية.
وجاء "رعاء البَهم": -بفتح الباء- جمعُ بهيمة؛ وأصلها: صِغار الضأن والمعز، وقد يختص بالمعز، وأصله من استَبْهَمَ عن الكلام، ومِنهُ البَهيمة.
وكذا في البخاري: "رعاءُ الإبل البُهم" -بضمِّ الباء- جمعُ بهِيم، وهو الأَسْوَدُ الذي لا يُخالِطُهُ لون آخَر، وهو بِكَسر الميم: صفةٌ للإبل، وبِرَفعِها صِفَةٌ للرُّعَاةِ (1).
(1) انظر: "إكمال المعلم"(1/ 209 - 211)، و"المشارق" للقاضي عياض (1/ 102)، و"المفهم"(1/ 150)، و"التنقيح" للزركشي (1/ 46)، و"الفتح" لابن حجر (1/ 150).
وقيل: معناه لا شيء لهم، ومنهُ الحديث:"حُفَاةً عُرَاةً بُهمَا"(1). ويَبْعُدُ أنهُ نَسَبَ للبهم إِبِلًا، والظاهر المُلْك.
وقال الخطابي: "هو جمعُ بهيم، وهو المجهول الذي لا يُعرف"(2).
والأولى أن يُحمَل: على أنهم سودُ الألوان؛ لأنَّ الأَدمةَ غالِبُ ألوانهم.
ورواية "مسلم": "رعاء البهم" مِن غير ذِكر الإبل، وهي مُناسبةٌ؛ لأنَّ المقصود أنهم مع ضعفهم سَيَنْقَلِبُ بهم الحال إلى أن يَصيرُوا مُلوكًا، بخلاف أصحاب الإبل؛ فإنَّهم أصحاب فَخْرٍ وخُيلاء (3).
(1) رواه البخاري تعليقًا (1/ 26) بصيغة الجزم، ووصله في "الأدب المُفرد"(348 رقم 970)، و"خلق أفعال العباد"(2/ 49 رقم 90، 480)، ورواه ابن أبي شيبة في "مسنده"(2/ 347 رقم 851)، وأحمد (25/ 431 رقم 16042)، والروياني في مسنده" (2/ 470 رقم 1491)، والحارث بن أبي أسامة (1/ 189 رقم 44)، وابن أبي عاصم في "السنة" (514)، [1/ 358 رقم 526 ط الجوابرة]، و"الآحاد والمثاني" (4/ 79 رقم 2034)، وأبو نعيم في "معجم الصحابة" (3/ 1585 رقم 3999)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/ 135 - 136)، والطبراني في "الكبير" (132 - 133 رقم 331 قطعة من الجزء 13)، والحاكم (2/ 437 - 438)، (4/ 574 - 370)، والخطيب في "الرحلة" (110 - 11 رقم 31، 32)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/ 196 رقم 131، 600) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنها، عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه.
وهو حديث صحيح، صححه الحاكم ووافقه الذهبي والألباني، وحسَّن إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب"(3/ 428 رقم 3608)، وابن القيم في "مختصر الصواعق"(3/ 1284)، وابن حجر في "فتح الباري"(1/ 210).
(2)
"أعلام الحديث" للخطابي (1/ 182).
(3)
وحمله بعضهم على أن الإضافة -"رعاة الإبل"- أنها إضافة اختصاص لا مُلْك، وهذا هو الغالب أنَّ الراعي يرعى لغيره بالأُجرة، وأَمَّا المالك فَقَل أن يُباشر الرعي بنفسه، وهذا أقرب في انقلاب الأحوال فهم فقراء رعاة -لا ملك لهم- ثم يصبحون أصحاب ثروة طائلة، ويتطاولون في البنيان. وهو وجيه جدًّا. وانظر:"الفتح" لابن حجر (1/ 150).
والمعنى: إذا رأيتَ أهلَ البَادِية -وهذه الصفة غالبة عليهم وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة- تُبسَطُ لهم الدّنيا حتى يتباهَوْا في البُنيان فذلك مِن علاماتِها. وقَد وُصِفوا في حديث أبي هُريرة بأنهم "صُمٌ بكم" أي: جَهَلة رَعاع، لم يَسْتَعمِلوا أسماعهم ولا كلامهم في عِلم، ولا في أمر دينهم، وهو نحو قوله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] أطلَقَ ذلِكَ عليهم.
قال قتادة: " {صُمٌّ} عن استماع الحَقِّ {بُكْمٌ} عن التَّكَلُّم به {عُمْيٌ} عن الإبصار له"(1).
معَ أَنَّ لهم الأسماع والأبصار؛ لكن لَمَّا لَمْ تحصل لهم ثمرات ذلك صاروا كأنهم عُدِمُوا أَصلَها، وقد أوضَح هذا المعنى قوله تعالى:{هُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
والقَصْدُ مِن الحديث: الإخبارُ عن تبدُّلِ الحالِ، بأن يستولي أهلُ البادِيَة الذينَ هذهِ صِفاتُهُم على أهلِ الحاضِرة، ويَتَمَلَّكُوا بالقَهْر والغَلَبَة، فَتكثر أموالُهُم، وتتَّسِع في الحُطَام آمالهم، فَتَنْصَرف همَّتُهم إلى تشييد المباني، وهَدْمِ الدِّين [وشريف المعاني](2)، وقد جاءَ في الحديث:"لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَكونَ أسعَدَ الناس بالدُّنْيَا لُكَعُ بنُ لُكَع"(3).
(1) رواه الطبري (1/ 331 رقم 401)، وابن أبي حاتم (1/ 53 رقم 174) في تفسيريهما.
(2)
ما بين المعقوفتين من "المفهم"(1/ 149) وبه يتم سياق الكلام المسجوع.
(3)
رواه أحمد (38/ 334 رقم 23303)، والترمذي: الفتن (4/ 70 رقم 2209)، والداني في "الفتن"(4/ 802 رقم 407)، والبغوي في "شرح السنة"(14/ 346 رقم 4154)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 392)، عن حُذيفة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح، وقد صححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1799).
و"لُكع بن لكع" -هنا-: هو اللئيم بن اللئيم. انظر: "غريب الحديث" للخطابي (3/ 103)، و"النهاية" لابن الأثير (4/ 268).
وقَدْ شُوهِدَ ذلِكَ وبَانَ صِدقُ الشَّارع فيما هنالك، فإذا صار أسافِلُ الناس رؤوسًا فقد طاب المَوْتُ، وإذا وُسِّدَ الأمر إلى غيرِ أهلِهِ فانتظِر السَّاعة، فقد فاتَ الفَوْت.
والألف واللام في "الحفاة"، "العراة"، "العالة" يجوز أن تكونَ للعُموم، فتختص بقاطع العادة، فإنَّ العادة تقتضي أنَّ كلهم ليسَ على ذلك، ويجوز أن تكون للمعهودين المُخاطَبين، أو لتعريف الماهية، أو لبعض الجنس فلا عموم ولا خصوص، واللام في "أن تلِدَ الأمَةُ" ليست للعموم أيضًا.
السابع بعد العشرين: فيه دِلالَةٌ على كَرَاهِيَةِ مَا لَا تَدْعُو الحاجةُ إليهِ مِنْ تَطْويلِ البناء وتَشْيِيده، وفي الحديث:"يُؤْجَرُ ابنُ آدَمَ على كُلِّ شيءٍ إلَّا مَا يَضَعُهُ في هَذَا التُّرَاب"(1).
ومَاتَ الشَّارعُ -صَلواتُ الله وسلامه عليه- ولَمْ يَضَع حَجَرًا على حَجَرٍ، ولا لَبِنَةً على لَبِنَةٍ، أي: لَمْ يُشَيِّد بُنْيانًا، ولا طَوَّلَهُ ولا تَأنّقَ فيهِ (2).
الثامن بعد العشرين: قوله "فَلَبِثَ مَلِيًّا" -هو بتشديد الياء- أي: زَمانًا، "مَلِيًّا" أي: كثيرًا، فَحَذَف الموصوف لِظُهوره، ورُوي "فلبثتُ" بتاء مضمومة، فيكون عمر هو المُخْبِر عن ذلك بِنفْسِه، وكان ذلك: ثلاثًا، كما جاء مبينًا في رواية أبي داود، والترمذي وغيرهما.
وفي "شرح السنة" للبغوي: "بعدَ ثالثةٍ"(3). وظاهره أنه بعد ثلاث ليال.
وفي ظاهره مُخالَفةٌ لحديث أبي هريرة: "فأَدْبَر الرَّجُل، فقال عليه الصلاة والسلام: "رُدُّوه" فأخذُوا يَرُدُّوه فَلَم يَرَوْا شيئًا، فقال عليه الصلاة والسلام:
(1) رواه البخاري (7/ 121 رقم 5672) بهذا اللفظ من حديث خباب رضي الله عنه.
(2)
قارن هذه المسألة والتي قبلها بـ "المفهم"(1/ 149 - 151) مع تقديم وتأخير.
(3)
(1/ 7 رقم 2).
"هذا جبريل". فيُحتَمَل أنَّ عمر لم يحضُر قولَه هذا، بل كان قامَ، فأُخبِرَ به بعدَ ثَلاثٍ (1).
فائدة: "ملِيًّا" غير مهموزة، ومنهُ:{وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]"لأنَّهُ مِنَ المَلَوَان: الليل والنَّهار (2). {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف: 183]، و"إن اللهَ لَيُمْلِي للظَّالِمِ" (3).
أمَّا: المليء، ضد المُعْدَم، فهو مهموز؛ لأنَّهُ مِن مَلأَ كِيسَهُ ونحوه مالًا، ومِن الملاءة: وهو اليَسَار، والملأ مِن الناس (4).
التاسع بعد العشرين: قوله "إنه جبريل" جبريل اسم عجمي سرياني، قيلَ معناه: عبد الله، وفيه لُغات وقِراءات مَحَل الخَوْض فيها كتب التفسير (5).
والحديث: دالٌّ على أن الربَّ جل جلاله يُمَكِّن الملائكةَ أن يتَمَثَّلُوا فيما شاءوا مِن صُوَر بني آدم، كَمَا نصَّ الله على ذلك في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]. وقد كانَ جبريل يتمثَّل لنبينا - عليه أفضَل الصلاة
(1) وهذا الذي جاء في رواية أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد -وقد تقدّم تخريجها- قال عمر رضي الله عنه: "فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم بعدَ ذَلِكَ بِثلاث فقال: يا عمر
…
" الحديث.
(2)
المَلَوَان والجَديدان والعَصْران كلها المُراد بها الليل والنهار، وهذا من مزدوج الكلام.
انظر: "بهجة المَجَالِس" لابن عبد البر (1/ 92). وللفائدة انظر: "الطبقات الكبرى" للسبكي (2/ 196 - 198).
(3)
رواه البخاري (6/ 74 رقم 4686)، ومسلم (4/ 1997 رقم 2583) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(4)
انظر: "تهذيب اللغة"(15/ 403 - 406).
(5)
انظر: "جامع البيان" للطبري (2/ 388 - 392)، "زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 117 - 119)، "الجامع لأحكام القرآن"(2/ 37 - 38)، و"فتح الباري"(6/ 354)، و"أجوبة الحافظ ابن حجر على أسئلة بعض تلامذته" (92 - 94). وللتوسع في مراجعة كتب التفسير راجع: آية (97) من "سورة البقرة" وقد ذكروا في جبريل "ثلاث عشرة لغة".
والسلام- في صُورةِ دِحْية بن خليفة، وقد رآهُ على هيئته مرتين، وعِرْفَانه له هنا إنما هو في آخر الأمر فقط، كما جاء في "صحيح البخاري". وعرفانه له إمَّا: وحيٌ، أو نَظَر، وفي رواية:"مَا جاءَني في صُورة لَمْ أعْرِفها إلا في هذه المَرَّة"(1). ولا يُخاضُ هنا فيما خاضت فيه أهلُ الحُلول -عَصَمَنَا الله مِنهُ-.
الثلاثون: "دينُكُم" أي: قواعده أو كُلياته، و"الدِّين" المِلة، والشريعة، ويُستَعْمَلُ -أيضًا- في الجَزَاء، فَمِنْهُ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أي: يوم الجزاء.
وبمعنى العادة: كَدِينكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
…
(2).
وروي: كدأبك، وهو أشهَر.
وظَاهر قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقوله:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] أنَّ الإسلام جميع الدِّين لا بعضهُ، وإنْ كانَ ظاهِرُ حديث جابر إطلاق الدين على الثلاثة: الإسلام، والإيمان، والإحسان.
* تتمات (3):
(1) رواه أحمد (1/ 439 رقم 374)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 380 رقم 5852)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 376 رقم 368، 369، 370) عن ابن عمر! والصواب أنه عن عمر رضي الله عنه. وإسناده صحيح كما قاله الشيخ أحمد شاكر في "المسند"(1/ 373)، وقد نبَّهَ رحمه الله إلى أن الأخَوَين عبد الله وسليمان ابنا بريدة -وكلاهما ثقة- قد اختَلَفَا فيمن حضر سؤالات جبريل: ابن عمر أو عمر! والراجح رواية عبد الله بن بريدة أن عمر هو الذي حضر، وحدث ابنه عنه، ويكون الوهم في حذف "عمر" في هذا الإسناد من سليمان أو مِن علقمة بن مرثد. وانظر كلام الإمام الترمذي في "السنن"(4/ 357 تحت رقم 2610).
(2)
صدر بيت لامرئ القيس من "معلقته"(32 رقم 7) وعَجزُهُ: "وَجَارَتها أُمِّ الرَّباب، بمِأسلِ". وروي: "كدأبكَ" و"كدينك" -كما ذكر المؤلف- وكلاهما بمعنى العادة.
(3)
هذه التتمَّات مستفادة من شرح الطوفي، وهي مفرَّقةٌ فيه جمعها المؤلف هنا.
الأولى: قوله "شديد بياضِ الثِّياب" إلى آخِرِه، إشَارَة إلى غَرَابةِ هذه القِصَّة، لأنَّ الرَّجُل هيئته هيئة حاضِرٍ لا يَخْفَى عليه أَمْرُ الدِّين مع اشْتِهارِه غالِبًا خُصوصًا في المَدِيحْة، وسُؤاله سُؤال أَعْرَابي وَارد غير عالم بالدِّين، وهذا بِخِلاف حديث طَلْحَة:"جَاءَ أَعْرابيّ مِن أهلِ نَجْدٍ، ثائرُ الرَّأس" الحديث (1)، إذ وصَفَهُ بِصفةِ الأَعْرَاب الوَارِدِين، فلَمْ يَكُن في سُؤاله غرابة ولا عَجَب.
الثانية: فيه اسْتِحبابُ التَّجَمُّل وتَحسين الهَيئَة للعَالِم والمُتَعَلِّم، وجبريل مُعَلِّم مِن جِهةٍ، لقوله:"يُعَلِّمُكم"، ومُتَعَلِّم من أُخرى، مِن كَوْيه جاءَ في صُورَةِ سائلٍ.
الثالثة: مُنَاداته باسمهِ كَمَا يُنادِيه الأعراب، مِن باب التَّعْمِية على حاله، ففيه جَوَازُ تسمية المُتَعَلِّم (2) شَيْخَهُ، والمرؤوس رئيسَهُ باسمِهِ، لكن غَلَبَ في العُرْف تَلْقيبُهُم، فينبغي اتِّباعه، إلَّا أن يُعلَم أنه لا ينقبض من [تسميته باسمِهِ الأَصْلِي](3)، ولا يتأذى به، فيكون هو الأولى اتباعًا لهذه السُّنَّة وغيرها؛ ولأنَّهُ أقرَبُ إلى التَّواضعِ، وأولى بالصِّدق.
الرابعة: فيه إجابَةُ المُستفتي على ما فَهم من القرينة، فإنَّهَا كالنَّص، فإنَّهُ سأَلهُ عن الإسلام وهو مُحتمل لسؤاله عن حقيقته، أو شرطه، أو مكانه وغير ذلك، فأَجَابَهُ بِمَاهِيَّته وحقيقته.
الخامسة: فيه أنه ينبغي لمن حَضَرَ مَجَالِسَ العُلَماء إذَا عَلِمَ بأهلِ المَجْلِس حاجةً إلى مَسْأَلةٍ السُّؤَالُ عنها، لِتَحصل الإفادة لهم.
(1) رواه البخاري (1/ 18 رقم 46)، ومسلم (1/ 40 رقم 11).
(2)
في الأصل: "المعلم" والتصويب من "التعيين"(50) والسياق يقتضيه.
(3)
في الأصل: "تسمية الأصلي باسمه" والمثبت من "التعيين"(50) وهو الصواب.
السادسة: فيه -أيضًا- الرِّفقُ بالسائل، وإدناؤه مِنْهُ؛ ليَتَمَكَّنَ مِن لسُؤالِهِ، وتنبيه العالم تلامِذته على اقتِبَاس الفوائد، وغرائِب الوَقائع.
السابعة: قد يُستَدلّ بالحديث على أن الاسم غير المُسَمَّى، من حيث إنَ جبريل سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأتى بأسمائها وأجابَهُ الشَّارع عن معانيها، ولو كان هو هو لَمَا احتاج إلى السؤال عنه لِعِلمِهِ به، ولَمَا أُجيب؛ بل كان جوابه: إنكَ عالِمٌ بِمُسَمَّى مَا سألتَ عنهُ لِعِلمِكَ باسمه.
وفي هذه المسألة أقوالٌ -وقَد أفرَدَها البطليوسي- (1).
أحَدُهُما: ما ذَكَرنا.
وثانيها: أَنَّهُ هُوَ، لقوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1].
وأُجيب: بأَنَّهُ ضَمَّنَ سبح معنى اذكر، فكأنَّهُ قال: اذكر اسم ربِّكَ. كقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25]، وعكسه:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ} [آل عمران: 41]، ضمَّن "اذكر" معنى: سبِّح ونَزِّهْ، أي: نَزِّههُ عَمَّا لا يَلِيقُ به (2).
ومِنَ الحُجَّةِ لهم -أيضًّا-: قوله تعالى: {بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] ثُمَّ قال: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] فنادى، ويحيى اسمُهُ، فَدَلَّ على أنه هُوَ. وأُجيب بأنَّ المعنى: يا أيها الغلام الذي اسمُه يحيى، فنادى المسمى لا الاسم.
(1) باسم "الاسم والمسمى"، وقَد طُبِعَ في مَجَلةِ اللغة العربية بدمشق في الجزء الثاني، مجلد (47) عام (1392 هـ).
(2)
قال ابن القيم في "بدائع الفوائد"(1/ 19) في الجواب عن احتجاجهم بهذه الآية: "وعَبرَ لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: "المعنى: سبِّح ناطقًا باسم ربك مُتَكَلمًا به، وكذا {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1] المعنى: سبِّح ربك ذاكرًا اسمه". وهذه الفائدة تُسَاوي رحلة، لكن لمن يَعْرِف قَدْرَها".
وثالثها: أنَّ الاسم للمسمى (1) لا هُوَ هو ولا هو غيره، كالواحد مِنَ العشرة لا هو هي ولا هو غيرها. وأُجيب: بأنَّ هذا لا يتحقق؛ لأنا إذا قُلنا: هذا الشيء لهذا، إنما نعني أنه ملكه أو اختصاصه، وأمَّا ما كان كذلك فهو يقتضي المغايرة، لأنَّ ملك الشيء نفسه واستحقاقه لها واختصاصه بها مُحال.
* تنبيهان (2):
الأول: المغايرة، إما بالذات: كزيد غير عمرو، أو بالحال والصِّفة: كوَجْهِ زيد اليوم غير وجهه أمس. والمغايرة بين الاسم والمسمى إنما هو بالأول.
ثانيهما: الاسم: هو الموضوع للذات تعريفًا أو تخصيصًا كـ"زيد".
والمُسَمَّى: هو الموضوع له.
وبِكَسر الميم: الواضِعُ، والتَّسمِيَةُ وهي: الوضع لتلك الذات، وبهذا ظَهَر أنَّ الاسم غير المسمى.
ثالثهما: مِن شُبَه الخَصْم: أنَّ الرَّبَّ جل جلاله قال: {اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة: 72] لكن المُراد: اعبدوا الذات التي اسمها الله، والجلالة المعظمة دالة، والمعبود مدْلُولها وهو [الذات](3) القديمة الواجبة الوجود (4).
(1) في الأصل "أن الاسم المسمى"! والمشهور من الأقوال أن الثالث ما ذَكرناه.
(2)
كذا بالأصل! والصواب: ثلاثة تنبيهات.
(3)
ما بين المعقوفتين من "التعيين"(53).
(4)
المؤلف لم يُوفَّق في مسألة "الاسم والمسمى" وهذه المسألة انقسم الناس فيها إلى الأقوال التي حكاها المؤلف. وتحير المسألة هو: أن مسألة الاسم والمسمى من المسائل التي حدثت بعد القرون المفضلة، والتي اختلط فيها الحق بالباطل.
قال إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري في "صريح السنة"(26 - 27): "وأَمَّا القول في الاسم أهو المسمى أو غير المسمى فإنه من الحَمَاقات الحادِثة التي لا أثرَ فيها فيُتَبع، ولا قولٌ من إمام فَيُسْتَمع، فالخوض فيه شَيْن والصمت عنه زين.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الله- عز وجل ثناؤه- الصادق وهو قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وقو له: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] " اهـ.
وكان سبب حدوث هذه المسألة، أن الجهمية قالوا: إن الاسم غير المسمى وأسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق، لأن الله -تعالى- وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فإذا كانت أسماؤه غيره، فهي مخلوقة. فرد عليهم السلف، واشتد نكيرهم عليهم، لأن أسماء الله من كلامه، وكلام الله غير مخلوق، فهو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء. فكان مراد الذين يقولون الاسم غير المسمى هو هذا.
ولهذا قال الإمام الشافعي: "إذا سمعتَ الرجُلَ يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة". [رواه ابن عبد البر في "الانتقاء" (133)، و"الجامع" (2/ 941 رقم 1793)، والهروي في "ذم الكلام" (6/ 88 رقم 1139)، والبيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 405)، و"الاعتقاد" (64)].
والصواب -الذي لا محيد عنه- هو أن الاسم للمسمى، وهذا القول هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وقال سبحانه:{أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وقال تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]، وقال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24].
ومِن السُّنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إِن للهِ تِسْعَة وتسْعِينَ اسمًا"! [رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677)].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا محمد، وأَحمَدُ، وأنا المَاحِي الذي يَمْحُو اللهُ بي الكُفْرَ، وأنَا الحاشِرُ الذي يُحشَرُ الناسُ على قَدَمِي، وأَنَا العاقب". [رواه البخاري: (3532)، ومسلم (2354)]. وهذا مذهب عامة أهل السنة.
وأحيانا لا يُطلِقُون بأنه المُسَمَّى، أو غيره، بل يُفَصِّلون، حتى يزول اللبس. فإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ قالوا: ليس هو نفس المسمى، ولكن يراد به المسمى.
وإن أُريد بأنه غيره، كونه بائنًا عنه، فهو باطل، لأن أسماء الله من كلامه وكلامه صفة له، قائمة به، لا تكون غيره.
واسم الله تعالى في مثل إذا قيل: "الحمد لله" أو "باسم الله" يتناول ذاته وصفاته، لا ذاتًا مجردة عن الصفات، ولا صفات مجردة عن الذات. وقد نص الأئمة على أن صفاته، داخلة في مسمى أسمائه، فلا يقال: إن علمه وقدرته، زائدة عليه.
والخلاصة في هذه المسألة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد تنازع الناس في الاسم هل هو المسمى أو غيره، وكان الصواب أن يمنع من كِلا الإطلاقين، ويقال كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ للهِ تِسْعَة وتسعِينَ اسْمًا". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والذين أطلقوا أنه المسمى كان أصل مقصودهم أن المراد به هو المسمى، وأنه إذا ذُكِرَ الاسم فالإشارة به إلى مسماه، وإذا قال العبد: حَمِدْتُ الله ودَعَوْتُ الله .. فهو لا يريد إلا أنه عبد المسمى بهذا الاسم". "مجموع الفتاوى" (12/ 169).
وقال في الذين قالوا الاسم غير المسمى: "فيقولون: الاسم غير المسمى، وأسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق؛ وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغَلظُوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه وكلام الله غير مخلوق؛ بل هو المتكلم به، وهو المسمي لنفسه بما فيه من الأسماء".
وقال: "والذين قالوا الاسم هو المسمى كثير من المنتسبين إلى السنة: مثل أبي بكر عبد العزيز، واللالكائي، والبغوي صاحب "شرح السنة" وغيرهم؛ وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري اختاره أبو بكر بن فورك وغيره .. وهؤلاء الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى لم يُرِيدُوا بذلك اللَّفظ المُؤَلَّف من الحروف هو نفس الشخص المسمى به؛ فإن هذا لا يقوله عاقل. ولهذا يقال لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال نار احترق لسانه. ومن الناس من يظن أن هذا مُرادهم وَيُشنِّعُ عليهم وهذا غَلَطٌ عليهم؛ بل هؤلاء يقولون: اللفظ هو التسمية، والاسم ليس هو اللفظ؛ بل هو المراد باللفظ؛ فإنك إذا قلت: يا زيد! يا عمر! فليس مرادك دعاء اللفظ؛ بل مرادك دعاء المسمى باللفظ، وذكرت الاسم فصار المراد بالاسم هو المسمى.
وهذا لا ريب فيه إذا أخبر عن الأشياء فَذُكِرت أسماؤها، فقيل:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} ، {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، فليس المراد أن هذا اللفظ هو الرسول، وهو الذي كلمه الله .. فإنما تذكر الأسماء والمراد بها المسميات، وهذا هو مقصود الكلام". "الفتاوى" (6/ 186 - 188) وله رحمه الله "قاعدة في الاسم والمسمى" انظرها في "الفتاوى" (6/ 185 - 212). ونعتذر عن الإطالة وذلك لأهمية المسألة فالخطأ في مسائل الاعتقاد لا ينبغي التنبيه عليه بكلمة بل لا بد من التوضيح الرَّافع للإشكال، القائم على نصوص السنة والقرآن، وكلام أهل العلم والإيمان.
وانظر -للفائدة-: "التبصير" للطبري (108 - 109)، و"اعتقاد الإسماعيلي"(33)، ورسالة السجزي (179)، و"الحجة" للأصبهاني (2/ 162)، ومنهاج السنة" (2/ 593)، و"الصواعق المرسلة" (3/ 938)، و"بدائع الفوائد" (1/ 16 - 20)، و"شرح الطحاوية" (1/ 102).
الثامنة (1): فَسَّرَ عليه الصلاة والسلام الإحسان بالمُرَاقَبَة كَمَا سَلَفَ، فالعَبْدُ يُشَاهِدُ رَبَّهُ بِعيْنِ إيمانه، وأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عليه في جميع أحواله؛ فلا ينحرف، ويتأدَّبُ.
التاسعة: العِبادة إمَّا: قلبيَّة -كالإيمان-، أو بدَنِيَّة -كالإسلام-، ولَمَّا كان الإحسان: هو المُراقبة بالإخلاص فيهما؛ فلا يُظْهِر الإيمانَ رياءً أو خوفًا فيكون منافقًا، ولا يُظهِر أعمال الإسلام لغير الله، فيكون مُرائيًا مُشرِكًا، بل يرى أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عليه يَرَى جميعَ حاله، فالإحسان شرطٌ فيهما، أو كالشَّرط إذْ بدون الإخلاص والمُراقَبة فيهما لا يُقبَلان، قال تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ} [البقرة: 112]، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [لقمان: 22]، {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93] (2).
العاشرة: حُكِيَ عن بعض شُيُوخ الطَّريق أنه ذَكَرَ هذا الكلام يومًا، فقال:"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه". ثمَّ وقف! وهو إشارةٌ صُوفيَّةٌ؛ أي: أنَّكَ إذا أفنيتَ نفسَكَ فَلَم ترها شيئًا شاهَدْتَ ربَّكَ!! لأنها حِجَابٌ دونَهُ، فإذا ألقَى الحِجاب شاهَدَ الجَناب.
ويُشبهُ هذا ما حُكِيَ دُونَهُ عن بعضهم أنه قال: رأيتُ رَبَّ العِزَّة في المَنَام
(1) السابعة مضت ص (124).
(2)
الإحسان ليس شرطًا في الإيمان والإسلام؛ لأن معنى هذا أن الإحسان إذا تخفَفَ تخَلَّفَ الإسلام والإيمان وهذا لا يقول به أحد! وإنما: إن تخلف الإحسان خرج إلى دائرة الإيمان، فإن ارتكب الكبائر خرج من الإيمان إلى آخِر دائِرة وهي الإسلام. نعم؛ الإحسان الذي أراده المؤلف هو: الإخلاص، وهو شرط في قبول العمل، فلا يقبل الله هن الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، صوابًا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أَنَا أغنى الشُرَكَاءِ عَنِ الشَركِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أشرَكَ فيه مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِركَهُ". رواه مسلم [4/ 2289 رقم 2985].
فقلتُ: يا ربِّ! كيفَ الطَّريقُ إليكَ؟ فقال: "خَلِّ نفسَكَ وتعال"(1).
الحادية عشْرة: للساعة شُروطٌ كبيرةٌ أُخرى، منها: طُلُوع الشمس مِن مغْربها، وخُروج الدَّابة، والدَّجال، ويأجوج مأجوج، وكَثْرَةُ الهَرْج، وفَيْضُ المال حتى لا يقبله أحدٌ، وحَسْرُ الفُرات عن جبلٍ مِن ذَهَب، وفيها كُتُب مؤلفةٌ.
ولعله إنما اقتَصرَ في الحديث على أَمَارَتَيْن مِنْهَا تحذيرًا للحاضِرين وغيرهم منها -أعني كثرة اتخاذ السَّراري وبيعهن، والتَّطَاول في البنيان- لاقتضاء الحال ذلك، إذ لعلَّهم كانوا يتعاطَوْنَ شيئًا مِنْ ذَلِك فَزَجَرَهُم.
الثانية عشرة: حاصِلُ ما ذَكَر عليه الصلاة والسلام أنَّ أجزَاءَ الدِّين ثلاثة: "الإسلام": وهو الشَّهادتان، والعِبَادَات الخمس، وتفصيلها التام محله كتب الفقه.
و"الإحسان": وهو المُراقبة والإخلاص، ومَحَلّه التام كتب التصوّف: كـ "القوت"، و"الإحياء" ونحوهما (2).
(1) الدِّين لا يؤخذ بالرؤى والمنامات والإشارات، وإنما هو ما شرعه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤلف في غُنية عن خرافات وخزعبلات المتصوفة.
(2)
القوت هو "قوت القلوب" ومؤلفه هو أبو طالب المكي محمد بن علي الحارثي (ت: 386 هـ) وهو صوفي من السالمية -يبالغون في الإثبات- يقول بالحلول العام، وهو القائل أمام الناس وعلى كرسي التدريس:"ليسَ على المخلوق أضرّ مِن الخالق"! فبدَّعوه وهجروه، وكتابه "القوت" حَشَاهُ بالبدع والخرافات وهو عمدة الغزالي بعده.
انظر: "التاريخ" للخطيب (3/ 89)، و"شرح حديث النزول"(342 - 345)، و"الدرء"(6/ 304) لابن تيمية، و"السير"(16/ 537)، و"الميزان"(1/ 431).
أمَّا "الإحياء" فاقد سماه العلماء "إماتة علوم الدين" وهو مليء بالأحاديث الموضوعة، والكذب على دين الله، وتقرير مذاهب الفلاسفة، ورموز الحلَّاج، وسارَ في كتابه على طريقة الباطنيَّة، وفيه من الماقالات المخالفة لأصل الدِّين شيء كثير، وقد أَحرَقه بعض العلماء في المغرب فأحسنوا، وكتبوا فيه كتابات فأجادوا. انظر: رسالة الطرطوشي =
و"الإيمان" ومُتعلَّقُهُ سِتَّةُ أشياء: الرَّب جل جلاله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر، ومحلّه كْتب "الفَلْسَفَة"! (1)، ولا حاجةَ بنا إليها (2) إلَّا لمناظرةٍ أو رَدٍّ.
= (ت: 530 هـ) في التحذير منه في "السير"(19/ 494 - 496)، وانظر: ص (327 وما بعدها) منه، وقد ذكرتُ شيئًا من مخالفاته في كتابي "إرشاد الحبيب إلى مغالطات عبد الله نجيب"(27، 29 - 37).
ويُغْنِي عن هذين الكتابين كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كتب "السنة" أبواب في الحث على الإخلاص والمراقبة، ولابن أبي الدنيا "الإخلاص"، و"محاسبة النفس"، وفي كتب ابن القيم، وابن رجب في هذه الأبواب غُنيَة وكفاية.
(1)
أَما كتب الفلسفة فليس فيها إلا الشقاء والعناء، والمسلم لا يأخذ عقيدته منها، وقد حذَّر العلماء منها، ولا بأس أن نذكر بعض أقوالهم ونقتصر على بعض علماء الشافعية؛ لأن المؤلف شافعي: قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (ت: 643 هـ) في "فتاواه"(1/ 209 - 210)[وضمن "الرسائل المنيرية" (4/ 35)]: "الفلسفة رأسُ السَّفهِ والانحلال، ومَادَّةُ الحيرة والضلال، ومَثارُ الزيغ والزَّندَقة، ومَن تفلسفَ عَمِيت بَصِيرتهُ عن محاسن الشريعة المُطَهَّرة، المؤيدة بالحجج الظاهرة، والبراهين الباهرة، ومَن تلبَّس بها تعليمًا وتعلمًا قَارَنَهُ الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان".
وقال الحافظ الذهبي -في كلامه على كتب الفلسفة-: "مَا يَنظُرُ فيها مَن يُرْجَى فلاحه، ولا يَركنُ إلى اعتقادها مَن يلوحُ نجاحه، فإن هذا العلم في شِقٍّ وما جاءت به الرسل في شق، وإذا كان الذين قد انتدبوا للرد على الفلاسفة قد حاروا ولحقتهم كسفة، فما الظن بالمردودِ عليهم؟! وما دواء هذه العلومِ وعلمائها والعاملين بها علمًا وعقدًا إلا الحريق والإعدام من الوجود، إذ الدِّينُ مَا زال كامِلًا حتى عُربت هذه الكتب، ونظر فيها المسلمون، فلو أعْدِمت لكان فتحًا مُبينًا" اهـ. "زغل العلم"(44 - 45).
وانظر: "المجموع" للنووي (1/ 52)، و"نقض المنطق"، و"الرد على المنطقيين" لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"السير"(19/ 328 - 329)، و"صون المنطق" للسيوطي الشافعي، و"نقد الطالب لزغل المناصب" لابن طولون (130 - 131)، و"موقف ابن تيمية من آراء الفلاسفة"(128 - 151) للدكتور صالح الغامدي.
(2)
تنبيه: العبارة يظهر لي أنَّ فيها نقصًا، ولعلها من أوهام النسخة المنقول عنها، فالعبارة في "التعيين" (72) -ومنه استفاد المؤلف- هكذا: "
…
والقدر، والعلم بهذه الأشياء الستة هو العلم المسمى بـ "أصول الدين"، فأمَّا ما ضَمَّته إليه متأخرو المتكلمين فموضعه اللائق =
ولابد من لفظٍ في الإيمان عند التمكن، وأَمَّا الكفار:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]، ولا بُدَّ مع توحيد الرب جل جلاله من سَلْبِ ما لا يَليقُ به عنه.
ومن اعتقاد الملائكة: عباد مُكرَمون، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
والكتب المنَزَّلة نؤمن بها ونَعْمَل بها مَا لَمْ يثبت نسخها، والأنبياء والرسل يجب اعتقادهم، وكذا القَدَر ومَن نفاه فأمرُه إلى الله.
ونؤمِنُ بما بعد الموت، ثُم المَحْشَر، ثم الجزاء والحساب، وقد صنَّفَ البيهقي "البعث والنُّشور"، وعبد الحق (1)، وفي كلٍّ مقنع (2).
* * *
= به "كتب الفلسفة"، ولا حاجة بالمسلم إليه إلَّا ليناضل به عن دينه، أو يعرف غثَّ كلام الناس مِن سَمينه". والله أعلم. وفي الأصل:"إليه" وصوبتُها إلى ما بين يديك.
(1)
عبد الحق هو: الإشبيلي الإمام الحافظ (ت: 581 هـ)، وكتابه هو "العاقبة" ويسمى:"الموت والحشر والنشر" وهو مطبوع، وكتاب البيهقي مشهور مطبوع.
(2)
خاتمة الفوائد في هذا الحديث: الحديث ذُكر فيه الحج، وقد فُرضَ في السنة التاسعة -على الصحيح- والنبي صلى الله عليه وسلم حجّ في السنة العاشرة، وقد روى ابن منده -بإسنادٍ صحيح على شرط مسلم- في "الإيمان"(1/ 154 رقم 11، 12) من حديث عمر: "أن رَجُلًا في آخِرِ عُمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث، وآخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بعدَ حَجة الوداع فإنها آخر سفراته، ثم بعدَ قدومه بقليل دون ثلاثةِ أشهر مات عليه السلام، وكأنَّهُ إنما جاءَ بعد إنزال جميع الأحكام لتقرير أمور الدين -التي بَلَّغها مُتَفَرِّقةً- في مَجْلِسٍ واحِدٍ، لتنضَبِطَ. انظر: "الفتح" لابن حجر (1/ 146).