الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
عن أبي عَبْدِ الرَّحمنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُود قالَ: حَدَّثنا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ-: "إِن أَحَدَكمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْما نُطْفَةً (1)، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فيهِ الرّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبعِ كلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ، وشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذي لا إِلَهَ غيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنةِ حتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنها إلَّا ذرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النارِ فَيَدْخُلُها، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبينَها إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُها".
رواهُ البُخاريُّ ومُسْلِم (2).
* * *
(1) لفظة "نطفة" ليست في "البخاري" و"مسلم" وإنما هي من زيادة "أبي عوانة". انظر: "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (11/ 488).
(2)
رواه أحمد (6/ 125 رقم 3624)، والبخاري (4/ 111 رقم 3208، 3332، 6594، 7454)، ومسلم (4/ 2036 رقم 2643)، وأبو داود (5/ 56 رقم 4708)، والترمذي (4/ 15 رقم 2137)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 130 رقم 11182)، وابن ماجه (1/ 29 رقم 76).
الشَّرح:
هذا حَديثٌ عظيم يَتَعلَّقُ بمبتدأ الخَلْق ويهايتهِ، وأحكام القَدَر في المبدأ والمَعَادِ جليلٌ حفيلٌ، ومرجِعُهُ من الكتاب إلى آيات القدر نحو:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3]، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]. ومَرْجِعُهُ مِنَ السُّنَّةِ كحديث "مُحَاجَّه آدم وموسى"(1).
وحديث: "كُلق مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"(2).
ثم الكلام عليه وجوه:
أحدها: في التَّعريف بِراوِيهِ وهو: السَّيدُ الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود الهذلي الكُوفيُّ، أسلَمَ بِمَكَّةَ قديمًا، وهاجَر إلى الحَبَشَة، ثُمَّ إلى المَدينَة، وشَهِدَ بَدْرًا والمَشَاهِدَ كُلَّها، وكانَ كثير الدُّخول عليه، ماتَ بالكوفة، وقيل: بالمدينة بعدَ الثلاثين إمَّا سنة اثنين أو ثلاث (3).
ثانيا: في ألفاظه ومَعَانيه:
معنى: "حَدَّثَنا" أنشَأَ لَنَا خَبَرًا حادِثًا، وهو أَصل فيما يَسْتَعْمِلُهُ المُحَدِّثون مِن قولهم:"ثنا" مِن لفظ الشيخ، وإِمَّا قراءةً عليه، و"أنبأنا" إجازةً (4).
(1) رواه البخاري (4/ 158 رقم 3409)، ومسلم (4/ 2042 رقم 2652) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (2/ 96 رقم 1362، 4945 - 4949، 6217، 6605، 7552)، ومسلم (4/ 2039 رقم 2674) من حديث علي رضي الله عنه.
(3)
انظر ترجمته في: "الإعلام"(2/ 213 - 215) للمؤلف، و"تهذيب الكمال"(16/ 121)، و"السير"(1/ 461).
(4)
في هامش الأصل: "أخبرنا" و"حدَّثنا" واحد، وهو الصحيح من حيث اللغة قاله يحيى بن سعيد، وأمَّا "أنبأنا" فأهل الحديث يُطْلِقُونه على الإجازة والمُنَاولة دونَ القِراءة والسَّمَاع. ذَكَرهُ الخطيب في "الفصل للوصل". " ا. هـ.
قلت: انظر: "المقنع" للمؤلف (1/ 292 وما بعدها).
و"الصَّادِقُ": الآتي بالصدق، وهو الخَبَر المُطَابق.
و"المَصْدُوق": الذي يأتيه غيره بالصدق، فهو "صادِق" في قَوْلِهِ، وفيما يأتيه مِنَ الوَحْي، "مَصْدُوقٌ" أنَّ الله صَدَّقه فيما وعَدَه به، وهذا تأكيد، وعلى هذا القياس: الكاذِبُ والمَكْذُوب.
ومنه قولُ على يومَ النَّهْرَوَان: "واللهِ مَا كَذَبْتُ ولا كَذَبَ مَنْ أخْبَرَني"(1).
والشَّارع صادقٌ فيما أَخْبَر، مَصْدُوق فيما أُخبِر؛ لأنَّ جبريل يُخبِرُهُ، وعكْسُهُ ابن صيَّاد حين قال:"يَأْتِيني صَادِق وكَاذِبٌ"(2)، و"أَرَى عَرشًا على المَاء"(3)، فهو إذن كاذب مَكْذُوب.
ومعنى "يُجْمَعُ": يُضَمّ وتُحْفَظُ مَادةُ خَلْقه وهو الماء الذي علق منه.
و"العَلَقَة": قِطْعَةُ دَمٍ قبلَ أنْ تيبس.
و"المُضْغَة": قطعةُ لَحْم قَدْرَ مَا تُمْضَغُ، كغُرْفَةٍ: مِقدارُ ما يُغرف.
و"الرُّوح": هو المعنى الذي يَحْيَا بهِ الإنسانُ، وهو مِنْ أَمْرِ اللهِ تعالى كَمَا أخبر، وللناس في تحقيقه اختلاف كبير، ولفظُهُ مشتركٌ بين معانٍ (4).
و"الرِّزق": مَا يَتَناوله الإنسان في إقامةِ مُدّته من مأكولٍ ومشرُوبٍ ومَلْبُوس وغير ذلك.
و"الأَجَل": مُدَّة الحياة.
(1) رواه مسلم (2/ 749 رقم 1066/ 157).
(2)
رواه البخاري (2/ 93 رقم 1354)، ومسلم (4/ 2244 رقم 2930) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
رواه مسلم (4/ 2241 رقم 2925) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعدَ مَقالته:"تَرَى عَرشَ إبْليسَ على البَحْرِ".
(4)
انظر: رسالة "الروح" لشيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(4/ 216 - 231).
ثالثها:
قوله "بِكَتْبِ": هو بالباء المُوحَّدة وهو بدلٌ مِن أربع.
و"شْقيّ أو سَعيد": مرفوع، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وهو شقي أو سعيد.
وفي صحيح ابن حِبَّان مِن حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "فَرَغَ اللهُ إلى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ خَمسٍ: مِن رِزْقِهِ، وأجَلِهِ، وعَمَلِهِ، وأَثَرِهِ، ومَضْجَعِهِ"(1). يعني قبرَهُ، فإنَّهُ مضْجَعُهُ على الدوام:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34].
وفي "تجريد الصحاح" لرزين من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "إِذَا وقَعَت النُّطْفَة في الرحِم" الحديث، وفيه:"أَذَكر أَمْ أنثَى، أَشَقيٌّ أمْ سَعِيد، ومَا عُمْرُهُ ومَا رِزْقهُ، ومَا أَثَرُهُ، وَمَا مَصَائِبُهُ، فيقولُ الله ويكتبُ المَلَكُ، فَإِذا ماتَ الجَسدُ دُفِنَ مِن حيثُ أخِذَ ذلِكَ التراب".
والمُراد "بالذِّراع": تمثيل القرْب.
رابعها: لا التِفاتَ إلى ما حُكِيَ عن عمرو بن عبيد -وكان مِن زُهَّاد القَدَريَّة- مِن إنكار الحديث، فهو أقل من هذا! (2).
(1)(14/ 18 رقم 6150)، ورواه أحمد (36/ 54 رقم 21722، 21723)، والطيالسي (2/ 327 رقم 1077)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 218 رقم 312 - 317)، والفريابي في "القدر"(116 رقم 152)، والطبراني في "الأوسط"(3/ 272 رقم 3120)، وفي "مسند الشاميين"(3/ 255 رقم 2201)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 332 رقم 602)، وتمام في "فوائده"(1/ 99 رقم 33)، واللالكائي (4/ 659 رقم 1059)، والبيهقي في "القدر"(152 رقم 90). وهو حديث صحيح صححه الألباني في "ظلال الجنة"(303)، و"صحيح موارد الظّمآن"(2/ 206 رقم 1811).
(2)
روى الخطيب في تاريخه" (12/ 172) بإسناده عن عمرو بن عبيد أنه ذكَر هذا الحديث ثمَّ قال: "لو سَمِعتُ الأعمش يقولُ هذا لكذّبتهُ، ولو سمعتُ زيد بن وهب يقول هذا مَا أجَبته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قَبلتُهُ، ولو سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ هذا لرددتهُ! ولو سَمِعتُ الله تعالى يقول هذا لقَلتُ له: ليسَ على هذا أخَذْتَ ميثاقَنَا"! وله أخبار أخرى قبيحة انظرها في "أخبار عمرو بن عبيد" للإمام الدارقطني.
خامسها: بيَّنَ الخطيب الحافظ في كتاب "الفصل للوصل" أنَّ أوَّل الحديث إلى قوله: "وشقي أو سعيد" وما بعده مِن كلام ابن مسعود، ثمَّ بَرْهَنَ لذلك (1).
سادسها: ظاهِرُ الحَديث أنَّ أعمال الحَسَنَات والسَّيئات أمارَات وليست بِمُوجِبات، وأنَّ العَاقِبة في ذلك للسَّابِقَة.
سابِعُها: قوله "في بطنِ أُمِّه أربَعينَ يومًا" يُريد: نُطْفَةً، قال بعضُ العُلماء: ولِذلكَ جُعِلَ على المُتَوَفى عنها أربعة أشهُرٍ وعَشْرًا، لأنَّ الأربعة لاعتِبار الخِلْقَة وعشر احتياط، ولغيرها ثلاث حِيَض لأنَّ عليها رقيبًا، وأُبيح لها أن تتزيَّن وتعايظ (2) زوجها.
وجاء تفسيره عن ابن مسعود: "أنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وقَعَت في الرَّحِم وأرَادَ اللهُ خلق بشرٍ فيها، طارت في بَشرَة المرأةِ تحتَ كُلِّ ظُفْرٍ وشَعْر ثُمَّ تمكُثُ أربَعينَ ليلةً ثم يَنْزِلُ مَا في الرَّحِم فذلكَ جَمْعُها"(3).
والذي في الحَديث الذي يجمع خلقه أربعين يومًا بخلاف تفسيره أنه يُجْمَع بعدَ الأربعين، وسيأتي إيضاحُهُ.
ثامِنُها: جاءَ في رِوَايةٍ بحذف "وعمله" والمُراد يكتبان أربعة أشياء من حاله: "رزقه" قِلَّةً وكَثْرَةً، وحلالًا وحَرامًا، ومِن أي جهة هوَ ونحو ذلك، و"أجله" طولًا وقصرًا، و"عمله" صالحًا وطالحًا، و"شقي" في الآخرة أو "سعيد".
(1) لم أقف على كلام الخطيب في كتابه "الفصل للوصل المدرج في النقل".
(2)
كذا بالأصل، ولعلها:"تعايض" أي: تطلب العوض عن زوجها المتوفى بزوج آخر.
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(6/ 167 رقم 6569)، وابن بطة في "الإبانة"(2/ 35 رقم 1419، 1426 القدر)، وذكره في "المفهم"(6/ 650)، و"فتح الباري"(11/ 480).
ويجوز أن يكون المُراد ذِكرَ جُمْلَةِ مَا يُؤمران به، لا أَنَّ كُلَّ شخص يؤمر فيه بهؤلاء الأربعة، وقد أسلفنا رواية "وأثره" ويكون ذلك على كلِّ شخصٍ.
تاسعها: قد أسلفنا الكلام على معنى "الجَمْع"؛ أن المَنْيَ يَقَعُ في الرَّحِم حينَ انتزاعه بالقُوَّة الشَّهْوَانيَّة الدافعة متفرقًا، فيجمعه الله في مَحَلِّ الوِلادَة مِن الرَّحِم في هذه المُدة -كَمَا أسْلَفنَا عن ابن مسعود بما فيه:"ثم يكونُ عَلَقَةً في مِثل ذلك" و"ذلك" الأول إشارة إلى المحَل الذي اجتمعتْ فيه النُّطفة وصارت عَلَقةً، و"ذلك" الثاني إِشَارَةً إلى الزَّمان الذي هو الأربعون.
وكذا القول في قوله: "ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يُرسل الملك المُوَكَّل بالرَّحِم فينفُخُ فيه الرُّوح" كما قال في حديث أنس: "إنَّ الله قَدْ وَكَّلَ بالرحِمِ مَلَكًا"(1) وظَاهِرُ هذا السِّياق أنَّ المَلَك عندَ مَجيئه ينفخُ الرُّوحَ في المُضغَةِ وليسَ الأمر كذلك؛ إنما ينفخُ فيها بعدَ أن تتشَكَّل تلكَ المُضْغَة بشكل ابن آدم؛ أي: تَتَصَوَّر بصورته، كما قال تعالى:{فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14]، وكَمَا ذَكَرَ في الآيةِ الأُخرى:{مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، أي: مُصَوَّرة وغير مُصَوَّرة، أي: السِّقط.
وهذا التخليق والتَّصوير يكون في مُدَّةِ أربعين يومًا وحينئذٍ يُنفخ فيه الرُّوح، وهو المَعْنِيُّ بقوله تعالى {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] (2).
العاشِر: قدَّر النفخ هنا بعدَ مائة وعشرين يومًا، وصحَّ في حديث آخر بعدَ الأربعين أو اثنين وأربعين يومًا؟!
فيجمَعُ بينهما: بأنَّ ذلكَ راجِعٌ إلى اختلاف الأَجِنَّة، أو بأن المَلَك ملازمة
(1) رواه البخاري (1/ 70 رقم 318)، ومسلم (4/ 2038 رقم 2646).
(2)
هذه المسألة مستفادة من "المفهم" للقرطبي (6/ 650 - 652).
ومراعاة لحال النطفة من الأربعين إلى تمام المائة والعِشرين، وقد أوضَحتُ الكلام عليه في "شرح صحيح البخاري" فراجِعْهُ منه تجد ما يشفي العليل.
وادَّعَى القاضي عياض أنه: "لم يُختلف في أنَّ نَفْخَ الرُّوح فيه إنما يكون بعد مائة وعِشرين يومًا، وذلك تَمَامُ أربعة أشهر، ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمُشَاهَدَةِ، وعليه يُعَوَّلُ فيما يُحتاج إليه من الأحكام والاستلحَاق عندَ التَّنَازع، ووجُوب النَّفَقات على حَمْل المُطَلَّقات، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف.
وقد قيل: إنه الحِكمَة في عِدَّة المرأةِ مِن الوَفاة بأربعة أشهر وعشر -كما مرَّ- وبعدَ الدُّخول في الخامسة تحقق براءة الرَّحِم ببلوغ هذه المُدَّة إذا لم يَظْهَر حمل" (1).
ونَفخُ المَلَك في الصُّورة سبب يخلق الله فيها عِندَهُ الرُّوح والحياة، لأنَّ النَّفخَ المُتَعَارف إنَّمَا هوَ إخراجُ ريح مِن النَّافِخ يتَّصِلُ بالمَنْفُوخ فيه، ولا يَلْزَم منهُ عقلًا ولا عادةً في حقِّنا تأثيرٌ في المَنْفُوخ فيه، وإنْ قُدِّرَ حُدوثُ شيء عِنْدَ ذلِكَ النَّفخ، فذلكَ بإحداثِ الله لا بالنَّفخ، وغَايةُ النَّفخ: أن يكونَ مُغَذِّيًا عاديًا لا موجِبًا عَقليًّا، وكذلك القولُ في الأسباب المُعْتَادة؛ فليتأمَّل هذا الأصل، ويتمسك به ليَنْجو مِن مذاهب أهل الضَّلال (2).
وقَد ظَهَر سِرُّ هذا الترتيب، وإن كانت القدرة صالحة لإيجاده وجميع المخلوقات في أَسرع لحظة وأسرع آنٍ، لأنَّهُ كان كذلك في سابقِ عِلْمِهِ.
الحادي عشَر: ظاهِرُ قوله: "ويُؤْمَرُ بأرْبعِ كَلِمَاتٍ" الأمرُ بِكِتَابَتِها ابتداءً،
(1)"الإكمال"(8/ 123 - 124) بتصرف يسير.
(2)
قارن "المفهم"(6/ 651).
والمُراد أنه يُؤْمَرُ بذلك بعدَ أن يسأل عنه فيقول: يا ربَ! ما الرِّزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ وشقيٌّ أو سعيد؟ كما تَضَمَّنَتْهُ الأحاديث المذكورة مع هذا الحديث.
وفي "الصحيح" مِن طريق ابن مسعود (1)، وابن عمر (2) أنَّ النُّطفةَ إذا استَقرَّت في الرَّحِم أَخَذَها المَلَك فقال:"أي ربِّ! ذَكَر أم أنثى؟ شقيٌّ أَمْ سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ بأي أرض تموت؟ فيقال له: انطَلِق إلى أم الكِتَاب؛ فإنَّكَ تجد قصَّةَ هذه النُّطفَة، فينطَلِق فَيَجِد قِصَّتها في أم الكتاب؛ فتلحق، فتأكل رزقها، وتطأ أثرها، فإذا جاءَ أجلها قُبِضَتْ فَدُفِنت في المَكان الذي قُدِّرَ لها".
زادَ في رِوايةٍ مِن حديث ابن مسعود: "أنَّ المَلَك يقول: يا ربِّ! مخَلَّقةً أو غيرَ مُخَلَّقةٍ، فإن كانت (3) غيرَ مخَلَّقةٍ قَذَفَتها الأرحام دَمًا، وإن قيلَ: مُخَلَّقةً قال: أي ربِّ ذَكر أم أنثى"(4) إلى آخر ما سَلَف.
فالمُراد بالاستقرار: صَيْرُورة النُّطفة عَلَقة ومُضغة، لأنَّ النّطفةَ قبلَ ذلِكَ غير مجْتَمعةٍ كما سَلَف، فإذا اجتمعت وصارت علقةً أو مُضغةً، أمْكَنَ حينئذٍ أنْ
(1) ليس في الصحيح بهذا اللفظ، وقد رواه الطبري (17/ 90)، وابن أبي حاتم (8/ 2474 رقم 13781). وانظر:"جامع العلوم"(1/ 160)، و"الفتح" الثاني (11/ 491). وقد ذكره القرطبي في "المفهم"(6/ 651 - 652) ولم يعزه إلى "الصحيح" ومنه استفاد المؤلف هذه المسألة والتي تليها، إلا أن يريد أن حكم الحديث هو الصحة.
(2)
رواه ابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 148 رقم 188 - 192)، والفريابي في "القدر"(110 رقم 141، 142)، وابن حبان (14/ 54 رقم 6178)، وأبو يعلى (10/ 154 رقم 5775)، والآجري في "الشريعة"(2/ 783 رقم 363)، وابن بطة في "الإبانة"(2/ 29 رقم 1410 القدر)، واللالكائي (4/ 656 رقم 1050، 1051) بنحوه من طرق عن ابن عمر رضي الله عنه رفعه، وهو صحيح، صححه الألباني في "ظلال الجنة"(1/ 81 رقم 182).
(3)
في الأصل: "كان" والتصويب من مصادر التخريج، و"المفهم".
(4)
تقدَّم تخريجه في الذي قبله.
تُؤْخَذَ بالكَفِّ، وسَمَّاهَا نُطْفَةً في حالِ كونها عَلَقةً أو مُضغةً باسم مَبْدَئِها.
الثاني عشر: يُسْتَفَادُ مِمَّا ذَكرنا أنَّ المرأةَ إذا ألقَت نطفة لم يتَعَلَّق بها حُكْم، بخلاف العَلَقة والمُضْغَة؛ فإنه تنقضي بوضعه العِدَّةُ، وتصيرُ به أمّ ولد عندَ مالكٍ وأصحابه خلافًا للشَّافعي حيث اعتبر التخطيط؛ لأنهُ حينئذ يُسَمَّى ولَدًا، وإلَّا فيلزم ثبوتها بالنُّطفة (1).
الثالث عشر: قوله: "إنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَل أهل الجنَّةِ
…
" إلى آخرِه.
ظاهِرُهُ صحّة العمل، ومنعُ القَدَر السَّالف الذي يظهر عندَ الخاتِمة. ومعنى "فيَسْبِقُ عليه الكتاب" أي: حكمه الذي كتب في بطن أُمِّه مُسْتَنِدًا إلى سابِقِ عِلمِه القديم فيه "فيعمَلُ بعَمَلِ أهل النار فَيَدخُلُها" أي: بحُكْمِ القَدَر الجاري عليه المستند إلى خلقِ الدَّواعي والصَّوارف في قلْبهِ إلى ما يَصدر عنه مِن أفعالِ الخير والشَّر، فمن سبَقَت له السَّعادةُ صَرَفَ اللهُ قَلبَهُ إلى خير يُخْتَمُ (2) له به، ومَن سبقَت له الشَّقاوة عكسُهُ (3).
وفي بعضِ روايات هذا الحديث: "وإنما الأعمَال بالخَواتيم"(4).
وفي حديث آخر: "اعمَلُوا فكُلّ مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السعادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَل أهلِ السَّعادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهل الشَّقاوة فَيُيَسَّرُ لِعَمَل أهلِ الشَّقَاوة"(5).
(1) انظر: "المفهم"(6/ 652)، و"الفتح"(11/ 497).
(2)
في الأصل: "يُحكَم" والتصويب من "التعيين"(87)، ويدل عليه سياق الكلام.
(3)
انظر: "التعيين"(87).
(4)
رواه البخاري (8/ 103 رقم 6493، 6607) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاري (2/ 96 رقم 1362)، ومسلم (4/ 2039 رقم 2647) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقلوب الخلق يُصَرِّفها كيف يشاء، فالمُوَفَّق من بَدَا عمله بالسَّعادة وخُتِمَ بها، والمَخْذُول عكسه، وكذا من بدا بالخَيْر وخُتِمَ بالشَّر لا عكسه. وأهل الطريق في كُل حالهم يخافون سوء الخاتِمَة -نجانا الله منها- (1).
وتصرُّف الله في خلقهِ ظاهِرًا: إمّا بِخرْقِ العادات كالمُعْجِزة، وإِمَّا بِنَصبِ الأدلة والأمارة كالأحكام التَّكليفية؛ أو باطنًا: إما بتقدير الأسباب نحو: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] وشِبهه.
أو بِخَلق الدَّواعي والصَّوارف نحو: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} [الأنعام: 110]، {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)} [التوبة: 127]، "يا مُصَرِّفَ القُلوبِ صَرِّفْ قلوبَنَا على طَاعَتِكَ"(2).
وفي الحديث إشارةٌ إلى تعاطي الأسباب للسَّعادة والشَّقاوة، وبها يظهر ما جُبِلَ عليه مِن الخير والشَّر:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ثمَّ لا يَنْبَغي له مع ذلك أن يعجب بها خوف احتِبَاطها، ومن لُطْفِ الله تعالى أنَّ انقلابَ الناس مِنَ الخَيْر إلى الشَّر نَادِرٌ، والكثيرُ عكسه "إنَّ رحمَتي سَبَقَت غَضبِي"(3).
خاتِمَة: الكافر والعاصي يختلفان في التَّخليد وغيره، فالكافر مخلدٌ في النَّار أبدًا، والعاصي المُوَحِّدُ لا يُخَلدُ، وأَمرُهُ في التَّعذيب إلى رَبِّه.
(1) قال الإمام ابن القيم: "ولقدْ قَطَعَ خوفُ الخَاتِمَة ظُهورَ المتَّقين". "الجواب الكافي"(104).
(2)
روه مسلم (4/ 2045 رقم 2654) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وهذه الفائدة قارنها بـ "التَّعيين"(87، 90).
(3)
رواه البخاري (9/ 125 رقم 7422، 7453، 7553، 7554)، ومسلم (4/ 2107 رقم 2751) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ثمَّ الحديث دَالٌّ على إثبات القدر كما سلف.
وأنَّ التَّوبة هادِمةٌ لِمَا سَلَف.
وأنَّ مَن ماتَ على شيءٍ حُكِمَ له بهِ، فَجَميعُ الواقِعات بِقضائهِ وقَدَرهِ خيرها وشرِّها، حلوها ومُرِّها، نَفْعِهَا وَضُرِّها، إِيمانها وكُفْرِها، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] (1).
* * *
(1) فائدة: انظر في الجمع بين ما جاء في رواية ابن مسعود لهذا الحديث وبين رواية حذيفة بن أسيد في "مسلم"[4/ 2037 رقم 2645]"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 238 - 242).