الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والأربعون
عنْ أنس رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "قالَ اللهُ تَعَالى: يَا ابنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَني وَرَجَوْتَنِي، غَفَرتُ لَكَ عَلى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي.
يا ابنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرتَني، غَفَرتُ لَكَ.
يا ابنَ آدَمَ، لَوْ أَتَيتني بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَني لا تُشْرِكُ بي شَيْئًا؛ لأتَيتكَ بقُرَابِها مَغْفِرَةً".
رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"(1).
الكلام عليه وجوه:
أحدها: في التعريف براويه، وقد سَلَفَ.
وأخرجه أبو عوانة في "مسنده الصحيح" من حديث أبي ذر رضي الله عنه (2).
(1) رواه الترمذي (5/ 509 رقم 3540) والحديث له شاهد من حديث أبي ذر كما سيأتي. والذي في الترمذي: "حسن غريب"! وفي بعض النسخ: "حسن".
(2)
حديث أبي ذر رضي الله عنه: رواه أحمد (35/ 375 رقم 21472، 21505، 21506)، وأبو عوانة كما في "إتحاف المهرة"(14/ 195 رقم 17620)، وابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله"(42 رقم 32)، والدارمي (3/ 1835 رقم 2830)، والطبراني في "الأوسط"(3/ 252 رقم 3060)، (7/ 368 رقم 7748)، و"الدعاء"(2/ 791 رقم 13)، والحاكم (4/ 241). والحديث صححه الألباني في "الصحيحة"(1/ 199 رقم 127).
ثانيها: في ألفاظه وفيه مواضع:
أحدها: "آدم" قيل: أعجمي لا اشتقاق له.
وقيل: هو عربي مُشْتَقٌّ مِن أَدِيم الأرض؛ لأنه خُلِقَ منه، أو من الأدمة -وهي حمرة تميل إلى السواد- وهو لا يَنْصَرِفُ؛ للعلَمِيَّة ووزن الفعل؛ إذ وزنه "أفعل" مثل أحمر، والأصل "أأدم" بهمزتين أُبدلت الثانية -وهي فاء الفعل- ألفًا، ولا يجوز أن يكون وزنه فاعلًا؛ إذ لو كان كذلك لانصرف مثل "عالم" و"خاتم"، والتعريف وحده غير مانع، وليس بأعجمي لا كما قال الأول.
وجمعُهُ: أَو آدم، مثل: أحمر وأحامر، وقيل: وزنه "فاعل" وجمعه: آدمون وأوادم، ويلزم قائل هذه المقالة صرفه كما سلف.
وقال الطبري: ""آدم" فعل رباعي سمي به"(1).
وفي الحديث: "خُلِقَ آدم مِن أَدِيم الأرض كُلِّها؛ فَخَرَجَت ذُرِّيته على نحوِ ذَلِكَ، فيهم الأبيضُ والأسودُ والأحمَرُ، والسَّهلُ والحَزَنُ، والطَّيِّبُ والخَبِيثُ"(2).
ثانيها: "ما دعوتني" أي: مدة دوام دعائك؛ فهي مصدرية ظرفية، نحو قوله تعالى:{مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37].
(1) انظر: "جامع البيان" للطبري (1/ 482).
(2)
رواه أحمد (32/ 352 رقم 19582)، وأبو داود (5/ 46 رقم 4693)، والترمذي (5/ 71)، وابن سعد في "الطبقات"(1/ 26)، والطبري في "تفسيره"(1/ 481 رقم 645 ط شاكر)، وابن خزيمة في "التوحيد"(1/ 152 رقم 83، 84)، وابن حبان (14/ 29 رقم 6160، 6181)، وأبو الشيخ في "العظمة"(5/ 1544 رقم 1002)، والحاكم (2/ 261) من حديث أبي لموسى رضي الله عنه وهو حديث صحيح، صححه الترمذي، وابن حبان والحاكم، والذهبي، وأحمد شاكر، والألباني في "سلسلته الصحيحة"(4/ 172 رقم 1630).
وغَلِطَ بعضُ الشُّرَّاح مِن الفُقهاء؛ فقال: هي شرطية.
ثالثها: "الرجاء" -ضد اليأس-: وهو تأميل الخير واعتقاد قرب وقوعه، وهو ممدود، والمقصور " الرجا" بمعنى: الناحية، ومنه قوله تعالى:{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] وكذا: رجا البئر.
رابعها: "غَفَرْتُ لَكَ" أي: سترتُ، كما سلف في شرح الخُطبَةِ، والفعل: غَفرَ يَغْفِرُ، وفيه لغة: غَفِرَ يَغفَر، والمصدر: الغفر والغفران والمغفرة -اللهم اغفر لنا-.
فائدة: "العفو" مثله، تقول: عفوتُ عن الرَّجُل، إذا تَرَكْتَ ذَنبَهُ ولم تُعَاقِبهُ.
وأشار ابن عطية رحمه الله إلى فَرقٍ لَطِيف بينَهُما؛ فقال في قوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]: " {وَاعْفُ عَنَّا}، فِيمَا وَاقعنَاهُ وانكَشَف، {وَاغْفِرْ لَنَا}، أي: استُر ما عَلمتَ مِنَّا، {وَارْحَمْنَا} تَفَضَّل مبتدئًا برحمةٍ مِنكَ"(1).
فائدة: للتوبةِ أركان ثلاثةٌ: الإقلاع عن المعصيةِ، والنَّدمُ على ما وَقَع منه، والعزمُ على ألا يعودَ؛ فإن تعلَّقت بآدميٍّ فبأَدَاءِ الحقِّ إليهِ، أو التَّحللَ مِنهُ؛ فإن كان فيها كفَّارةٌ تَوَقَّفت على فِعلِها.
خامسها: قوله: "عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ" أي: على تَكرار معصيتك.
وقوله: "ولا أُبَالي" أي: بذنوبك، وكأنه من "البال"، لأنه تعالى لا حُجَّةَ عليه فيما يَتَفَضَّلُ به، ولا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ، ولا مانع لعَطَائهِ، وهو أَهلُ التَّقْوى وأهلُ المَغفِرة.
(1)"المحرر الوجيز" تأليفه (2/ 145) ط قطر.
سادسها: "عَنَان" -بفتح العين المهملة- هو السحاب، الواحدة: عنانة وأعنان.
و"أعنان السماء": صفائحها وما اعتَرضَ مِن أَقطَارها؛ كأنه جمع "عنن".
وقيل: هو ما عَنَّ لك منها؛ أي: ظهر إذا رَفعتَ رَأسَكَ.
والمعنى: لو قدَرت ذنوبك أشخاصًا؛ فملأت ما بين السماء والأرض، وهذا مثال في المتناهي؛ فكيف في غير المتناهي؟! فإن كرم الباري تعالى وفضله وإحسانه وجوده لا نهاية له.
سابعُها: "قُرَاب" -بضم القاف أشهر من كسرها-، ومعناه: ما يقارب ملأها وقيلَ: مِلْؤُها، وهو أشبه؛ لأن الكلام في سياق المبالغة.
ثامِنُها: الدعاء يتناول النفع والصلاح والرجاء.
تاسعها: معنى "لَقِيتَني لا تُشْرِكُ بي شَيْئًا" أي: مُتَّ مُعتَقِدًا توحيدي، مُصَدِّقًا برُسلي؛ فلا راحة للمؤمن دون لقاء ربهِ، فالإيمان شرط في غفران الذنوب التي هي دون الشّرك؛ فإنه الأصلُ المَبْنيّ عليه قبول الطاعات وغفران المعاصي، أما مع الشِّرك فلا أصلَ يَبْتَنِي عليه ذلك:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23] فالذَّنبُ إنْ كان شِركًا فغفره بالاستغفار منه وهو الإيمان، وإن كان غيره فبسؤال المغفرة.
الوجه الثالث: في فوائده:
فيه: الحثُّ على الدُّعاء، ومن خالف في ذلك فلا يعبَأُ بهِ، وقد قال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] أي: قريب بالإجابة والقدرة إذا لم يكن فيه اعتداء.
وفي "الصحيح": "أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا قال: اللَّهمَّ اغفر لي ذَنْبِي، فقال تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَأْخُذُ بالذَّنب". قال في الثالثة -أو الرابعة-: "اعمَلْ مَا شِئْتَ فَقد غَفَرتُ لَكَ"(1). أي: ما دمتَ تُذنب وتتوب وتستغفر.
ولا شكَّ أنَّ الدُّعاءَ مُخُّ العِبادَةِ، والرَّجاء يتضمَّن حسن الظن بالله، وهو يقول:"أَنا عِندَ ظَنِّ عَبْدِي بي"، وعند ذلك تتوجه الرحمة على العبد، وإذا توجهت فلا مُمسِكَ لها، ولا يتعاظمها شيء؛ لأنَّها وَسِعَت كُلَّ شيءٍ، فلو بَلَغَت ذنوبُ العبد الأرض والفضاء حتى ارتفعت إلى السماء ثم استغفرها غُفرت له؛ لأنه طَلَبَ الإقالةَ مِن كريم، فإن الاستغفار استقالة، والكريم محل إقالة العَثَرات وغفر الزلات، وقد طلب الاستغفار، ووعد بالإجابة، قال تعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، وقال تبارك وتعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 52] الآية، وفي الحديث:"لولا أنَّكُم تُذْنِبونَ لَذَهبَ اللهُ بكُم وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ غَيْركُم، فَيُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ؛ فَيَغْفِرُ لَهم"(2).
وفي التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
والإجماعُ قائِمٌ على ذلك، أعني: على أنَّ مَن ماتَ كَافِرًا يُخلَّد، وأن من مات عاصيًا لا يُخَلَّد؛ بل هو تحت المشيئة، وهذا إحسانٌ عامٌّ، وحلم وافِر، وفَضْل كَثِير وبُشْرَى، ونظِيرُهُ الحديث الصحيح:"واللهِ، للهُ أَفْرَحُ بتوبةِ أَحَدِكُم مِنْ أَحَدِكُم بضَالَّتِهِ لَوْ وَجَدها"(3).
(1) رواه البخاري (9/ 145 رقم 7507)، ومسلم (4/ 2112 رقم 2758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (4/ 2105 رقم 2748) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (8/ 68 رقم 6380)، ومسلم (4/ 2103 رقم 2744) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وفَرَحُ البارِي: رضاه من عبده (1).
وحقيقةُ لفظِ الاستغفارِ: اللَّهمَّ اغفر لي، ويقوم مقامه: أستغفر الله؛ لأنه خَبَرٌ في معنى الطّلب.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أَمرنا، وتُبْ علينا؛ إنك أنت التوَّابُ الرَّحيم.
آخر الكَلام على "الأربعين" على وجهِ الاختصار، الجامِعةِ لقواعدِ الإسلام ومباني الأحكام، وكان مُصَنِّفهُ وَعَدَ بشرح؛ فعاقَهُ القَدَرُ، وقِصَرُ العُمر، فلا حذَرَ منهُ ولا مَفَر، وله أجرُ أَمَلِهِ؛ فنِيَّةُ المؤمن خير مِن عملِهِ.
والحمدُ لله ربِّ العالمينَ.
قال شيخنا مؤلفه -فسح الله في مُدَّتهِ، ونفع الله الإسلام بعلومه وبركته-: وقد كنتُ فرغتُ مِن تسويدها يوم الجمعة سابع عشر رمضان المعَظَّم، من سنةِ تسع وخمسين وسبعمائة، واتَّفق تبييضه يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة من سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وأجزتُ رِوَايَتَهُ لِمَنْ أدركَ حَيَاتي من المسلمين قاله (2) مؤلفه غفر الله له، وختم له بالحسنى بمَنِّهِ وكَرَمهِ؛ إنه على كل شيء قدير.
(1) تفسير "الفرح" بالرضا غير صحيح، والصواب إجراء الصفات على ظاهرها، والفرح معروف، ولا يحتاج إلى تفسير، هو بيِّنٌ في نفسه، وفرح الله صفة من صفاته الفعلية، وهو ليس كفرح عباده، لا في ذاته، ولا في أسبابه، ولا في غاياته، فسببه كمال رحمته وإحسانه التي يُحِبُّ من عباده أن يتعرَّضوا لها، وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين، ثم من لوازم فرحه رضاه عن عبده.
(2)
في الأصل: "قال".
وكاتبه: العبدُ الفقير المعترف بالتقصير: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار ابن أبي بكر بن حسين الشعبي، غفر الله تعالى له ولوالديه، ولمن دعا لهم بالمغفرة، ولمن كتب له، ولوالديه، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، آمين، والحمد لله أوَّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، كما يُحِبُّ ربنا ويرضى.
وكان الفراغ من فراغه: بعد صلاة الظهر يوم الإثنين ثاني عشر شهر شوال الواقع في سنة (913) من الهجرة النبوية، على شارعها أفضل الصلاة والسلام،
والحمد لله رب العالمين (1).
(1) كتب في هامش "الأصل": "بلغ مقابلة على حسب الطاقة والإمكان، على نسخة فيها سُقْم، فلله الحمد على ذلك أولًا وآخرًا، وظاهِرًا وباطنًا، كما يُحِبُّ ربنا وَيَرضَى".
قال محققه دَغَش بن شبيب بن فنيس العجمي -غفر الله له ولوالديه-: وكان الفراغ منه في الثامن من ذي القعدة لعام (1430 هـ) بعد انقطاع طويل، على حسب الجهد والطاقة، نسأل الله أحسن القبول، والحمد لله على كل حال، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
كان بكر بن خنيس إذا حدَّث يقول: "اكتبوا في أواخر كتبكم: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. رواه ابن بشكوال في "الصلة" (1/ 309) نسأل الله القبول وحصول المأمول. ثم نظرتُ فيه مرة أخرى وصوَّبت ما نَدَّ عَنِّي من خطأ، وعارضت المطبوع على النسخة الخطيَّة، وأتممتُ الفهارس العلمية في مجالس كثيرة كان آخرها في أواخر شهر جمادى الآخرة عام (1432 هـ) والحمد لله رب العالمين على مِننه وأفضاله.