الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع عشر
عن ابن مَسعُودٍ رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَّا يَحِل دَمُ امْرِئ مسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفْسُ بَالنفْسِ، والتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ للجَمَاعَةِ".
رواهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ (1).
* * *
الكلام عليهِ مِن وجُوهٍ -والتَّعريفُ بِراويهِ سلفَ-:
أحدهما: قوله "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ" هو على حذف المُضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، أي: لا يَحِلُّ إراقةُ دَمِ امرئٍ، والدَّمُ أصلُهُ:"دمي"، ولذلِكَ ظهر اللام في التثنية قال:
فَلَو أَنَّا على حَجَر ذُبِحنا
…
جَرَى الدَّمْيَان بالخبر اليقين
ويقالُ: امرؤٌ وَمَرْءٌ، وفي الأنثى: امْرَأَة، وَمَرْأَة، وَمَرَة، ورَجُلَة، وخَصَّ الذَّكَرَ -مع أنَّ الحُكْمَ عَامٌّ-؛ لأنهُ الأَصلُ، ولأنّهُ أشرفُ في اللفظ.
(1) رواه أحمد (6/ 120 رقم 3621، 4245، 4429)، والبخاري (9/ 5 رقم 6878)، ومسلم (3/ 1302 رقم 1676)، وأبو داود (4/ 340 رقم 4352)، والترمذي (3/ 73 رقم 1402)، والنَّسائيُّ (7/ 90 رقم 4016)، (8/ 13 رقم 4721)، و"الكبرى"(3/ 426 رقم 3465)، (6/ 324 رقم 6897)، وابن ماجه (2/ 847 رقم 2534).
فائدة: شَرَح المؤلف هذا الحديث في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(9/ 42 - 56) وكِلا الشَّرْحَيْن فيه من الفوائد ما ليس في الآخَر.
و"الثيِّب" هو المُحصَن، وهو اسمُ جِنْسٍ يدخلُ فيه الذَّكر والأنثى، وقامَ الإجماع على أنَّ حدَّه بالرجم.
وشُرُوط الإحصان محلُّ الخوضِ فيها الفروع، وقد بسطناها فيها ولله الحمد (1).
وقد جَمَعها ابن رشيق المالكي في أبيات حيث قال (2):
شروطٌ للإحصان ستٌّ أتت
…
فَخُذْهَا عَلَى النَّصِّ مُسْتَفْهِما
بلوغٌ، وعقلٌ، وحُرِّيةٌ
…
ورابعُها كونه مسلِمَا
وعقدٌ صحيحٌ، وَوَطْءٌ مُبَاحٌ
…
مَتَى اختَلَّ شرطٌ فلن يُرجما
ولا يُجْلَدُ عندنا قبلُ -خلافًا لأحمد-، وقد رَجَمَ الشَّارع ماعِزًا والغامديَّة (3) ولم يجلدهما قبلُ.
ثانيها: "النّفسُ بالنفس" هو مُوافِقٌ للآية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] والمراد: النفوس المتكافئة في الإسلام، والحرية؛ بدليل حديث البخَاري:"لا يقتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"(4) وهو حجةُ الجمهور من الصّحابة، والتابعين على من قال: يُقْتَلُ به، وهم أصحابُ الرَّأيِ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ. ولا يصح لهم مَا رَوَوْه مِن حديث ربيعَةَ أنه عليه الصلاة والسلام "قَتَلَ يوم خيبر مُسْلِمًا بكافر"(5)؛ لأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ.
(1) انظر: "عجالة المحتاج" للمؤلف (4/ 1623 - 1626).
(2)
انظر: "المنهج المبين"(304).
(3)
خبر ماعز والغامدية جُمِعَ في حديثٍ واحد رواه مسلم (3/ 1321 رقم 1695) من حديث بريدة رضي الله عنه. وقد رواه البُخاريّ ومسلم عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما رضي الله عنه. انظر تخريجه في "البدر المنير"(8/ 585 - 590، 614 - 616، 619 - 624).
(4)
رواه البُخاريّ (1/ 33 رقم 111). وانظر تخريجه في "البدر المنير"(8/ 365 - 367).
(5)
رواه عبد الرَّزاق (10/ 101 رقم 18514)، وابن أبي شيبة (14/ 180 رقم 28031)، وأبو داود في "المراسيل"(328 رقم 241)، والدارقطني في "سننه"(4/ 157 رقم 3260، 3261، 3262)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 195 رقم 5045)، =
ومِن حديث [ابن](1) البَيْلَماني (2) وهو ضعيفٌ، ولا يصِح في الباب إلَّا ما سَبَق.
وأمَّا الحُريةُ فَخَالَفَ فيها أصحابُ الرأي عَمَلًا بإطلاقِ الآية، وبقوله عليه الصلاة والسلام:"المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ"(3).
والثلاثة، وإسحاق، وأبو ثور، والحسن، وعطاء، وعمرو بن دينار، وعُمَر بن عبد العزيز، والجمهور على خلافه؛ لأنهُ مَالٌ.
وعندَ مالك: يُجْلَد القاتل مائة ويُحْبس عامًا.
وذهب النَّخَعِي، والثوري (4) -في أَحَدِ قَوْلَيْهِ- إلى أَنَّهُ يُقْتَلُ بهِ وإن كان عبدهُ؛ لحديث الحسن عن سَمُرَةَ بن جُنْدُب:"مَنْ قَتَلَ عبدَه قتلناه، [وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ، وَمَنْ خَصَاهُ خَصَيْنَاهُ"(5).
قال البُخاريُ عن عليِّ بن المَدِينيِّ: سَمَاعُ الحَسَنْ مِن سَمُرَة صحيحٌ. وَأَخَذَ
= والبيهقيّ في "الكبرى"(8/ 30) وهو حديث ضعيفٌ كما ذَكَرَ المؤلِّفُ. انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي، و "البدر المنير"(8/ 367 - 368)، و"نصب الراية"(4/ 335 - 336).
(1)
ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وقد أثبتناه من كُتب التراجم، ومن "المفهم"(5/ 39).
(2)
تحرف في الأصل إلى: "السلماني" والصّواب ما أثبتناه، وهو عبد الرحمن بن البَيْلَماني، ضعيف. ترجمته في "التقريب"(572 رقم 3843) وأصوله. وقد ذُكِر على الصواب في "البدر المنير"(8/ 367 - 368).
(3)
تقدَّمَ تخريجه في ص (47).
(4)
في الأصل: "النووي"، والتصويب من "المفهم"(5/ 39)، و"المنهج المبين"(308).
(5)
رواه أحمد (33/ 296 رقم 20104)، وابن أبي شيبة (9/ 151 رقم 27957)، والترمذي (3/ 82 رقم 1414)، وأبو داود (4/ 424 رقم 4515، 4516، 4517)، والنسائي (8/ 20 رقم 4736 - 4738)، و"الكبرى"(6/ 331 رقم 6912 - 6914، 6929، 6930)، وابن ماجه (2/ 888 رقم 2663)، والدارمي (3/ 1522 رقم 2403). والحديث كما ذكر المؤلف متكلَّمٌ فيه، انظر: البدر المنير (8/ 370، 371)، و"ضعيف سنن أبي داود"(974).
بهذا الحديث.
وقال البُخاريُّ:] (1) وأنا أَذْهَبُ إليه" (2).
وضعَّفه غيرهُ بانقطاعِهِ؛ فَإِنَّ الحسنَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ سَمُرَةَ!
الثالث: "التاركُ لِدِينِهِ" هو المرتد: الذي بدَّل دينه بأيِّ مِلَّةٍ كانت، فَقَتْلُهُ واجِبٌ إِنْ لم يَرجع إلى الإسلام، والمُرْتَدَّةُ كالمرتد عندنا؛ لعموم الحديث؛ ولأنَّ العِلةَ التَّبديل وقد وُجِدَ، وقال:"مَنْ بَدَّلَ دينَهُ فاقْتُلُوهُ"(3) خِلافًا لأبي حنيفة حيث قال: تُحْبَسُ؛ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عن قتل النِّساء وهو خاصّ (4).
وقوله: "المُفَارِق للجماعة" ظاهِرُهُ أنَّهُ أتى به نعْتًا (5) جاريًا على التارك لدينه؛ لأنّهُ إذا ارتدَّ عن دين الإسلام، فقد خَرَجَ عن جماعتهم، غيرَ أَنَّهُ يَدخُلُ في هذا الوصف كلُّ مَن خَرَجَ عن جماعة المسلمين، وإن لم يكن مُرْتَدًا كالخوارج، وأهل البدع، وأهل البَغْي ودَمهم حَلال بالإجماع، فكلُّ مَنْ فارَقَ الجماعة فقد بدَّلَ دِينَهُ، غير أَنَّ المُرْتَدَّ بَدَّلَ كُلَّهُ، وغَيْره بَعْضهُ.
واختُلِفَ في تارك الصلاةِ تَكَاسُلًا غير جحود وقد سلف ما فيه، وعندنا يقتَلُ حَدًّا، وكذا مَن امتَنَعَ مِن واجِبٍ يُقاتَلُ عليه، وإِنْ أَبَى، عليه القتل.
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل نظرًا لانتقال نظر الناسخ، والصّواب إثباته؛ لأنَّ العبارة لا تتم إلَّا به؛ ولأن الكلام المتقدم هو في الحقيقة كلام القرطبي في "المفهم"(5/ 39)، ونقله الفاكهاني في "المنهج المبين"(308 - 309).
(2)
انظر: "جامع التِّرمذيّ"(1/ 224 تحت رقم 182).
(3)
رواه البخاري (4/ 61 رقم 3017) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
جمهور الفقهاء فرَّقوا بين الكفر الأصلي والكفر الطارئ، وذلك أنَّ الأخير أغلظ؛ لِمَا سبقه من الإسلام، ولهذا يُقتل بالردة عنه مَن لا يُقتَل مِن أهل الحرب، كالشيخ الفاني، والزَّمِن، والأعمى، والمرأة، هذا مع عموم الحديث الذي ذكره المؤلف فهو حجة على كُلِّ مُخالِف. انظر:"جامع العلوم والحكم"(1/ 318).
(5)
في الأصل: "بمعنى"! والتصويب من "المفهم"(5/ 40).
فائدة: "اللَّام" في "التارك" وفي "المفارق للجماعة" زائدة كما زِيدَتْ في قوله: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، وفي:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] ونحوهما. فإنَّ لفظ "ترَكَ"، و"فارَقَ" مُتَعَدِّيان بأنفسهما، واسم الفاعل من الفعل المتعدي متعدٍّ كفعلِهِ، كما أنَّ القاصِرَ كذلك، فَزِيدَت في اسم الفاعل كما زيدت في الفعل؛ وإلَّا فالأصل:"التارك دينه"، و"المفارق الجماعة"، كما تقول: الضارب زيدًا، ولا تَقُلْ: الضارب لزيد، وزيادتها لتأكيد المعنى (1).
* تتمات:
إحداها: "الصائل" ونحوه داخل في التارك للجماعة؛ فلا حاجة إلى استثنائه، أو يكون المراد: لا يحل تعمد قتله قصدًا إلَّا هؤلاء الثلاثة.
و"اللائط" يُرجَم على الأصح ما لم يكونا عَبْدَيْن، أو كافِرَيْن عند المالكية، فيحد العبد خمسين ويؤدب الكافر عند أشهب.
ثانيها: المقصود بهذا الحديث بيان عظمة الدِّماء وما يُباح فيها وما لا يُباح، والأصل فيها العِصمَة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّها".
وفي الحديث: "مَنْ أَعانَ على قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كلِمَةٍ؛ لَقِيَ اللهَ مَكْتُوبٌ بين عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ"(2). وفي آخر: "لِيَحْذَر أَحَدُكُمْ أَنْ يحُولَ بَيْنَهُ وبينَ
(1) انظر: "المنهج المبين"(310).
(2)
رواه ابن ماجه (2/ 874 رقم 2620)، والعقيلي في "الضعفاء (4/ 1495)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 260)، والبيهقي في "الكبرى" (8/ 22)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 104 - 105) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والحديث ضعيف، في إسناده يزيد بن أبي زياد الشَّاميّ، قال فيه البُخاريّ وأبو حاتم والبيهقي:"مُنكَرُ الحديث"، وقال ابن المبارك:"ارم به"، وقال النَّسائيّ:"متروك"، وقال أحمد بن حنبل:"ليس هذا الحديث بصحيح". وقد ضعَّفهُ جمعٌ من الأئمة، منهم: العقيليُّ، =
الجَنَّةِ بِمِلءِ كَفٍّ مِنْ دَمٍ يُهريقه بغير حقٍّ" (1). ولا شك أن القاتل إذا تَجَرَّأَ وأفسَدَ هذه الصورةَ البدِيعةَ المخلُوقَةَ في أحسَنِ تَقْوِيمٍ فقد أَفِكَ وباءَ بإثمٍ عظيم.
ثالثها: استَثْنَى الحديث ثلاثة فقط، ووجهُهُ: تَعَلُّقُ المصلحةِ بذلك، وواجِب على الإمام البدار إليه:
"الثيب الزاني": لأنَّه هَتَكَ عصمةَ الله فأُبيحَ دَمُهُ (2)، وفيه مَفسَدَة عظِيمَة فاقتَضت الحكمةُ درؤها بذلك.
"والنفس بالنَّفس" ولَمَّا هَتَكَ عِصمَةَ النَّفس -وهي عظيمة- أخذ في مقابلتها النَّفس المعصومة، وهو مصلحة جَسِيمَة:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].
"والتَّارِكُ لِدِينِهِ" فإنَّهُ حَلَّ نِظامَ عَقْدِ الإسلام؛ فوجب مقاتلته بالمُرْهَفَاتِ المُزيلَةِ للهَام. وشمل قوله "المفارق للجماعة": القلب واللسان (3).
رابعها: استثناءُ المرتَدِّ مِن الإسلام باعتبار ما كان قبلَ الرِّدةِ، والعلاقة (4) باقية بدليل استثنائِهِ، وأنَّهُ لا يجوزُ بيعُهُ لكافِرٍ على الأَصَحَ (5)، ففيه الجمْعُ بين حقيقةِ المسلم ومجازه، وهي مسألة أصولِيَّة.
= وابن عدي، والبيهقيّ، والبوصيري في "الزوائد"(2/ 334)، والألباني في "الضعيفة"(2/ 1 رقم 503)، بالغ ابن الجوزي فعده في "الموضوعات".
وللحديث طرق عِدة لكنَّها لا تخلو من مقال. انظر: "البدر المنير"(8/ 348 - 352).
(1)
رواه عبد الرَّزاق (10/ 26 رقم 18250)، والطبراني في "الكبير"(2/ 159 رقم 1660)، و"الأوسط"(8/ 233 رقم 8495) عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
قال الهيثمي في "المجمع"(7/ 298) في رجال "الكبير": "رجاله رجال الصحيح".
(2)
في هامش الأصل: "ولأنه طَعِمَ الغيرةَ وعَلِمَ مقدار تضررها".
(3)
والفعل -أيضًا-.
(4)
في الأصل: "العلق" والتصويب من "التعيين"(129) وكذا الذي بعده.
(5)
معناه: لا يجوز لكافر أن يشتري عبدًا مرتدًا. والله أعلم.
خامِسُها: لم يستثن مع الثلاث قاطِع الطَّريقِ؛ لأنَّه قد اختُلِفَ أَنَّ قَتْلَهُ يُغَلَّب فيه القِصاص أم لا؟ وهل "أو"(1) فيه للتَّنْوِيع أو للتَّخْيِير؟ ولم يقتلوا إلَّا قاتلًا.
سادسها: مفهومُ الحديث حِلُّ دمِ الكافر بدُونها حَرْبِيًّا كان أو ذِمِّيًا، لكن الذِّمِّي خرجَ بدليلٍ (2)، فبَقِيَ الحربيّ.
سابعها: عمومُ النَّفس بالنَّفس يَقتَضِي أَنَّهُ لا فرقَ في القِصَاص بينَ المُثَقَّل والمُحَدد (3).
وقال أبو حنيفة رحمه الله: "لا قِصاصَ في المُثَقَّل ولو رماهُ بِأبا قُبيس"! (4)
هكذا لفظه: بـ "أبا قبيس"(5)، وهو لغة في "أبا"مثل عصا!!
(1) لعله يريد "أو" التي في قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
(2)
جاء بمعناه عِدَّةُ أحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قتلَ مُعَاهدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنةِ
…
". رواه البُخاريّ (4/ 99 رقم 3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
ورواه أحمد (11/ 356 رقم 6745)، والنسائي (8/ 25 رقم 4750)، وفي "الكبرى" (4/ 336 رقم 6926) بلفظ:"مَنْ قَتَلَ قتيلًا مِنْ أهْلِ الذمةِ لم يَرَح .. " الحديث.
(3)
المُحَدَّد: هو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين ونحوهما.
والمثقل: هو كل ثقيل كالمطرقة، والحجر الثقيل، والخشب الكبير.
وجماهير الفقهاء على أنَّ القتلَ بأحدِ هذين -المحدد والمثقل- يعتبرُ من العَمْد، خلافًا لأبي حنيفة، وهو محجوج بما في "الصحيحين"[البخاري (3/ 121 رقم 2413)، ومسلم (3/ 1300 رقم 1672/ 17)] مِن حديث أنس في اليهودي الذي قتل الجارية بحَجَر، فَقَتلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين حَجَرَيْن.
انظر: "الموسوعة الفقهية"(32/ 337 - 339).
(4)
انظر: "تأويل مختلف الحديث" لابن قُتيبة (276). وانظر -في هذه المسألة-: "حاشية ابن عابدين"(6/ 529).
(5)
روى الزجاجي في "مجالس العلماء"(237) أنَّ أبا عمرو بن العلاء سمِعَ أبا حنيفة يُبطِل القَوَد إلَّا مَا كان قتلًا بحديد! فقال لهُ أبو عمرو: أرأيتَ إنْ ضَرَبَهُ بكذا، أرأيتَ إن ضربه بكذا؟ قال أبو حنيفة: لو ضَرَبَهُ بأبو قبيس! لم يكن عليه قَوَد. فقال أبو عمرو: هذا كلام شَنع. قال: وما الشَّنِع؟ قال: ولا تعرِف الشَّنِع أيضًا"؟!
ثامِنُها: "التارك لدينه" مستثنى من المسلم، فلا يدخلُ فيه مَا إِذَا تهوَّدَ نَصْرَانيّ أو عكسه، فإنَّ الأظهر أنه لا يُقْتَل (1) ويتعيَّن الإسلام.
تاسِعها: تقدير الحديث: إلَّا بإحدى ثلاث خِصال: خَصْلَةُ الزَّاني، والقاتل، والمرتد، أو: خصلة الزاني، وخصلة ذي النفس -أي: قاتل النَّفس- ونحوها من التقدير؛ لأنَّ هذه الثلاثة بيانٌ لقوله: "إلَّا بإحدَى ثَلاثٍ"، أي: خِصال، وبدل منه، والثلاثة لا يصح إبدالهم من الخصال؛ لأنَّ المُذَكَّر لا يبدل من المؤنث فتعَيَّن أن يكون بَدَلًا على المعنى.
خاتمة: الأحاديث الواردة بإكفار تارك الصَّلاة كثيرةٌ، منها: قوله عليه الصلاة والسلام لمِحْجَن الدِّيلي -وقال: صَلَّيْت في أَهْلِي-: "مَا مَنَعَكَ أَنَّ تُصَلِّي، أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مسْلِمٍ"؟ (2). فَمَفْهُومهُ أَنَّ مَن لم يُصَلِّ لا يكونُ مُسْلِمًا، وقد رُوِيَ عن عليّ، وابن عباس، وجابر، وأبي الدَّردَاء رضي الله عنهم: إكفارُ تاركها، وبه قال النَّخَعِيُّ، وأَيّوب، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق.
وقال عمر: "لا حَظَّ في الإسلام لِمَنْ تَرَكها"(3).
(1) في الأصل: "لا يقم" ولعل الصواب ما أثبتناه، والعبارة بهذا المعنى في "التعيين"(132).
(2)
رواه مالك (1/ 193 رقم 349)، والشّافعيّ في "المسند"(1/ 102 رقم 229)، وأحمد (26/ 319 رقم 16395)، والنَّسائيُّ في "الصغرى"(2/ 112 رقم 857)، و"الكبرى"(1/ 449 رقم 932)، وابن حبان (6/ 165 رقم 2405)، والحاكم (1/ 244)، والبيهقي في "الكبرى"(2/ 300) من حديث مِحْجن بن الأدرع الأسلمي رضي الله عنه.
وهو حديثٌ صحيحٌ، صححه الحاكم، والألباني في "سنن النَّسائيّ"(826)، و"صحيح سنن أبي داود"(3/ 121 تحت رقم 590).
(3)
رواه مالك (1/ 81 رقم 93)، وعبد الرَّزاق في "المُصَنَّف"(1/ 150 رقم 579 - 581)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(13/ 486 رقم 38071)، و"الإيمان"(40 رقم 103)، وابن سعد في "الطبقات"(3/ 350)، والعدني في "الإيمان"(98 رقم 32)، =
وقال ابن مسعود: "مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَا دِينَ لَهُ "(1).
وبه قال أبو داود الطَّيالسيُّ، وأبو خيثمة (2)، وأبو بكر بن أبي شَيْبَةَ.
قال ابن راهويه: "وهو رأي أهل العلم مِن لَدُن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمننا هذا".
قال: "وأجمعوا على أنَّ مَن رأيناه يُصلي وتكرر منهُ أَنَهُ مُؤمِن". قال: "ومَن لم يُكفرهُ فقد ناقَضَ وخَالَفَ أصلَ قولهِ وقول غيره، وقد كَفَرَ إبليس بعدم السجدة"(3).
وقال أحمد: "لا أُكَفِّرُ أحدًا بذنبٍ إلَّا تارِكَ الصَّلاة"(4).
وفي مسْلِم من حديث جابر: "ليسَ بينَ العَبْدِ وبينَ الكفر -أو قال: الشرك- إلَّا تَرْكَ الصلاةِ"(5).
= وأبو مصعب الزُّهريّ في "الموطأ"(1/ 44 رقم 101)، والخلال في "السنة"(4/ 141 رقم 1371، 1381، 1388)، والآجري في "الشريعة"(2/ 648 رقم 271، 272)، وابن بطة في "الإبانة"(2/ 670 رقم 871، 872، 873)، والمروزي في "تعظيم قدر الصَّلاة"(2/ 893 رقم 924 - 929)، والبيهقيّ في "الكبرى"(1/ 357). وهو أثر صحيح عن الفاروق المُلهَم رضي الله عنه.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "الإيمان"(26 رقم 47)، وعبد الله (1/ 359 رقم 772)، والخلال في "السنة"(4/ 147 رقم 1387)، والمروزي (2/ 898 رقم 935، 936، 937).
(2)
تصحفت في الأصل إلى: "أبي حنيفة"! وهو خطأ قطعًا؛ لأنَّ الثابت والمعروف في كتب الفقه عمومًا أن أبا حنيفة لا يُكَفِّر تارك الصَّلاة. أمَّا أبو خيثمة -زهير بن حرب- فمشهورٌ عنه تكفير تارك الصَّلاة. انظر: "الصَّلاة" للمروزي (2/ 927، 928)، وابن القيِّم (51).
ثم وقفتُ -بتوفيقٍ مِنَ الله- على نصٍّ قاطِع في هذا، وهو أن المؤلف أخذ "الخاتمة" من كلام الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد"(4/ 225 وما بعدها) وفيه ما أثبتناه.
(3)
رواه المروزي في "تعظيم قدر الصَّلاة"(2/ 929، 932، 934 رقم 982)، وابن عبد البر في "التمهيد"(4/ 225 - 226).
(4)
رواه المروزي (2/ 927 رقم 982)، وابن عبد البر (4/ 226) في المصدرين السابقين.
(5)
رواه مسلم (1/ 88 رقم 82) عن جابر رضي الله عنهما.
وجاء مِن حديث بُريدةَ: "العَهدُ الذِي بَيْنَنَا [وَبَيْنَهم] (1) الصَّلاة؛ فَمَن تَرَكها فَقدْ كَفر"(2).
وصحَّ: "مَنْ تَرَكَ صَلاةَ العَصْرِ فقدْ حَبِطَ عَمَلُهُ"(3).
وكان عليه الصلاة والسلام إذا غَزَا قَوْمًا أمسَكَ إذا سَمِعَ أذانًا وإلَّا وَضَعَ السيف (4).
وجاء مِن حديث أبي هريرةَ: "مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ حُشِرَ معَ قارُونَ وفِرْعَوْنَ وهامان"(5).
وصحَّ مِن حديث أنس: "مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا"(6).
(1) في الأصل: "بينكم" والمثبت هو لفظ الحديث.
(2)
رواه أحمد (38/ 20 رقم 22937)، والترمذي (4/ 366 رقم 2621)، والنَّسائيُّ (1/ 231 رقم 463)، وفي "الكبرى"(1/ 208 رقم 326)، وابن ماجه (1/ 342 رقم 1079)، وابن حبان (4/ 305 رقم 1454)، والحاكم (1/ 6 - 7) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. والحديث صححه التِّرمذيُّ، وابن حبان، والحاكم، وابن الملقن، والألباني. وانظر:"البدر المنير"(5/ 397).
(3)
رواه البُخاريّ (1/ 115 رقم 553) عن بريدة رضي الله عنه.
(4)
رواه مسلم (1/ 288 رقم 382) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5)
رواه أحمد (11/ 141 رقم 6576)، وعبدُ بن حُميد في "المنتخب"(1/ 310 رقم 353)، والدارمي (3/ 1789 رقم 2763)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(8/ 207 رقم 3180، 3181)، وابن حبان (4/ 329 رقم 1467)، والطبراني في "الكبير"(13/ 67 رقم 163 قطعة من جزء 13)، و"الأوسط"(2/ 213 رقم 1767) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وفيه عيسى بن هلال الصَّدفي، لم يُوثِّقه غير ابن حبان. وقال الحافظ:"صدوق". ["التقريب" 772 رقم 5372]. وقد جود إسناد "أحمد" المنذري في "الترغيب"(1/ 386)، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 192):"رجال أحمد ثقات". وصححهُ شيخنا الإمام المُحدث ابن باز رحمه الله في "فتاواه"(29/ 164 - 165).
(6)
رواه البخاري (1/ 87 رقم 391) من حديث أنس رضي الله عنه.
وذَهَب الشَّافعي رحمه الله إلى قَتْلِهِ حَدًا. وحُكِيَ عن مالكٍ، وأبي ثَوْرٍ، ومَكْحُول، وحماد بن زيد، ووكيعٍ.
وقد قال الصِّدِّيقُ: "لأقاتِلَنَّ مَنْ فرَّقَ بينَ الصلاةِ والزَّكاة"(1).
و [قيل له](2) عليه الصلاة والسلام: أَلا نُقَاتِلُهُمْ -يعني: الأُمَراء- قال: "لَا، مَا صَلَّوْا الخَمْسَ"(3).
ووردَ: "نُهِيتُ عن قَتْلِ المُصَلِّينَ"(4).
وقال للذينَ أرادُوا قَتْلَ مَالك بن الدُّخشم: "أليسَ يُصَلّي"؟ قالوا: بلى، ولا صلاةَ لهُ"! (5) فَنَهَى عن قتْلِهِ لصَلاتِهِ.
وأوَّلَ الشَّافعي رحمه الله ما سَلف بِحَمْلِه على الجُحُود، ويُقوِّيه الحديث الصحيح: "خمسُ صلواتٍ كَتبَهُن اللهُ على العِباد
…
" (6).
(1) تقدَّم تخريجه ص (178).
(2)
في الأصل: "وقال" ولعل ما أثبتناه أقرب وأصوب.
(3)
جاء بمعناه عدة أحاديث، منها: ما رواه مسلم (3/ 1480 رقم 1854) من حديث أم سلمة رضي الله عنها، وليَس فيه "الخمس".
(4)
رواه أبو داود (5/ 142 رقم 4928)، والمروزي في "تعظيم قدر الصَّلاة"(2/ 917 رقم 963)، والبيهقيّ في "الكبرى"(8/ 224)، و"الشُّعَب"(4/ 292 رقم 2541)، من طريق أبي يسار القرشي، عن أبي هاشم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وإسنادهُ ضعيف، أبو يسار، وأبو هاشم كِلاهُما "مجهولُ الحال" انظر:"التقريب"(1226 رقم 8522)، (1217 رقم 8491).
(5)
رواه ابن عدي في "الكامل"(5/ 85)، والطبراني في "الكبير"(18/ 26 رقم 44)، والمروزي في "تعظيم قدر الصَّلاة"(2/ 915 رقم 961) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وفي إسناده عامر بن بن عبد الله بن يساف "منكرُ الحديث" كما قال ابن عدي، والهيثمي في "المجمع"(1/ 296).
(6)
أكمل في الهامش بخط دقيق بقية الحديث: "
…
في اليوم والليلة فمن أتى بِهِنَّ وبحقهن كانَ له عند الله عهدًا أن يُدخِلهُ الجنَّةَ".
وقال: "ومن لم يأْتِ بِهِن فليسَ لهُ عِنْدَ اللهِ عهدٌ إن شاءَ عذَبَهُ، وإنْ شاءَ غَفَرَ لهُ"(1).
والكفرُ في اللغة: السَّتْرُ، فليُؤَوَّل عليه.
وقالت طائفةٌ مِن أهل الحِجاز والعِراق: أنه يُضْرَبُ ضَرْبًا مُبرحًا ويُسْجَن حتَّى يرْجِع، وهو قولُ ابن شِهاب (2).
* * *
(1) مضى تخريجه ص (139).
(2)
رواه عنه المروزي في "تعظيم قدر الصَّلاة"(2/ 957 رقم 1035).
تنبيه: مسألة حكم تارك الصَّلاة معروفة ومشهورة، وهي مبسوطة في كتب الفقه، ولا حاجة بنا إلى الإحالة إليها لكثرتها، وانظم ما تقدَّم ص (138 - 139).