الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع عشر
عن أبي يَعْلَى شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:"إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ على كُلِّ شيءٍ، فإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنوا القِتْلَةَ، وإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، ولْيُحِدَّ أَحَدُكمْ شَفْرَتَهُ، وليُرحْ ذَبِيحَتَهُ".
رواه مسْلِم (1).
* * *
الكلام عليهِ مِن وُجوه:
وهو حديث جامِع لقاعِدَةِ الدِّين العامة، فهو مُتَضَمِّن لجميعه؛ لأنَّ الإحسان في الفِعْل هو: إيقاعُهُ على مُقْتَضى الشَّرع أو العقل، ثمَّ إمَّا أن يتعلَّق الفعْلُ بمعاشه أو بمعاده:
والأول: بسياسة نفسه، وبدنه، وأهله، وإخوانه، ومُلْكِهِ، والناس.
والثاني: الإيمان والإسلام عمل القلب والجوارح كما مرَّ في حديث جبريل عليه السلام، فإذا أحسنَ في هذا كُلِّه على وجْهِهِ فقد حصَّلَ كُلَّ خير، وسَلِم مِن كل ضَيْر.
(1)(3/ 1548 رقم 1955)، وأحمد (28/ 336 رقم 17113، 17116، 17128، 17139)، وأبو داود (3/ 166 رقم 2815)، والترمذي (3/ 78 رقم 1409)، والنَّسائيُّ (7/ 227 رقم 4405، 4411 - 4414)، وفي الكبرى (4/ 352 رقم 4479، 4485، 4486، 4487، 4488)، وابن ماجه (2/ 1058 رقم 3170).
الوجهُ الأول: التعريف براويه:
هو أبو يعلى -ويقال: أبو عبد الرحمن- شدَّاد بن أوس بن ثابت الأنصاري النجاري المدني ابن أخي حسَّان بن ثابت، لهُ ولأبيه صحبة.
وأمه: صريمة، من بني عدي بن النَّجَّار.
نزل بيتَ المقدس وأعقب بها، ومات بها بظاهر باب الرحمة بعد الخمسين عن خمس وسبعين، وغلطَ مَن عدَّهُ بدْريًّا، وإنَّما البَدْريُّ والِدهُ (1).
فائدة: اشترك في كنية شداد بأبي يعلى جماعة: منهم حمزة ويقال أبو عمارة، ومنهم: أبو يعلى الموصلي صاحب "المسند"، ومنهم: الفراء الحنبلي القاضي.
ثانيها: في ألفاظه ومعانيه:
معنى "كتَبَ": أمر وحرَّضَ عليه، وأصل "كتب": أثبت وجمع، ومنه: قوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، أي: أثبته وجمعه، كتبت البغلة: جمعت حياءها (2).
ويستعمل "كتبَ" بمعنى: أوجَبَ، نحو:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] ونحوه كثير.
ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقوله تعالى:{وَأَحْسِنُوا} [البقرة: 195] ونحوه.
(1) انظر ترجمته في: "أسد الغابة"(2/ 507)، و"السير"(2/ 460).
(2)
انظر: "المفهم"(5/ 240).
و"على" يجوزُ أنْ تَكون بمعنى "إلى" أي: كَتَبَ الإِحسانَ إلى كُلِّ شيءٍ -أو: في- أي: في كُلِّ شيء، قال تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] أي: في مُلْكِهِ، ويقال: كان على عهد فلان، أي: في عَهده، حكاه العتبي.
ويحتمل أن تكون بمعنى "إلى" أي: كتب الإحسان في الولاية على كلِّ شيء، حتَّى مِمَّا ذَكَرَهُ، ولا يتركُ آلتَهُ كَالَّةً يُعَذِّبُ بها الحيوان، وإنَّما ذكَرَ القتلة والذّبحة؛ لأنهما غاية الأذى في الحيوان، ولا يبقى بعدهما للإحسان وجه، فإذا كان الإحسان فيما هو العلة في الأذى، فكيف بغير ذلك؟!
و"الإحسان" هنا بمعنى الإحكام والإكمال، والتَّحْسِين في الأعمال المشروعة مطلوب، فحق على من شرع في شيء منها أن بأتي به على غاية كماله ويحافظ على آدابه المصححة والمكملة له، وإذا فعل قبل عمله وأثر ثوابه.
ولَمَّا كان العلماء ورثةُ النبياء، فمِمَّا ورِثوهُ: تعليم النَّاس كيفية الإحسان إلى كلِّ شْيءٍ ألهَمَ اللهُ سبحانه وتعالى الاستغفار للعلماء مكافأةً لهم على ذلك (1)، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"إنَّ العالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ له مَنْ في السَّمَاوات ومَنْ في الأرض، حتَّى الحِيتانُ في المَاءِ"(2).
وقد جاء في التَّنزيل: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5].
(1) هذه عبارة الخطابي في "معالم السنن"(4/ 39).
(2)
رواه أحمد (36/ 45 رقم 21715)، وأبو داود (4/ 39 رقم 3641)، والترمذي (4/ 414 رقم 2682)، وابن ماجه (1/ 81 رقم 223) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
وهو حديثٌ صحيحٌ، صححه الألباني في "التِّرمذيِّ"(2159)، و"سنن أبي داود"(3096)، و"صحيح الترغيب والترهيب"(1/ 138 رقم 70).
و"القِتْلة" -بكَسرِ القاف-: الهَيْئَة والحالة، والمصدر بالفتح.
و"الذبحة" بكسر الذال -أيضًا- مِن باب الهيئة كالجِلْسَة والرِّكْبَة؛ أي: هيئة القتل والذبح.
وجاء في رواية: "فَأَحْسِنُوا الذَّبح"(1) وهو بالفتح بغير هاء مصدر، وبالهاء: الهيئة كالقتلة، وأصلُ الذَّبح: الشقُّ والقطعُ.
قال الشاعر (2):
كأَنَّ بينَ فَكِّها والفَكِّ
…
فَارَةَ مِسْكٍ ذُبِحَتْ في سُكِّ
وقوله: "ولْيُحِدَّ" هو بضمِّ الياء، يقال: أحدّ السكين وحددها واستحدها بمعنى.
و"الشَّفرة": المِدْية، وهي السكين ونحوه ممَّا يُذْبَحُ بهِ، سُمّيت باسمِ شفرها وهي حدُّه، تسمية باسم جزئه (3).
وقوله: "وليُرح" بضمِّ الياء، يُقال: أراحَ يُريحُ إِرَاحَةً إذا أدخلت الراحة إلى الشيء، أو تسبب إلى حصولها له بوجه.
و"الذَّبيحة": المذبوحة، فعيلة بمعنى مفعولة، كأنه قال: الدَّابة الذبيحة، أو تكون من باب غلبة الاسم على غلبة (4) الوصف.
(1) رواها مسلم (3/ 1548 رقم 1955).
(2)
ذكره ابن السكيت في "إصلاح المنطق"(1/ 7)، والقرطبي في "المفهم"، (5/ 240 - 241).
(3)
في الأصل: "حده". والتصويب من "التعيين"(148)، و"الفتح المبين"(345).
(4)
في الأصل: " .. غلبة على الوصف" وجعل فوق "غلبة" و"على" حرف "م" وهو يفيد التقديم والتأخير بين الكلمتين.
الثالث: الإراحة بإحداد السِّكِّين، وتعجيل إمرارها وغير ذلك، ولهذا قال فيمن ولي القضاء:"فقد ذُبِحَ بغيرِ سِكِّينٍ"(1) أي: عرَّضَ نفسه لعذابٍ يجد فيه ألمًا كألمِ الذَّبح بغير سكين (2).
ويُستَحَبُّ: ألا يحدها بحَضرَة الذَّبيحة.
وألَّا يذبح واحِدةً بحَضْرَةِ أُخرى.
ولا يجُرَّها بل يَسُوقها إلى مذبحها -وحُكيَ جوازه-.
ولا يصرعها بغتَةً.
ولا يجرها إلى مذبوحها -عن مالك- (3)!
وإحسانُ القِتْلةِ عامٌّ في كُلِّ قَتْلٍ، ومنهُ: القِصَاصُ، ولا يَقصِدُ التَّعذيبَ، وقد "نَهى عليه الصلاة والسلام عن صَبرِ البهائِم" (4) وهوَ: حَبْسُها للقَتلِ وغيرهِ، و"لَعَنَ مَن اتَّخَذَ شيئًا فيهِ الرُّوحُ غَرَضًا"(5). وهو حرام، وينبغي إحضار نيَّةِ القربةِ ويُسْتَحَبُّ توجيهها إلى القبلة والتَّسمية، وتركها إلى أن تبرد، ويعترف بالمِنَّة في ذلك لتسخيره لنا والإِنْعام علينا به.
ومِن الإحسان إليها: ألا تُحمَّل فوقَ طاقتها.
(1) رواه أبو داود (4/ 7 رقم 3571)، والترمذي (3/ 8 رقم 1325)، والنَّسائيُّ في الكبرى (5/ 398 رقم 5892، 5893، 5894، 5895)، وابن ماجه (2/ 774 رقم 2308)، وأحمد (12/ 52 رقم 7145) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وهو حديث حسنٌ كما قال المؤلف في "البدر المنير"(9/ 546) وقد أطال في الكلام عليه.
(2)
انظر في معنى الحديث ما ذكره المؤلف في "البدر المنير"(9/ 549 - 550).
(3)
قوله: "عن مالك" يعني: "وحُكيَ جوازه عن مالك". انظر: "المُفهم"(5/ 242).
(4)
رواه البُخاريّ (7/ 94 رقم 5513)، ومسلم (3/ 1549 رقم 1956) عن أنسٍ رضي الله عنه.
(5)
رواه البُخاريّ (7/ 94 رقم 5515)، ومسلم (3/ 1550 رقم 1958) عن ابن عمر رضي الله عنه.
ولا تُركب واقفةً إلَّا لحاجةٍ.
ولا يُحلَبَ منها إلَّا ما لا يَضُرُّ بولدها.
ولا يشوي السمَكَ والجراد حتَّى تموت.
* تتمات:
الأولى: قوله: "إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحسان على كُلِّ شيء" هو قاعدة عامَّة كُلّية، ثم ذكر منها التخفيف في القتل والذبح في الحيوان، ويجوز ذكر ذلك، إِمَّا لأنَّ الجاهلية كانوا يخالفون ذلك، كالمُنْخَنِقةِ، والموقوذة، والمتردِّية، والنَّطيحة وما ذُكِر معها، وكانوا إذا ذبحوا يذبحون بالكَالِّ.
الثَّانية: تفاصيل الإحسان إلى كُلِّ شيء لا تنحصِرُ، وقد أسلفنا جملةً من أفرادِهِ.
ومثله: الإحسان إلى الملائكة بالأدب معهم، لا سيما كَاتِباهُ، فهي تَتَأَذَّى مِمَّا يتأذى منهُ بنو آدمَ.
ومن ذلك: الإحسان في قتل الوَزَغِ أوَّلَ مرَّةٍ، ودونها في الثَّاني، ثم في الثالث (1).
والموجود الحادِث هو المحتاج إلى الإحسان، لأنَّ القديم مستغنٍ بذاته تعالى.
والحادث إن كان عرضًا فلا يتأتى الإحسان إليه، وإن كان جوهرًا، فإنَّ كان جمادًا فكذلكَ، وإن كانَ نباتًا أو حيوانًا فهو موضِعُ الإحسان.
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً في أَوَّلِ ضَربةٍ كتبَت لهُ مائَةُ حَسَنَةٍ. وفي الثانِيَةِ دُونَ ذلِكَ. وفي الثالِثَةِ دونَ ذلِكَ" رواه مسلم (4/ 1758 رقم 2240/ 147) عن أبي هريرةَ رضي الله عنه.
ومذهبُ أحمد أنَّ الحيَّ إذا تطوَّع بقُرْبَةٍ وأهدى ثوابها لِمُسْلِمٍ ميِّتٍ، نفعهُ ذلك، وكذا الحي على الأصح (1).
ومن ذلك: الإحسان إلى الجن، مؤمنهم وكافرهم بدعائهم إلى الخير، وقد أكرمهم الشارع وأقراهم بأنَّ جعل العظم زادهم والروثَ لدوابهم، ولنا فيه أسوةٌ حسنة.
وأمَّا المؤذي كالحشرات والفواسق الخمس، فقد خَرَجت بالنَّص.
* * *
(1) وجهُ ذِكر هذه المسألة: أنها مِن باب الإحسان إلى الميت أيًّا كان من والد أو ولد أو غيره.
أمَّا مسألة إهداء الثواب للميت فهي مسألة طويلة الذيل، انظر في الكلام عليها:"مجموع الفتاوى" لابن تيمية رحمه الله (7/ 498 - 499)، (24/ 309 - 311، 315، 321، 324، 366، 367)، ومن أوسع من تكلم على هذه المسألة الإمام ابن القيِّم رحمه الله في كتابه "الروح"(2/ 435 - 500).