الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديثُ الثَّامِنُ والعِشْرُونَ
عن أبي نَجِيحٍ العِرْبَاضِ رضي الله عنه؛ قال: وَعَظَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ وَذَرَفتْ مِنهَا العُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّع؛ فَأَوْصِنَا! قال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، والسَّمْعِ والطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيكمْ عَبْدٌ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ".
رواه أبو دَاودَ، والتِّرمِذِيُّ (1).
(1) رواه أبو داود (5/ 12 رقم 4607)، والترمذي (4/ 408 رقم 2676)، وأحمد (28/ 375 رقم 17145 وانظر 17142)، وابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 56 رقم 32، 57)، وحرب في "مسأئله عن أحمد"(394)، والمروزي في "السنة"(87 رقم 70، 71)، وابن حبان في "صحيحه"(1/ 178 رقم 5)، والآجري في "الشريعة"(1/ 400 رقم 86 - 89)، وفي "الأربعين"(33 - 34)، وابن بطة في "الإبانة"(1/ 305 - 307 رقم 142 ط معطي)، وابن أبي زمنين في "أصول السنة"(43 رقم 5)، والحاكم في "مستدركه"(1/ 97)، وفي "المدخل"(79 - 81) وتمام في "فوائده"(1/ 120 - 121 رقم 64 ترتيب)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 220)، (10/ 114)، وفي "معرفة الصحابة"(4/ 2235 رقم 0304)، والداني في "الرسالة الوافية"(259 رقم 198)، و"الفتن"(2/ 373 رقم 123، 124)، و"المكتفى"(199)، والبيهقي في "الكبرى"(10/ 114)، و"دلائل النبوة"(6/ 541)، و"مناقب الشافعي"(1/ 10)، و"الاعتقاد"(301)، و"المدخل"(1/ 53 رقم 50، 51)، وابن عبد البر في "الجامع"(2/ 1163 رقم 3523)، و"التمهيد"(21/ 278)، والهروي في "ذم الكلام"(4/ 20 رقم 596) كلهم من طريق ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن السلمي وحجر الكلاعي عن العرباض.=
وقال: "حديثٌ حَسَنٌ".
* * *
الكلامُ عليه مِن وُجُوهٍ:
أحَدُهَا: في التعريف بِرَاوِيهِ:
وهو مِن الأَفْرَاد، وهوَ: بِكَسْرِ العَيْن، ووالِدُهُ: سَارِيَة سُلَمِي، حِمْصِيٌّ بَكَّاءٌ، صُفِّيٌّ (1)، مات في فتنة ابن الزبير، ويقال: سنة خمس وسبعين، وفي الصحابة آخر صحابي كنيته مثل كنية العرباض هذا، وهو عمرو بن عبسة، وفي التابعين: أبو نجيح المَكِّيُّ؛ لا ثالث لهما في "الكتب الستة"(2).
فائدة: قال غُلَامُ ثَعْلَب: "العِرْبَاضُ": الطَّويلُ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرِهِم (3)، و"الجلد": المخَاصِمُ مِن الناس، وهو مَدْحٌ.
و"السارية": الأسطوانة.
= والحديث صحَّحه الترمذي، والحاكم، والهروي في "ذم الكلام"(4/ 37)، وصحَّحه أبو نعيم كما في "جامع العلوم والحكم"(2/ 109)، وابن عبد البر كما في "الجامع"، وشيخ الإسلام كما في "الفتاوى"(4/ 399)، والذهبي في "السير"(17/ 483) وفي تعليقه على "المستدرك"، وابن القيم في "إعلام الموقعين"(4/ 140)، وابن حجر في "موافقة الخبر الخير"(1/ 137)، والألباني في "الإرواء"(8/ 107)، و"الصحيحة"(2/ 647 رقم 937). وللحديث طرق أُخرى وشواهد يطول الكلام عليها.
تنبيه: في المطبوع من "سنن الترمذي" قال: "هذا حديث حسنٌ صحيح"، وذكره النووي كذلك في "رياض الصالحين"(87، 315 رقم 157، 700).
(1)
يعني أنَّه من أهل الصُّفَّة، وهم من فقراء الصحابة رضي الله عنه. انظر:"الاستيعاب"(3/ 166)، و"الأربعون الطائية"(105)، و"الفرقان" لابن تيمية (129 - 130).
(2)
انظر: "تهذيب الكمال"(34/ 341)، و"التهذيب"(4/ 597)، و"التقريب"(1214).
(3)
ويطلق على الضخم العظيم، وعلى الغليظ الشديد. انظر:"تهذيب اللغة"(3/ 328).
ثانيها: "الوعظ": النصح، والتذكير بالعواقب، تقول: وعَظْته وعْظًا وعِظَةً واتَّعَظَ: قَبِلَ الموعظة.
ومعنى: "وجِلَت": خافت، ومنه:{وَقُلُوُبهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، وكأنه كان مقام تخويف ووعيد.
وفي قوله: "مَوْعِظَةً بَلِيغَةً" أي: بلغت الثناء، وأَثَّرَت في قُلُوبنا وَجَلًا، وفي أعيننا تذارفًا.
و"ذَرَفَت" -بالذال المعجمة، ثم راء-: سَالَت بالدموع (1).
وجاء في بعض طُرُقهِ: "إنَّ هذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّع؛ فَمَاذا تَعْهدُ إِلَيْنَا؟! قال: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضَاءِ لَيْلُها كنَهارِها، لَا يَزِيغُ عَنْها إلَّا هَالِكٌ". وقال: "فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي
…
" (2) إلى آخره.
(1) قال الإمام الآجري في "أربعينه"(36 - 37) في تعليقه على قوله رضي الله عنه: "ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب" قال: "فمَيِّزوا هذا الكلام، لم يقُل: صَرَخنَا مِن مَوْعِظةٍ ولا زعقنا [ذُعِرنا]، ولا طرقنا [ضَرَبْنا] على رؤوسنا، ولَا ضَرَبنَا على صُدُورِنا، ولا زَفَنَّا ولا رَقَصنَا كما فعلَ كثيرٌ مِن الجُهَّال، يَصرُخُون عند المواعظِ، ويزعقون ويتغَاشَوْن، وهذا كُلّهُ مِن الشيطان يَلْعَبُ بهم، وهذا كله بدعةٌ وضلالة. ويتقال لمن فعل هذا: اعلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصدقُ الناس موعِظةً، وأنصحُ الناس لأُمَّتِهِ، وأرقُّ الناسِ قَلْبًا، وأصحابهُ أرَقُّ الناس قلوبًا، وخير الناس ممن جاءَ بعدَهم، ولا يَشُك في هذا عاقِل، ما صَرخُوا عند موعظتهِ، ولا زعقوا، ولا رقصوا .. ولو كان هذا صحيحًا لكانوا أحقَّ الناس بهذا أن يفعلوهُ بينَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهُ بدعَةٌ وضَلالَةٌ وبَاطِلٌ ومُنكَرٌ، فاعلم ذلك" اهـ. وما بين المعقوفات مني. وانظر مثل قول الآجري في "الأربعون الطائية"(106).
(2)
رواه ابن ماجة (1/ 16 رقم 43)، وابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 66 رقم 48، 49)، والطبراني في "الكبير"(18/ 247 رقم 619، 642)، والآجري في "الشريعة"(1/ 403 رقم 88)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 96)، و"المدخل"(81)، وابن عبد البر في "الجامع"(2/ 1163 رقم 2303) وهو حديث صحيح كما تقدَّم.
"السُّنَّة": الطَّريقةُ القَوِيمَةُ التي تَجْرِي على مَجْرَى السّنن، وهي السبيل الواضح، ومنه: سن الماء (1) من السيل، وهي في الشريعة كذلك لم يعدل بها عنها، وهي مستعملة في عربية الجاهلية.
قال ذو الإصبع العدواني: "ومنهم من يحسن للناس بالسنة والفرض، والفرض ما تأصَّل التزامه للخلق. كأنه قطع عليهم التردد، مأخوذ من قرض؛ أي: قطع، وإليه يرجع التقدير؛ لأن فاقد زيد قطع عما كان مشتركًا معه، وجعل العلماء السُّنة فيما أرشدوا إلى فعله طالِبًا للثواب، وكلاهما سنة؛ فخصصوه بها اصطلاحًا أرادوا به التمييز بين المعاني"(2).
قال ابن العربي: "لم أر لهذا الاصطلاح وجهًا إلَّا في حديث أُمِّ حَبيبةَ تَرْوِيه: "مَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكعَةً مِنَ السُّنَّةِ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ" (3) "(4).
و"النَّواجِذ" -بالذال المعجمة-: الأنياب، وقيل: آخر الأضراس الَّذي يدل بيانها على الحكم؛ أي: عضوا عليها بجميع الفم، ولا يكون تناولها نهشًا، وهو الأخذ بأطراف الأسنان، وهو كناية عن شِدَّةِ التَّمَسُّكِ بها، لأنَّ النواجِذَ مُتَحَدِّدة، فإذا عَضَّت على شيء نَشِبَتْ فيه فلا يَتَخَلَّصُ، ولذلك يقال: هذا الشيء انعقدت عليه الخناصر، وتُلْوَى عليه الأنامل.
قال الشاعر:
حَنَانيكَ يا ابن الأكرَمين فَلَمْ تَدَعْ
…
[لَنَا أَمَلًا](5) تُلوَى عليهِ الأَنَامِلُ
(1) في الأصل: "المار"!
(2)
"عارضة الأحوذي"(10/ 145).
(3)
رواه مسلم (1/ 502 رقم 728). وانظر: "البدر المنير" للمؤلف (4/ 283 - 286).
(4)
"عارضة الأحوذي"(10/ 145 - 146).
(5)
في الأصل: "له البلاء"! والمثبت من "التعيين"(216).
و"العَضُّ" كله بالضاد إلَّا عظ الزمان (1).
ثالثها: أخبر الشارع أصحابَهُ في هذا الحديث بما يكونُ مِن الاختلاف بَعْدَهُ وغَلَبَةِ المُنْكَر، وقد كان عالمًا به جُمْلَةً وتَفْصِيلًا، ولم يُبيِّنهُ لِكُلِّ أحدٍ وإنما كان يُحَذِّرُ منه على العُموم، ثم يُلْقِي التفصيل إلى الآحاد كحذيفة وأبي هريرة، فلقد كان لَهُمَا منه محلٌّ كريمٌ، ومَنْزِلَة قريبة، وهي إِحدَى مُعجزاته.
رابعها: المراد بـ "المهديين": الذين شملهم الهدى، وهم الأربعة -بالإجماع-: الصِّدِّيق، والفاروق، وعثمان، وعلي -رضوان الله عليهم، وعلى سائر الصحابة أجمعين-.
و"الرَّاشِدُ": مَن أَتَى بالرُّشدِ واتَّصَفَ به.
و"المهدي": الَّذي هداه الله لأقوَم الطُّرق.
و"الهدى": الهيئة والسيرة والطريقة، وهم الذين أنفَذَ الله فيهم وعدَه، وانتهى حده في قوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور: 55] الآية.
وصَحَّ أنهُ قال: "اقْتَدُوا باللَّذَيْن مِنْ بَعْدِي: أبي بكرَ وعُمَرَ"(2) فَخَصَّ من الأربعة اثنين.
(1) ينظر: "لسان العرب" مادة: عضض، وعظظ (7/ 188، 447).
(2)
رواه أحمد (38/ 280 رقم 23245)، وفي "فضائل الصحابة"(1/ 230، 406 رقم 198، 478)، والترمذي (6/ 43 رقم 3662)، وابن ماجة (1/ 37 رقم 97)، وابن أبي عاصم في "السنة"(2/ 774 رقم 1182)، والحميدي (1/ 214 رقم 449)، والبزار (7/ 248 رقم 2827)، وابن سعد في "الطبقات"(2/ 334)، والحاكم (3/ 75) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
والحديث صححه الألباني في "الصحيحة"(3/ 233 رقم 1233).
وقال لتلك المرأة السائلة -وقد قالت: إن لم أَجِدْكَ؟ -: "تَجِدِين أَبَا بَكْرٍ"(1) فَخَصَّهُ مِن اثنين، فهذا خُصوصُ خُصوصِ الخصوصِ.
وَأَمْرُهُ بالثَّبَات على سُنَّتِهِم لأَمْرَيْنِ: التَّقليد لمن عَجَزَ عن النَّظَرِ، والتَّرجيح عندَ اختلافِ الصحابة، فَيُقدَّم الحديث الَّذي فيه الخلفاء الصديق والفاروق، وإلى هذه النزعة كان يذهب مالك، وقد نبه عليها في "موطئه"(2). واللام عند أهل السنة هي للعهد.
و"الخلفاء الراشدون": هم الأربعة بعده عليه السلام بدليل: "اقتَدُوا باللَّذَيْن مِنْ بَعْدِي" كما قَرَّزنَا، وقالت المعتزلة الشيعة: اللام لاستغراق الوصف؛ أي: كل من اتصف بالرشد والهداية من الخلفاء بعدي؛ فعليكم بسنته، وإنما قالوا ذلك لأنَّهم يَدَّعُونَ نَفيَ ذلك عنهم، لتقدمهم على عَلِيٍّ، ووضعهم الخلافة في غير مَن وَضَعَ الله فيه النُّبُوَّة، وهم بنو هاشم [بزَعْمِهِم](3)، والنُّصُوصُ والإِجمَاعُ يَرُدُّهُ.
خامِسُهَا: "البدعة" لغة: ما كان خارجًا على غير مِثالٍ سَبَق.
وشرعًا: مَا أُحْدِث على خِلَافِ أَمْرِ الشَّارع ودليله.
والمُحْدَث قسمان: مَا ليسَ له أصلٌ إلَّا الشُّهرة، والعمل بمقتضى الإرادة فهو باطل قطعًا.
ومُحْدَثٌ بِحَمْلِ النَّظِيرِ على النظير؛ فهذه سُنَّةُ الخلفاء والأئمة الفُضَلَاء، وليس المحْدَث والبدعة مذمومًا للفظ "محدث" و"بدعة" إلَّا لِمَعنًى،
(1) رواه البخاري (5/ 5 رقم 3659) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(2)
قاله ابن العربي في "عارضة الأحوذي"(10/ 147).
(3)
في الأصل: "بن عمهم". وهو تحريف، والتصويب من "التعيين"(216) والسياق.
قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] وقال عمر رضي الله عنه: "نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ"(1). وإِنَّمَا يُذَمُّ مِن البدعة: ما خَالَفَ السُّنَّةَ؛ ومِن المحدث: مَا دَعَا إلى ضلالة.
فمُرادُ الحديثِ: كُلُّ بِدعَةٍ لا يُسَاعِدُها دَلِيلٌ شَرْعِي، لأَنَّ الحَقَّ فيما جاء به؛ فمَا لَا يَرْجِعُ إليه بوجهٍ يكونُ ضلالة، إذ ليسَ بعدَ الحَقِّ إلَّا الضَّلالُ.
قاعدة: كل حُكْمٍ مَنَعَهُ الشَّارعُ، أو أَجَازَهُ فَحُكْمُهُ وَاضِحٌ، وإنْ أجازَهُ مرَّةً ومَنَعَهُ أُخْرَى فأحدهما ناسِخٌ للأول. وإن لم يَرِدْ مَنعٌ ولا إجازة، ولا يمكن رده إليه بوجه، فهي المسألة المشهورة، وقد يقال: يرجع فيه إلى المصلحة فما وافقها عمل به وما خالفها ترك.
سادسها: قوله: "وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيكُمْ عَبْدٌ" قال العلماء: العبدُ لا يكونُ واليًا، ولكن الشارع - صلوات الله وسلامه عليه - ضَرَبَ بهِ المثل تَقْدِيرًا، وإن لم يكن كقوله:"مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا، وَلَوْ كمِفْحَصِ قَطَاةٍ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ"(2) ولا يكون مفحص القطاة مسجدًا، ولكن أمثالٌ يُؤْتَى بها مثل هذا الَّذي عندنا أنَّه عليه الصلاة والسلام أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله، حتَّى توضع الولاية في العبد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا تغليبًا لأَهْوَنِ الضَّرَرَيْن، وهو الصبرُ على وِلَايةِ مَن لا تَجُوزُ وِلَايَتُهُ، لِئَلَّا يغيِّر ذلك فيخرج
(1) رواه البخاري (3/ 45 رقم 2010).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنَّف"(3/ 88 رقم 3174)، وابن حبان (4/ 490 رقم 1610)، والبزار (9/ 412 رقم 4016، 4017)، والطبراني في "الصغير"(2/ 275 رقم 1159)، والطيالسي (1/ 369 رقم 463)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(4/ 209 رقم 1549 - 1552)، والقضاعي (1/ 291 رقم 479)، والبيهقي في "الكبرى"(2/ 437) عن أبي ذر رضي الله عنه.
وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1/ 227 رقم 269).
منه إلى فتنةٍ عَمياء صمَّاء، لا دواء لها ولا خَلَاصَ منها، وقد ذَكَرَ في رواية: تعدِّي الوُلاةِ لِظُلْمِهِم، فقال:"اسمَعُوا وَأَطِيعُوا؛ مَا أَقَامُوا فيكُم كِتَابَ الله"(1).
سابعًا: في فوائده فيه:
منها: استحبابُ مَوْعِظة الرجل أصحابه؛ لينفعهم في دينهم ودنياهم.
وفيه: إبلاع الإمامِ في الموعظةِ لإِسرَاعِ الإجابةِ، وفي التنزيل:{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] و"كانَ - عليه أفضل الصلاة والسلام - إِذَا خَطَبَ: احمَرَّت عَيْنَاهُ، وانتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يقول: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ"(2).
وفيه: جَوَازُ الحُكْم بالقرَائِن؛ لأنهم إِنَّما فَهِمُوا تَوْدِيعَهُ إِيَّاهُم بقرينةِ إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة.
وفيه: استحبابُ [استدعاءِ](3) الوصِيَّةِ والوعظِ مِن أهلِهِمَا، واغتِنَامُ أوقاتِ أهل الخيرِ والدِّينِ قَبْلَ الفَوْت.
وقوله: "أوصيكم بتقوى الله" جمعَ في ذلِكَ كل ما يحتاج إليه؛ لأَنَّهُ سَبَقَ أنَّ التَّقوَى: امتِثَالُ المأموراتِ، واجتِنَابُ المحظُورات، وتكاليف الشرع ليست إلَّا بذلك.
وقوله: "والسمع والطاعة
…
" إلى آخره، هو عطف خَاصٍّ على عَامٍّ؛ إِذْ قد اشتَمَلَتِ الوَصِيَّةُ بالتقوى على السمع والطاعة، والعرب تعطِفُ الخاصَّ
(1) رواه مسلم (3/ 1468 رقم 1838) من حديث أم الحصين رضي الله عنها.
وانظر: "مسند الإمام أحمد"(27/ 209 رقم 16649).
(2)
رواه مسلم (2/ 592 رقم 867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(3)
في الأصل: "استدعى". والمثبت من "التعيين"(214) وهو الصواب.
على العام نحو: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68].
وتعكس نحو: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77]، وقوله:{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200].
وقوله: "فَإِنَّهُ مَن يَعِشْ مِنْكُمْ
…
" إلى آخره، الظَّاهِرُ أنَّ هذا بِوَحْيٍ أُوحِيَ إليه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام كُشِفَ له عَمَّا يكون إلى أن يدخل أهلُ الجَنَّةِ الجنّة، وأهل النار النار، كما صح في حديث أبي سعيد وغيره (1).
ويجوز أن يكون بنظر واستدلال، فإن اختلاف المقاصد والشهوات باختلاف الآراء والمقالات، ويجوز أن يكون بقياس أُمَّتِهِ على أُمَمِ الأنبياء السابقين بدليل حديث:"إِنَّها لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ إلا كانَ بَعْدَها اخْتِلَافٌ"(2) أو كما قال.
وقوله: "وَإِيَّاكُم ومُحْدَثَاتِ الأُمُور" أي: احذروا الأخذَ بها، فإنها بدعة، وهو منصوب بفعل مضمر، أي: إياكم، باعدوا محدثات الأمور واتقوا.
والمراد: مَا أُحدِث غير راجع إلى أصل -كما سلف- أو دليل شرعي، واتباع الخلفاء راجع إلى أصل (3) الشرع، فحينئذ الحديثُ عامٌّ أُريدَ به الخَاصُّ، وكذا قوله:"عليكم بِسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِين" عامٌّ أُرِيدَ بهِ الخَاصُّ، إذْ لَو فُرِضَ خَلِيفَةٌ راشِدٌ في عامَّةِ أُمُورِهِ سَنَّ سنَّةً لا يعضُدُها دليلٌ شرْعي لَمَا جازَ اتِّباعه، لا يقال: لا يتصور؛ لأن رشده ينافي أن يَسن مثل هذه السُّنة؛ لأنه قد يخطئ
(1) رواه أحمد (17/ 227 رقم 11143)، والترمذي (4/ 58 رقم 2191)، وعبد بن حُميْد (2/ 58 رقم 862)، والطيالسي (3/ 614 رقم 2270). وفيه ابن جدعان ضعيف.
لكن الحديث له شاهد من حديث عمرو بن أخطب رواه مسلمٌ (4/ 2217 رقم 2892).
(2)
رواه مسلم (4/ 2279 رقم 2967) من حديث عتبة بن غزوان رضي الله عنه.
(3)
في الأصل: "أهل". والتصويب من "التعيين"(216).
المصيب ويزيغ المستقيم يومًا ما، وقد صح:"لا حَلِيمَ إلَّا ذُو [عَشْرَةٍ] (1)، ولا حَكِيمَ إلا ذُو تَجْرِبَةٍ"(2). وكلام العرب يجيء بالإضافة إلى العموم والخصوص قسمة رباعية:
عامّ يُريدُ به العامَّ، كقوله:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
خاصٌّ يريد به الخاص، كقوله:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37].
عامٌّ يُرادُ بهِ الخَاصُّ، كقوله:{وَأُوتِيَت مِنْ كُلِّ شَيء} [النمل:23]، {تُدَمِرُ كَلَّ شَيْءٍ] [الأحقاف: 25]، وقول لبيدٍ:
وكُلُّ نَعِيم لَا مَحَالَةَ زائِلُ (3)
وعكسه: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وجاء في بعض روايات هذا الحديث: "فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بدْعَةٌ، وكلَّ بِدعَةٍ ضَلَالَةٌ، وكل ضلالةٍ
(1) في الأصل: "غرة: ". والمثبت من "التعيين"(217) ومصادر تخريج الحديث.
(2)
رواه أحمد (17/ 110 رقم 11056)، والبخاري في "الأدب المفرد"(193 رقم 565)، والترمذي (3/ 553 رقم 2033)، وابن أبي الدنيا في "الحلم"(17 رقم 1)، وابن حبان في "صحيحه"(1/ 421 رقم 193)، وفي "روضة العقلاء"(208)، والقضاعي (2/ 37 رقم 834)، والمعافى بن زكريا في "الجليس الصالح"(2/ 112)، والبيهقي في "الشعب"(6/ 359 رقم 4327)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال مَوْهَب: قال لي أحمد بن حنبل: أيش كتبتَ بالشام؛ فذَكَرت له هذا الحديث، قال:"لو لم تسمع إلا هذا لم تذهب رحلتُك". كما ذكره ابن حبان في "صحيحه".
(3)
عجز بيت للبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه، وصدره:"ألا كُلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ"، وكونه عامًّا يراد به الخصوص؛ لأن نعيم الجنّة لا يزول. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة
…
قول لبيد" ثم ذَكَرَهُ. رواه البخاري (8/ 35 رقم 6147)، ومسلم (4/ 1768 رقم 2256) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
في النار". وهو قياسٌ مُتَّصِلٌ مُرَكَّبٌ مِن الشَّكل الأول، بِفَتح "أَنَّ كل محدثة في النار" يعني: صاحبها مِن فَاعِلٍ وَمُتَّبِعٍ (1).
فائدة: قَسَّمَ الشيخ عز الدين رحمه الله في "قواعده" البدعةَ إلى الأحكام الخمسة "والطَّرِيقُ في ذلك أنْ تُعْرَضَ (2) على قواعِدِ الشَّريعَةِ؛ فإن دَخَلَتْ في قَواعِدِ الإيجَابِ فواجب
…
" إلى آخر الأحكام الخمسة.
قال: "وللواجبة أمثِلَةٌ: منها الاشتِغَالُ بعِلم النَّحو الَّذي يُفْهَمُ بهِ كلامُ اللهِ ورسوله لأجلِ حِفْظِ الشَّرِيعَةِ، ومَا لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا بهِ فهوَ وَاجِبٌ.
ومنها: حِفظُ الغَريبِ مِن الكتاب والسنة ومن اللغة، وتدوينُ أصول الفقه، والجرح والتعديل، وتمييز الصَّحيح من السقيم، والقاعِدَةُ أنَّ حِفظَ الشَّريعَةِ فَرْضُ كِفايةٍ فيما زادَ على المتعين، ولا يَتَأَتَى ذلك إلَّا بما ذكرناه .. " (3). ثم أوضحَ الباقي (4).
(1) في الأصل: "ممتنع"! والتصويب من "التعيين"(218) والسياق يقتضيه.
(2)
في الأصل: "تعرف"، وكتب الناسخ فوقها:"تعرضه" والتصويب من "القواعد الكبرى".
(3)
انظر: "القواعد الكبرى" للعز بن عبد السلام (2/ 337 - 339).
(4)
هذا التقسيم مخترع لا يدل عليه دليل شرعيٌّ، بل هو في نفسه متدافع، والأمثلة التي ذكرها العز تستقيم في المعنى اللغوي للبدعة؛ لأنه ذكر في البدع المندوبة إحداثُ المدارس وبناء القناطر .. ، ومن البدع المباحة التوسع في اللذيذ مِن المآكل والمشارب .. وبعضها يُخَالَفُ فيه، والحاصل أن البدع المذمومة هي ما كان في الدِّين، فكلُّ أمرٍ يُراد به التقريب إلى الله ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وكان المقتضي لفعله موجودًا في وقته فهو بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة.
انظر في الكلام على تقسيم العز للبدعة والرد عليه: "الاعتصام" للشاطبي (1/ 313 - 348)، و"حقيقة البدعة وأحكامها" للغامدي (2/ 138 - 145).
فائدةٌ -تنعَطِفُ على مَا مَضَى-: "التَّقْوَى" أصلُها: [وقى](1) مِن الوقاية، وقد تُفْتَحُ "الواو" فأبدلت تاء؛ فالمُتَّقِي جَعَلَ بَيْنَهُ وبين المعاصي وقاية تَحُولُ بينه وبينها من قُوَّةِ عَزْمِهِ على تَرْكِها، وتوطين قلبه على ذلك؛ فكذا قيل: مُتَّقٍ (2).
* * *
(1) في الأصل: "وقوي".
(2)
فائدة: قال الإمام الآجري في هذا الحديث في "الأربعين"(34) مُبينًا أهميته: "في هذا الحديث علومٌ كثيرةٌ يَحتَاجُ إلى عِلْمِها جميعُ المسلمين ولا يسَعهم جهلهُ".