الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحَديثُ التَّاسِعُ والعِشْرُونَ
عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قال: قُلتُ: يَا رَسُولَ الله! أَخْبِرْني بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُني مِنَ النَّارِ؟ قال: "لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ".
ثم قال: "إلَّا أَدُلُّكَ عَلَى أَبوابِ الخَيْرِ؟ الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ، وَصلَاةُ الرَّجُلِ في جَوْفِ اللَّيلِ. ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] ".
ثمَّ قالَ: "أَلَا أخبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِروَةِ سَنَامِهِ؟ الجِهادُ" ثُمَّ قالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ ".
قُلتُ: بَلَى يا رَسولَ الله! فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثم قال: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا".
قلتُ: يَا نَبِيَّ الله! إِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!
فقال: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ: على مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟ ".
رواه الترمذي وقال: "حَسَنٌ صَحِيحٌ"(1).
* * *
الكلامُ عليهِ مِنْ وُجُوهٍ -بعدَ أن سَلَفَ التَّعريفُ بِرَاوِيهِ-:
أحدها: هذا الحديث سَقَطَ مِنهُ سَطْرٌ، لا يستقيمُ الكلامُ بدُونهِ، وهو ثابت في أصلِ التِّرمذي، كَأَنَّ المُصَنِّفَ انتقلَ نظرهُ مِن لفظةٍ إلى أُخْرَى، وهذا لفظه فيه:"ثُمَّ قالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُوده وَذروة سَنَامِهِ؟ قلتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله! قالَ: "رَأْسُ الأَمْرِ: الإسلامُ، وَعَمُودُهُ: الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ: الجِهادُ
…
" ثُمَّ ذَكَرَ البَاقِي، ولا يستقيم الكلام بدون هذه الزيادة فانتقل نظره من "سنامه" إلى "سنامه".
وقد وقع له كذلك في كتابه "الأذكار"(2) وكأَنَّهُ قَلَّدَ في ذلك الشيخ تقي الدين ابن الصَّلاح، فإنه قال في كتابه "بُستانُ العَارفينَ" -ولم يُكمِلهُ-: "مما
(1) رواه الترمذي (4/ 362 رقم 2616)، وعبد الرزاق في "مصنفه"(11/ 194 رقم 20303)، و"تفسيره"(2/ 109)، وأحمد (36/ 344 رقم 22016)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 214 رقم 11330)، وابن ماجة (2/ 1314 رقم 3973)، وعبد بن حميد (1/ 160 رقم 112)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"(1/ 461 رقم 470، 477)، والمروزي في "الصلاة"(1/ 219 - 220 رقم 196)، والطبراني في "الكبير"(20/ 130 - 131 رقم 266)، والبيهقي في "الآداب"(158 رقم 402)، والبغوي في "شرح السنة"(1/ 24 رقم 11)، و"تفسيره"(6/ 304) عن أبي وائل - شقيق بن سلمة - عن معاذ رضي الله عنه، وفي سماع أبي وائل مِن معاذ كلامٌ.
لكن الحديث صحيحٌ بطرقه وشواهده، ولذلك صحَّحه الترمذي، وابن حبان في "صحيحه"(1/ 447 رقم 214)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 412 - 413) بعض هذه الطرق، والألباني في "الإرواء"(2/ 138 - 141 رقم 413) و"الصحيحة"(3/ 114 رقم 1122).
(2)
(366) طبعة دار الكتاب العربي، أمَّا أكثر الطبعات ومنها طبعة مؤسسة الرسالة (651) -التي اعتمدتُها- فقد ذكرت الحديث بتمامه! وبعضهم زعم أنَّه اعتمد على نسخ خطيَّة! وكذلك متون "الأربعين" فكل ما رأيته منها ذكر الحديث بتمامه ولم يُشر إلى ما ذكره المؤلف فتأمل!!
ينبغي أن يُعْتَنى به بيانُ الأحاديث التي قيل أنها أصول الإسلام، أو أصولُ الدِّين، أو عليها مَدَارُ الإسلام، أو مدارُ الفقهِ، أو العلم، وقد اختلفتِ العلماءُ في عددِها اختلافًا كبيرًا، وقد اجتهد في جمعها وتبيينها (1): ابن الصلاح، ولا مزيد على تحقيقه" (2). فَذَكَرَها إلى أن جاء إلى هذا الحديث، فذكرَهُ بالإسقاطِ المذكور سواء؛ فاستفدهُ فإنهُ يُسَاوِي رحْلَةً، والعجبُ أنَّ أحدًا مِن شُرَّاحه كابن فرح القُرْطُبِي، والفاكهي وغيرهما لم يُنَبِّهوا عليه، ولله الحمد عليه وعلى جميع نعمهِ، ثم رأيتُ بعد ذلك "سنن ابن ماجة" (3) فوجدتُهُ ذَكَرَهُ كما ذكَرَهُ المُصَنِّف سواءً، لكنه لم يعزهُ إليه حتَّى يُعْتَذَر عنه.
ثانيها: في ألفاظه:
"الخير" ضد الشر، ويُطْلَقُ على المال في قوله:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وفيه: التشويق إلى ما سَيُذكَر قَبلَ ذِكْرِهِ ليكونَ أوقَعَ في النَّفسِ.
وقوله: "أبواب" جَمْعُهُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وإن كان في سياق التَّرغيب والحصر؛ لأنَّهُ لا كَثرَةَ لهُ.
"جُنَّة" -بالضم-: مِجَنٌّ وستر ووقاية لكَ مِن النَّارِ، فَنَفَى صُورةَ الشَّهوةِ عاجلًا والنار آجِلًا، وقد قال تعالى:"الصَّومُ لي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"(4).
و"الصَّومُ": هو الصبر عن المَلَاذِّ مِن المَطعَم والمَشْرَبِ وغيرهما، وقد قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
(1) بالأصل: "بينها" والتصويب من "بستان العارفين".
(2)
"بستان العارفين" للنووي (15).
(3)
(2/ 1314 رقم 3973).
(4)
رواه مسلم (2/ 807 رقم 1151/ 165) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.
و"أبوابُ الخيرِ": طرقه الموصلة إليه، وفي "سنن ابن ماجة":"أَلَا أَدُلُّكَ على أَبوَاب الجَنَّةِ"؟
وقوله: "أَوَ لَا أَدُلُّكَ" عَرْضٌ، نحو:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} [الصف: 10] أي: عَرَضْتُ ذلك عليك (1)؛ فهل تُحِبُّهُ؟ أو نحو هذا.
و"جَوْفُ اللَّيلِ": أوسَطُهُ أو آخِرُهُ، وفي الحديث: "أَيُّ اللَّيلِ أَسْمَعْ؟ قال:
جَوْفُ اللَّيلِ الآخِرِ" (2) والمعنى: أن صلاة الرجل من الليل من أبواب الخير، وإنما خَصَّ الرجل بالذِّكرِ؛ لأَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ؛
ولأنَّ الخيرَ غالِبٌ في الرِّجال، وأكثرُ أهلِ النارِ النساءُ.
وقوله: "من جَوْفِ اللَّيل" أي: جوفه، ويحتمل أن مبتدأ الصلاة: جوفه؛ فيكون لابتداء الغاية، ويحتمل أنها للتبعيض؛ أي: صلاة في بعض جوف الليل.
وقوله: "ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] " أي: أنَّ مَن قامَ في جَوْفِ الليل، وَتَرَكَ نَوْمَهُ وَلَذَّتَهُ، وآثَرَ مَا يَرْجُوهُ مِن رَبِّهِ على ذلك؛ فجزاؤه ما في الآية من قوله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
(1) في الأصل: "عليكم"، والمثبت من "التعيين"(221)، ويدل عليه ما بعده.
(2)
رواه أبو داود (2/ 39 رقم 1277)، والنسائي (1/ 279 رقم 572)، و"الكبرى"(2/ 213 رقم 1556)، (9/ 47 رقم 9856)، وابن أبي الدنيا في "التهجد"(306 رقم 244)، والطبراني في "الدعاء"(2/ 840 رقم 128، 129)، وابن خزيمة (2/ 182 رقم 1147)، والحاكم (1/ 309)، والبيهقي (2/ 455)، (3/ 4)، وابن عبد البر في "التمهيد"(4/ 55 - 56)، عن أبي أُمامة الباهلي -صُدي بن عجلان- رضي الله عنه، عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه.
وهو حديث صحيح، صححه ابن خزيمة، والحاكم، والألباني في "صحيح أبي داود"(5/ 20 رقم 1158) وله طرق أخرى يطول ذِكرها.
وقد جاء: "إنَّ الله تعالى يُبَاهِي بِقُوَّامِ اللَّيل في الظَّلام ملاِئكَتَهُ، يقول: انظُرُوا إلى عِبادِي قد قَامُوا في ظَلَامِ اللَّيلِ حيثُ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ غَيْري؛ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَبَحْتُهم دَارَ كَرَامَتِي"(1).
و"التَّجَافي ": التَّركُ والتَّنَحِّي، جافى جنبه عن مضجعه: نحَّاهُ، وفي الحديث:"يُجَافي بِضبْعَيْهِ"(2) أي: يُبْعِدهُمَا عن الأرض وعن جَوْفِهِ؛ فمعنى: {تَتَجَافَى} : تَبعُد وتَزُول، وقيل: تنتحي إلى فوق، واستحسنه ابن عَطِيَّة (3).
و: {الْمَضَاجِعِ} : مَوضِعُ الاضطجاع للنَّوم، واختُلِفَ في وقت هذا التَّجافي: هل هو بين المغرب والعشاء، أو انتظار العشاء الآخرة؛ لأنَّها كانت تُؤَخَّر إلى نَحْوِ ثُلُثِ اللَّيل؟ على قولين.
وقال الضحاك: "تَجَافي الجَنْب هو أنْ يُصَلِّي الرَّجُلُ العِشاءَ والصُّبح في جماعة"(4).
والجمهورُ على أنَّ المُرَادَ: صلاة اللَّيلِ.
و"رَأْسُ الأَمرِ" أي: العبادة، أو الأمر الَّذي سألتَ عنه، وجعل رأس الأمر: الإسلام، شبَّههُ بالفَحلِ مِن الإبل؛ إذْ كانت خيار أموالهم، ويُشَبِّهُونَ بها رؤساءهم كما قالوا:"هو الفحلُ لا تُقْرَعُ أَنفُهُ"(5). فجعل الإسلام رأس هذا
(1) لم أقف عليه.
(2)
رواه البخاري (1/ 161 رقم 390، 807)، ومسلم (1/ 356 رقم 235) من حديث عبد الله بن مالكٍ بن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه بمعناه.
"وضبعيه" تثنية ضبع وهو وسط العضد من داخل، وقيل: هو لحمة تحت الإبط. انظر: "النهاية"(3/ 73)، و"فتح الباري"(2/ 343).
(3)
انظر: "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" تأليفه (7/ 75).
(4)
ذكره القرطبي (14/ 100)، وابن كثير (6/ 363) في تفسيريهما.
(5)
"يُضربُ للشَّريف لا يُرَدُّ عن مُصاهرةٍ ومواصلةٍ". "مجمع الأمثال" للميداني (3/ 485).
الأمر، ولا يعيشُ الحيوان بغير رَأسٍ، والإسلامُ هنا هو: الإيمانُ.
"وَعَمُودِهِ": ما اعتُمِدَ عليه كعَمُودِ الخَيْمَةِ؛ فالعَمُودُ هو الَّذي ويُقِيمُهُ، ولَا ثَبَاتَ لهُ في العِبادَةِ بغير عمُودِهِ.
و"ذِرْوَة" -بكسر الذال وضمها له بصورة سنام البعير طرف سنامه، والقياس جواز الفتح كـ "جذوة"، وقد قُرِئ في {جَذْوَةٍ} [القصص: 29] بالحركات الثلاث (1)، - أعلى كل شيء استعاره بصورة البعير وأجزائه، وذروة سنام البعير: طَرفُ سنامهِ.
وذكره الجهاد؛ لأنّهُ (2) مَقْرُونٌ بالهداية بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] والهداية محصلة لمقصود هذا السائل، ويلزم منها دخول الجنّة والمباعدة من النار؛ فلا جرم كان كذلك.
و"مِلاكُ" -بكسر الميم- أي: رابِطُهُ وضَابِطُهُ ومقصودُه، لأنَّ الجهادَ وغيره مِن أعمالِ الطَّاعةِ غَنِيمةٌ، وكَفُّ اللِّسان عن المحارم سلامةٌ، والسلامةُ في نَظَرِ العُقَلاءِ مقدَّمةٌ على الغنيمةِ.
وثَبَتَ في "الصَّحيح": "إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوَانِ الله لَا يُلْقِي لها بالًا، يُكْتَبُ لَهُ رضوانه إلى يومِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله لَا يَعْلَمُ أَنَّها تَقَعُ حيثُ تَقَعُ، فيُكتَبُ لهُ بها سخط الله إلى يوم القيامة، أو قال: يَهوِي بها في النَّارِ سَبْعِينَ خَريفًا"(3) أو كما قال.
(1) انظر: "جامع البيان في القراءات السبع" للحافظ أبي عمرو الداني (4/ 1450).
(2)
في الأصل: "لأنهم" وما أثبتناه يقتضيه السياق، وهو في "التعيين"(223) كذلك.
(3)
مضى تخريجه ص (216).
قال الجوهري رحمه الله: "مِلاكُ الأَمرِ ومَلَاكُهُ: ما يقومُ بهِ"(1).
قال الفاكهي: "يُريدُ بفتح الميم وكسرها"(2).
ويقال: القلبُ مِلَاكُ الجَسَد.
و"اللسان": جَارِحَةُ الكَلام، وَيُطْلَقُ على اللُّغةِ والكلام، قال تعالى:{إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] أي: بِلُغَتِهِم، ويُطْلَقُ على لِسان الميزان أيضًا، و"اللِّسن" بكسر اللام: اللغة.
و"الجارحة" تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ.
و"الثَّكلُ" - بالإسكان والتحريك-: فقدانُ المرأةِ ولدَها، وهو من باب:"عَقْرَى حَلْقَى"(3) كما سيأتي.
و"يكُب" -بضم الكاف-: يُلقى، و"كب" من النوادر، يتعدَّى ثُلاثِيًّا لا رباعيًّا، تقول: كَبَبْتُ الشَّيءَ وأَكُبُّهُ، فلا يتعدَّى.
و"الحَصَائِدُ": ما قيل في الناس باللِّسان وقُطِع به عليهم، جَمْعُ حَصِيدةٍ؛ أي: محصُودةٍ، شبَّهَ ما تكسبه الألسن من الكلام الحرام بحصائد الزرع بجامع الكسب والجمع (4).
(1)"الصحاح"(4/ 1611). وما بعد كلام الفاكهاني من كلام الجوهري أيضًا.
(2)
"المنهج المبين في شرح الأربعين" تأليفه (453).
(3)
قطعةٌ من حديث رواه البخاري (2/ 142 رقم 1561)، ومسلم (2/ 877 - 878 رقم 1211/ 128) من حديث عائشة رضي الله عنها.
ومعنى قوله: "عقرى" أي: عقرها الله تعالى. و"حلقى": حلقها الله يعني: عاقر الله جسدها وأصابها بِوجع في حَلْقِها. انظر: "تهذيب اللغة"(1/ 2015 - 216)، و"فتح الباري"(3/ 689).
(4)
في الأصل طُمِست بعض أحرف هاتين الكلمتين، والتصويب من "التعيين"(225).
ثالثها: في فوائده:
فللَّه در معاذ ما أفصحه، لقد أوجز وأبلغ، وحَمِدَ الشَّارعُ مسألته، وأعجبه من فصاحته وقال:"لقد سَأَلتَ عَنْ عَظِيمٍ"، واستعظامه مُنْصَرِفٌ إلى العَمَلِ المطلوبِ الإيثارُ به لا ليتجنَّبه؛ بدليل قوله:"وإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَن يَسَّرَهُ اللهُ تعالى عليهِ" بمعنى: على مَن وَفَّقَهُ وهَدَاهُ وشَرَحَ صَدْرَهُ وَأَعَانَهُ على مَا وفَّقَهُ إليهِ، ثُمَّ أَرْشَدَهُ لعبادَتِهِ مُخْلصًا له الدِّين بقوله:"تَعبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بهِ شيئًا" والظَّاهِرُ أنَّ العبادةَ هنا: التَّوحيد؛ بدليل قوله: "لا تُشْرِكُ بهِ شَيْئًا"، ومنه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]: وَحِّدُوهُ.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]: لِيُوَحِّدُوني.
فعلى هذا يكونُ قد ذَكَرَ لهُ التَّوحِيدَ وأعمالَ الإسلام، ويُحْتَمَلُ أنَّ العبادَةَ هنا تَتَنَاوَلُ الإيمانَ الباطن والإسلام الظاهر، ويكون قوله: "وَتُقِيمَ الصَّلاةَ
…
" إلى آخره، عَطفُ خَاصٍّ على عَامٍّ؛ لتضمن قوله: "تَعْبُدُ اللهَ" لِمَا بعدَهُ، ثم قال: "وَتُقِيمَ الصَّلاةَ" وإقامة الصلاة: الإتيَانُ بها على أحوالها؛ كما قال في الحديث الآخر: "تَسْوِيَةُ الصَّفِّ مِن كَمَالِها" (1).
ثُمَّ ذَكَرَ له شَرَائِعَ الإسلامِ مِن الزَّكاةِ والصَّومِ والحجِّ، ثم دَلَّهُ على أبوابِ الخير؛ فقال:"الصَّومُ جُنَّةٌ" ويجوزُ أن يكونَ الصَّومُ هنا غير الفرض، والمراد: الإكثارُ مِنهُ.
ثم قال: "والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئةَ" أي: تَمْحُوهَا: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وإِنَّمَا استَعَارَ لفظَ الإطفاء لمقابلة "كَمَا يُطْفِئُ الماءُ
(1) رواه البخاري (1/ 145 رقم 723) ومسلم (1/ 324 رقم 433) من حديق أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: "
…
من تمام الصلاة".
النارَ؛، فَإِنَّ الخطيئةَ يترَتَّبُ عليها العِقابُ الذي هو أثرُ الغضب، والغضب يستعمل في الإطفاء، يقال: طفئ غضب فلان وانطفأَ غضبه؛ لأنَّهُ فَوَرَانُ دَمِ القلب عن غلية الحرارة كما سلف، ولعلَّه إِنَّما خَصَّ الصدقة لتعدِّي نفعها؛ ولأنَّ الخلقَ عِيالُ الله، والصدقة إحسانٌ إليهم، والعادَةُ أنَّ الإحسانَ إلى عيالِ شخصٍ تُطْفِئُ غَضَبَهُ، وشبَّهها بإطفاءِ الماء النار؛ لأنَّ بينهما غاية التضاد، إذ النار حارة يابسة، والماء بارد رطب؛ فقد ضادها بكيفيته جميعًا، والضِّدُّ يدفع الضد ويعدمُهُ، وقد سلف أنها "برهانٌ" أي: على صدقِ الإيمانِ؛ لأَنَّ غيرها لا ينتظر ثوابه بخلافه فيها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليسَ لَكَ مِن مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقتَ فَأَبْقَيْتَ، أو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ"(1) فجعل الصدقة هي الباقية لَهُ، ويُريد بها غيرَ مَا أسلَفَهُ مِن الزَّكاةِ.
وقد جاء في الخبر: "أنه عليه الصلاة والسلام ذَبَحَ شاةً، فَتَصدَّقَ بِلَحْمِها غير الذِّراع، ثُمَّ دَخَلَ البيتَ فقال: "هلْ بَقِيَ مِنها شَيْءٌ" -يُريدُ أنْ يُتَصَدَّق بهِ-؟ فقالوا: واللهِ مَا بَقِيَ إلَّا الذِّرَاعُ، فقال: "واللهِ كُلُّها بَقِيَتْ إلَّا الذِّراع"! (2).
ثم أرشَدَهُ إلى الصلاةِ في جوف الليل وتلا الآية، والنصف الثاني من الليل أفضل من الأول، والثلث الأوسط أفضل من الأول والآخر، والسدس الرابع والخامس أفضل من الأوائل والأُخَر.
(1) رواه مسلم (4/ 2273 رقم 2958) من حديث مُطَرِّفٍ، عن أبيهِ رضي الله عنه.
(2)
رواه الترمذي (4/ 254 رقم 2470)، وأحمد (40/ 286 رقم 24240)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 180 رقم 9904)، والبيهقي في "الشعب"(5/ 54 رقم 3086)، و "الكبرى"(9/ 250) عن عائشة رضي الله عنها.
والحديث صححه الترمذي، والألباني في "الترغيب"(1/ 516 رقم 859).
وقيل: هل لابُدَّ مِن فعلهِ بعد هَجْعَةٍ، أَوْ لَا يُشتَرَطُ؟ فيه خلافٌ للعلماء، وظواهر الأحاديث تقتضي الإطلاق.
ثم أخبَرَهُ برأسِ الأَمْرِ وعمودِه وذروةِ سَنَامهِ، والجهادُ لا يقاوِمُهُ شيءٌ مِن الأعمال، وإن كان نَقْلُ العِلمِ أَفْضَل، وقد قالوا:"يا رسول الله! مَا يَعْدِلُ الجهاد؟ فقال: "لَا تُطِيقُونَهُ". ثُمَّ ذَكَرُوا سؤالهم، فقال: "لَا تُطِيقُونَهُ". ثُمَّ قال: "أَيَسْتَطِيعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَدخُلَ بيتًا فيصومُ ولا يُفْطِر، ويُصَلِّي ولا يَفْتُرُ"؟ فقالوا: لا، فقال:"إِنَّمَا مَثَلُ المجَاهِدِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ الذي لَا يَفْتُرُ مِن صَلاةٍ وَلَا صِيَامٍ"(1).
ثم نَقَلَهُ مِن الجهاد الأصغر إلى الأكبر، وهو جهادُ النَّفس وقمعها من الكلام فيما يُرْدِيها (2) ويؤذيها، ثم جعل أكثر دخول الناس النار من ألسنتهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"مَنْ يَضْمَنْ لي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ"(3)، وقد سلف في الحديث شرحُ الصمتِ وما فيه من الخير والسلامة (4).
وأَمَّا أخذه عليه الصلاة والسلام بلسانه؟ فَلِأنَّهُ أبلغُ في الزَّجرِ، كما في قول الخليل عليه الصلاة والسلام:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
فائدة: قال ابن هبيرة في "إجماع الأربعة": "اختَلَفُوا في أفضل الأعمال بعد الفرض؛ فقال الشافعي رحمه الله: الصلاة فرضًا ونَفْلًا.
وقال أحمد رحمه الله: "لا أعلمُ بعدَ الفرائض أفضل من الجهاد".
(1) رواه مسلم (3/ 1498 رقم 1878) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في الأصل: "يردها" ولعل ما أثبتناه أنسب.
(3)
رواه البخاري (8/ 100 رقم 6474) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
(4)
يعني في الحديث الخامس عشر من هذه الأربعين.
ومذهبُ مالك وأبي حنيفة -رحمهما الله- أنَّهُ لا شيء -بعد فرائض الأعيان من أعمال البر- أفضل من العلم ثم الجهاد" (1).
رابعها: إنما قال: "سَأَلْتَ عن عَظِيمٍ"، لأنَّ عِظَمَ المُسَبِّبات بِعِظَم الأسباب (2)، ودخول الجنة والتباعد عن النار أمرٌ عظيم، سببه: امتثال المأمور واجتناب المحظور، وذلك عظيمٌ صَعبٌ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَمَا قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].
ثم قال: "وإِنَّهُ لَيَسِيرٌ على مَن يسَّرَهُ الله عليه" بِشَرْحِ الصَّدرِ للطَّاعةِ، وتهيِئَةِ أَسبابِها، والتوفيق لها:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، وبالجملةِ: فالتَّوفيقُ إذا ساعَدَ على شيء يُسِّرَ، ولو كان نقل الجبالِ.
خامِسُها: قوله: "كُفَّ عَلَيكَ هَذَا" لفظَةُ "على" إِمَّا بمعنى "عن" أو أنه ضمن "كف" بمعنى: احبس، أي: احبس عليك لسانك، لا يؤذيك بالكلام. وفي الحكمة (3):"لِسَانُكَ أَسَدُكَ، إِن أَطْلَقْتَهُ فَرَسَكَ، وَإِنْ أَمْسَكْتَهُ حَرَسَكَ". وكان الصِّدِّيقُ رضي الله عنه يُمْسِكُ لِسانَهُ ويقول: "هذا الذي أَوْرَدَني المَوَارِد"(4).
(1) لم أقف على هذا النص في كتابه المشار إليه، وقد ذكره الفاكهاني في "المنهج المبين"(453).
(2)
في الأصل: "لأن عظم اللسان تعلم الأسباب"! وهو من تحريفات الناسخ، والمؤلف أخذ الكلام من "التعيين"(220) ومنه صوَّبنا الخطأ وبالله التوفيق.
(3)
في الأصل: "الجملة" والتصويب من "التعيين"(224)، وبعدها في الأصل:"أسيرك" بدل "أسدك" والتصويب من نفس المصدر.
(4)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(125 رقم 369)، ومالك في "الموطأ"(2/ 586 رقم 2825)، وابن وهب في "الجامع"(1/ 423 رقم 308)، (2/ 520 رقم 412)، ووكيع في "الزهد"(2/ 556 رقم 287)، وابن أبي شيبة في "المُصَنَّف" (8/ 589 رقم=
وقوله "كُفَّ" يحتمل عمومه، وخصَّ منه الكلام بالخير، كقوله:"فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"(1) ويُحْتَمَل أَنَّهُ مِن باب المُطْلَقِ، وقد عمل به في كَفِّ اللسان عن الشر؛ فلا تَبْقَى له دِلالةٌ على غير ذلك.
وأَصْلُ الاحتمالَيْن أنَّ الفِعلَ يَدُلُّ على المصدرْ، لكن [هل](2) يُقَدَّر المصدر مُعَرَّفًا فيَعُمْ، نحو:"اكفف الكف"، أو مُنَكَّرًا فَلَا يَعُم:"اكفف كفًا"، أو يَنْبَنِي على أنَّ المصدرَ جِنسٌ، فيعم أَوْ لا فَلَا. وعليه اختلف -فيما أحسب- إذا قال: طلقتُكِ طلاقًا، هل يقع ثلاثًا أو واحدةً؟
وقول معاذ: "إِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بهِ؟ " هو استفهام استئناف وتعجب، لا يقال: كيف خفي ذلك عنه وقد قال الشارع في حَقِّهِ: "إِنَّهُ أَعلَمُكُمْ بالحَلالِ والحَرَامِ"(3) والكلام المؤَاخَذُ به حرامٌ، لأن ظاهر الحلال والحرام في المعاملات الظَّاهرة بين الناس، لا في مُعَامَلاتِ العبدِ مع ربِّهِ، أو حَصَلَت له هذه الرُّتبة بَعْدُ.
= 26910)، و"الأدب"(245 رقم 222)، وهنَّاد في "الزهد"(2/ 531 رقم 1093)، وأحمد في "الزهد"(109، 112)، وأبو داود في "الزهد"(53 رقم 30)، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(186 رقم 13)، و"الورع"(76 رقم 92)، وابن أبي عاصم في "الزهد"(20 رقم 18، 19)، وأبو يعلى في "المسند"(1/ 17 رقم 5)، وابن السني في "عمل اليوم"(4 رقم 7)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 33) وغيرهم.
(1)
سبق تخريجه وهو الحديث الخامس عشر من "الأربعين".
(2)
ما بين المعقوفتين من "التعيين"(224) لأن الفائدة الخامسة كلها منه!
(3)
رواه الترمذي (6/ 127 رقم 3791)، والنسائي في "الكبرى"(7/ 345 رقم 8185، 8229)، وابن ماجه (1/ 55 رقم 154)، والطيالسي (3/ 567 رقم 2210)، وأحمد (20/ 252 رقم 12904)، (21/ 406 رقم 13990)، وابن حبان (16/ 74 رقم 7131، 7137، 7252)، والحاكم (3/ 422)، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 210) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وهو حديث صحيح، صحَّحه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والألباني في "الترمذي"(2981).
وقوله: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ" حقيقتُهُ الدُّعاءُ بموتِهِ، لكن غَلَبَ ذلك على الألسنةِ مِن غير قَصدِ حقيقتِهِ.
وقوله: "وهل يَكُبُّ" استفهامُ إنكارٍ؛ أي: ما يكب الناسَ إلَّا حصائِدُ ألسِنَتِهِمْ؟! وهو يَقْتَضِي أنَّ كُلَّ مَن يُكَبُّ في النار فَسَبَبُ ذلك لسانُهُ، وهو عامٌّ أُريدَ به الخاصُّ؛ فإنَّ فيهم مَن يكب فيها بعَمَلِهِ، واِنَّما خَرَجَ هذا مَخْرَجُ المبالغةِ في تعظيم الكلام كـ "الحَجُّ: عَرَفَةُ" أي: مُعْظَمُهُ؛ كَذلكَ (1) مُعْظَمُ أسبابِ [النار] (2) الكلام، كالكفرِ والقَذْفِ والسَّبِّ والنميمةِ وغيرِ ذلك" لأنَّ الأعمالَ يلقيها الكلام غالبًا، فلهُ حَظٌّ في سببِ الجزاءِ ثوابًا وعقابًا، وفي المَثَل:"يقول اللسان للقفا كُلَّ يوم: كيفَ أصبحتَ؟ فيقول: بخيرٍ؛ إنْ سَلِمتُ مِنكَ"! (3).
(1) في الأصل: "معظمه كذا هذا .. " والمثبت من "التعيين"(226) ولعله الصواب.
(2)
ما بين المعقوفتين من "التعيين"(226)، و"الفتح المبين"(490).
(3)
الفائدة الخامسة مستفادة من "التعيين"(224 - 226) بتصرف يسير!