الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث العشرون
عن أبي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بن عَمْرٍو الأنصاريِّ البَدْرِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولى: إِذَا لَمْ تَسْتَح فاصْنع مَا شِئْتَ".
رواه البُخاريُّ (1).
* * *
الكلام عليه من وجوهٍ:
أحَدهما: في التَّعريفِ بِرَاوِيهِ:
وهو أبو مسعود عُقْبَة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري الصحابي، ولم يشْهَد بَدرًا -في قول الأكثرين- وإِنَّمَا نَزَلَها (2)، كالمقبري؛ لنزوله المقابر (3)، ويزيد الفقير؛ لِفقار ظهره (4)، وفلانٌ الضال؛ لأنَّهُ ضَلَّ عن الطريق (5).
(1) رواه البخاري (4/ 177 رقم 3483، 3484).
(2)
انظر: "الإصابة" لابن حجر (2/ 483)، و"تهذيب الكمال"(20/ 215).
(3)
انظر: "تهذيب الكمال"(10/ 466) ترجمة سعيد بن أبي سعيد المقبري.
(4)
انظر: "تهذيب الكمال"(20/ 165) ترجمة يزيد بن صهيب الفقير.
(5)
المراد هو معاوية بن عبد الكريم الضَّال، قال الإمام أحمد:"معاوية الضَّال: ثقةٌ .. ، قيل: ولم سُمِّي الضَّال؟ قال: ضَلَّ -زَعَموا في طريق مكَّةَ فَسُمِّي الضال". "سؤالات الأثرم للإمام أحمد"(48)، و"الأنساب" للسمعاني (8/ 370).
ثانيها: هذا الحديثُ عليهِ مَدَارُ الإسلام، وَوَجْهُهُ: أنَّ أفعال العبد إمَّا أن يستحي منها أَوْ لَا.
فالأوَّل: يشمل الحرام والمكروه، وتركُهُمَا هو المشروع.
والثاني: يَشْمَلُ ما في الأحكام الخمسة: الوجوب والندب والإباحة، وفِعْلُها مَشْرُوعٌ في الأوَّلَيْن، شائعٌ (1) في الثالث، وهذه أحكام الأفعال الخمسة، وهو شَبِيهٌ بالحديث الآتي:"الإثْم: مَا حاكَ في نَفْسِكَ"(2).
ثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: "فاصْنعَ مَا شِئتَ" هل هو خَبَرٌ أو نَهْيٌ؟ كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [النحل: 55]، "أشْهِدْ على هَذَا غَيْرِي"(3)، و"مَنْ باعَ الخَمْرَ فلْيُشَقِّص (4) بالخَنَازِير"(5)،
(1) في "التعيين"(168): "جائز" وله وجه.
(2)
هو الحديث (27) من الأربعين.
(3)
رواه مسلم (3/ 1243 رقم 1623/ 17) من حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما بهذا اللفظ. وأصل القصة في "الصحيحين".
(4)
في الأصل "فليستقض" والتصويب من كافة مصادر التخريج.
(5)
رواه أحمد (30/ 154 رقم 18214)، وأبو داود (3/ 489 رقم 3489)، وابن أبي شيبة (7/ 443 رقم 21918)، والحميدي (2/ 335 رقم 760)، والطيالسي (2/ 76 رقم 735)، والدارمي (2/ 1334 رقم 2147)، والطبراني في "الكبير"(20/ 379 رقم 884)، و"الأوسط"(8/ 245 رقم 8532)، وابن أبي حاتم في "العلل"(2/ 56 رقم 1152)، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 12) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
والحديث فيه عمر بن بيان التغلبي مجهول. قال أحمد في "العلل"(2/ 7): "لا أعرفه". وقال الطبراني في "الأوسط": "لا يُروى هذا الحديث عن المغيرة إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به طلحة بن عمرو" يعني الراوي عن عمر بن بيان. وقال ابن حجر: "مقبول" ["التقريب"(714 رقم 4903)، يعني: حين يُتابع وإلَّا فليِّن الحديث، والحديث لم يُتابع عليه.
فائدة: قال ابن الأثير في "النهاية"(2/ 490): ""
…
فليُشَقِّص الخنازير" أي: فليُقَطعها قِطَعًا ويُفَصِّلْها أعضاءً كما تُفصَّل الشاة إِذا بيعَ لَحمُها. يُقال: شَقَصه يُشَقِّصهُ، وبه سُمِّي القَصَّاب مُشَقِّصًا. المعنى: مَن استَحَلَّ بيعَ الخمر فليسْتَحِل بيع الخنزير، فإنهُما في التَّحريم سواءٌ، وهذا لفظُ أَمْرٍ معناهُ النَّهي، تقديرهُ: مَن باعَ الخمرَ فليَكُنْ للخَنَازير قصَّابًا".
والمعنى على هذا: إذا نُزِعَ عنكَ الحياء فافعل ما شِئتَ، فَإِنَّهُ تعالى يُجازيكَ عليهِ، ويكونُ هذا تعظيمًا لأمرِ الحياء، وتبيينًا لوضْعِهِ عندَ فَقْدِه.
وعلى الأول معناه: إذا لَمْ تَسْتَحِ صَنَعْتَ مَا شِئْتَ؛ لأنَّ عَدَمَ الحياء يُوجِبُ الانهِمَاكَ في هَتْكِ السِّتْرِ، وقد ثبتَ أنَّ:"الحياء شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ"(1).
وقال عليه الصلاة والسلام: "الحياءُ لا يَأتِي إلَّا بِخَيْرٍ"، وقال صلى الله عليه وسلم:"الحياءُ خَيْرٌ كلُّهُ"(2).
وقال عليه الصلاة والسلام: "اسْتَحْيُوا مِن الله حَقَّ الحَيَاءِ"(3).
رابعها: معنى: "إنَّ مِمَّا أدركَ الناس": أنَّ الحياءَ لَمْ يَزَل مستَحَبًا مُسْتَحْسَنًا في شرائعِ الأنبياء الأوَّلين، وأَنَه لم يُنْسَخ مِن جُمْلَةِ مَا نُسِخ مِن شرائِعهم، ولا شَكَّ أنهُ مِن الخِصَالِ الشَّريفة، والصِّفاتِ المنيفة، وهو خيرٌ كُلُّهُ كما سلف (4)، ولكن لا ينبغي أن يغلبه حتى يستحي فيما يَضُرُّه مِن أمرِ دينهِ
(1) رواه البخاري (1/ 11 رقم 9)، ومسلم (1/ 63 رقم 35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
هذا والذي قبله حديث واحد رواه البخاري (8/ 29 رقم 6117)، ومسلم (1/ 64 رقم 37) من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد (6/ 187 رقم 3671)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(19/ 59 رقم 34320)، والترمذي (4/ 246 رقم 2458)، والبزار (5/ 391 رقم 2025)، والحاكم (4/ 323)، وأبو يعلى (8/ 461 رقم 5047)، والطبراني في "الكبير"(10/ 152 رقم 10290)، و"الصغير"(1/ 298 رقم 494) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي والألباني.
(4)
قال الصالحي (ت: 942 هـ) في "سبل الهدى والرشاد"(7/ 42): "الحياء من الحياة، ومنه الحَيَا للمطر، وعلى حسب حياة القلب يكون في قوم خُلُق الحياء، وقِلَّة الحياء من موت القلب والروح، وكلما كان القلب حيًّا كان الحياء أتم. وهو في اللغة: تغيُّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يُطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، وفي الشرع: خُلُقٌ يبعثُ على اجتناب القبيح، ويمنع عن التقصير في حقِّ ذي الحق".
ودنياه، فإنَّهُ حياءٌ غيرُ محمود، ومنهُ الحياء في التَّفقه في الدين، وليسَ حياءً، بل خَوَرًا (1).
وأهلُ المعرِفةِ في الحياء مُنْقَسِمون، كما أنهم في أحوالهم متقاربون، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جُمِعَ لهُ كمال نَوْعَي الحياء، فكان في الحياء الغريزي أشدَّ حياءً مِن العذراءِ في خِدْرِها، وفي حالهِ الكَسْبي في [ذروتها](2).
* * *
(1) في الأصل: "جورًا" وهو تصحيف.
(2)
في الأصل: "ذوويها". والتصويب من "المفهم"(1/ 219) إذ هي من كلامه! ونقله عنه الفاكهاني في "المنهج المبين"(379)، ونقله ابن حجر الهيتمي في "الفتح المبين"(385) ولكن من غير عزو!