الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحَدِيثُ الخَامِسُ والثلاثُون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، ولا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بيعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَكْذِبُهُ، ولا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا" -وَيُشِيرُ إلى صَدْرِهِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ- "بحسبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَام: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ".
رواه مُسْلِمٌ (1).
* * *
هذا حديثٌ عظيمُ الفوائدِ كثيرُ العوائدِ:
أحدها: "الحسد": تمني زوال النعمة، وهو حرام قبيح بالإجماع، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"إِيَّاكُم والحَسَدَ؛ فإنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ -أو قال: الخَشَبَ-"(2).
وهو لُغةً: تَمَنِّي زوال نعمة المحسود وعودها إليك، يقال: حسده يحسده
(1)(رقم 2564).
(2)
رواه أبو داود (5/ 133 رقم 4903)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق"(339 رقم 767)، وابن بشران في "الأمالي"(1/ 310 رقم 713، 868)، والبيهقي في "الشعب"(9/ 10 رقم 6184)، و"الآداب"(60 رقم 139) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال البخاري في "تاريخه"(1/ 272 - 273): "لا يصح"، وفيه من لم يُسَم.
حسودًا، وبعضهم يقول: يحسِد -بكسر السين- والمصدر: حسدًا -بالتحريك- وحسادة، وحسدتك على الشَّيء، وحسدوك عليه؛ فأمَّا "الغِبطَةُ" فهي: تمَنَي حالَ المغبوطِ مِن غير أن يُريدَ زَوَالَها عنهُ، تقول منه: غَبَطَهُ بما نالَ غَبطًا وغِبطَةً.
وقد يوضع الحسد موضعها لتقارُبِهِمَا، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا حَسَدَ إلا في اثنتين
…
" (1). أي: لا غِبطَةَ أعظمَ ولا أحقَّ مِن الغبطةِ بهاتين الخَصلَتَيْن.
فمعنى "لا تَحَاسَدُوا" -والأصل: "لا تتحاسدوا" فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا-: لا يحسد بعضكم بعضًا، ووجه قبح الحسد أنه اعتراض على الخالق ومعاندة له.
ولبعضهم:
أَلَا قُلْ لِمَن بَاتَ لي حاسِدًا
…
أتدرِي على مَن أسأتَ الأدب
يعني: على الله سبحانه وتعالى حيثُ كَرِهتَ فَضْلَهُ، وعانَدتَ فِعلَهُ.
وقال أبو الطَيِّب -رحمه الله تعالى-:
وأَظلمُ أَهْلِ الأرضِ مَن كَانَ حَاسِدًا
…
لِمَن بَاتَ في نَعمَائِهِ يَتَقَلَّبُ
ووجه ظلمه: أنه يجب عليه أن يحب لمحسوده ما يحب لنفسه، وهو لا يحب لنفسه زوال النعمة؛ فقط أسقط حق محسوده عليه؛ ولأن في الحسد تعب النفس وحزنها بغير فائدة وبطريق محرمة؛ فهو تصرف رديء:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وفي الحكمة: إن الحسود لا يسود.
دعَ الحسودَ وما يلقاهُ من كَمَدِه .... كَفَاكَ مِنهُ لَهِيبُ النَّار في كَبدِهْ
(1) رواه البخاري (6/ 191 رقم 5025)، ومسلم (1/ 558 رقم 815) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
إن لُمتَ ذَا حَسَدٍ نَفَّسْتَ كُرْبَتَهُ .... وإِنْ سَكَتَّ فَقد عَذَّبتَهُ بيَده
الثانية: "النَّجَش" في اللغة: الختل؛ أي: الخداع، ومنه قيل للصائد: ناجش؛ لأنه يختل الصيد ويَحتالُ له؛ فمعنى "لا تناجشوا": لا ينجش بعضكم على بعض، وهو: أنْ يَزيدَ في الثمَنِ لا لِرَغْبَةٍ؛ بل لِيُغْر غَيْرهُ، وهو حرام لأنه غش وخديعة؛ فمن غشنا فليس مِنَّا، ولأنه تَرَكَ النَّصحَ الواجِبَ، وتركُ الواجِبِ حرام، وقد يكون بمواطأة وبدونها.
وقد اختُلِفَ في صِحةِ البيع المنجوش فيه؛ فقيل: يبطل بناءً على أن النَّهيَ يقتَضِي الفساد، وهو أحد الأقوال في الأصول، وثالثها في العبادات دون المعاملات، رابعها: إن رجع إلى معنى في المَنْهي عنه فتعم وإلَّا فلا، والتحقيق: إن رجع لذات المنهي عنه أو لوصف لازم له اقتضى الفساد، أو لأمر خارج أو لوصف غير لازم فلا، ومذهب الشافعي رحمه الله أن البيعَ صَحِيح؛ لأنَّ النَّهيَ فيه ليس راجعًا إلى العقد ولا ما يلزمه من ركن أو شرط، والأصح عند أصحابه لا خيار له لتقصيره (1).
الثالثة: معنى "لا تَبَاغَضُوا": لا تتعاطوا أسباب البغضاء؛ لأنَّ الحُبَّ والبغض معانٍ قلبِيَّةٌ لا قدرَةَ للإنسان على اكتسابها، ولا يملك التصرف فيها، كما قال عليه الصلاة والسلام:"اللَّهمَّ هذا قَسْمِي فِيمَا أملِكُ؛ فَلَا تَلمني فِيمَا تَملِكُ وَلا أَملِكُ"(2) يعني: القلب؛ أي: في حبِّهِ وبُغْضِهِ، والبغض للشيء: هو
(1) انظر: "الأشباه والنظائر" للمؤلف (1/ 523).
(2)
رواه أحمد (42/ 46 رقم 25111)، وأبو داود (2/ 415 رقم 2134)، والترمذي (2/ 433 رقم 1140)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 150 رقم 8840)، وابن ماجه (1/ 634 رقم 1971)، وابن أبي شيبة في "المصنَّف"(9/ 446 رقم 17831)، والدَّارمي (3/ 1416 رقم 2253)، وابن حبان (10/ 5 رقم 4205)، والحاكم (2/ 187) عن عائشة رضي الله عنها. وقد صححهُ المؤلف في "البدر المنير"(7/ 481).
النفْرةُ منه لمعنى مستقبح فيه، والظَّاهِرُ أنه مُرادِف للكراهة أوْ يقارِبُها، وقد يكون من طَرفَيْن، ومن واحد، ولله ولغيره، ولا شكَّ في حُرمةِ البُغض والتَّباغُض؛ للنَّهْي عنهُ، إلَّا في الله، فإنه واجبٌ ومِن كَمالِ الإيمان، قال الله تعالى:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، وقال -عليه أفضل الصلاة والسلام-:"مَنْ أَحَبَّ للهِ، وَأَبْغَضَ للهِ، وَمَنع للهِ، وَأَعطَى للهِ، فَقَدِ استَكْمَلَ الإِيمانَ"(1).
الرابعة: معنى "لا تَدَابَرُوا": لا يُدبِرُ بعضكُم عن بعض، أي: تعرِضُ عنه بما يَجِبُ له مِن حقوق الإسلام من الإعانةِ والنُّصرةِ ونحوِهِمَا، و"التَّدَابر": المُعَادَاةُ، وقيل: المُقَاطَعَةُ، لأنَّ كُل واحِدٍ يُوَلي صَاحِبهُ دُبُرَهُ، ولا مُلازَمَةَ بَيْنَهُ وبين التَّباغُضِ، لأنَّ الشَخص قد يبغِضُ صاحِبَهُ عادَةً، وقد يُعرِضُ عنهُ -وهو يُحِبُّهُ- خَشْيَةَ تُهْمَةٍ أو تأديبًا له ونحو ذلك، وفي نحو هذا قيل:
لا تكتمِ الحبَّ إلَّا خشيةَ التُّهمِ
و"تدابروا" أصله: "تتدابروا" بتاءين، حُذِفَتْ إحداهما تخفيفًا، وهل هي تاء المضارعة أو تاء الكلمة؟ فيه خلاف، وكذلك الخلاف فيما قبلها، وهي "تحاسدوا" و "تناجشوا" و "تباغضوا".
الخامسة: عِلَّةُ النَّهي عن بيع البعض على بيع البعض: تغيير القلوب والنفرة، وربما أدى تعاطي مفسدة صاحبه، وذلك حرام، وفي صحة البيع
(1) رواه أبو داود (5/ 42 رقم 4681)، وابن بطة في "الإبانة"(2/ 657 رقم 845، 846 ط معطي)، واللالكائي في "السنة"(5/ 972 رقم 1618)، والبغوي في "شرح السنة"(13/ 54 رقم 3469) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
والحديث صححه الألباني في "الصحيحة"(1/ 657 رقم 380)، و"صحيح الترغيب"(3/ 165 رقم 3029).
والمسألة الثالثة انظرها في: "التعيين" للطوفي (298).
خلف سبق وسلف، مأخذه كما سلف من: إن كان النَّهيُ لمعنى خارج عن المنهي؛ هل يقتضي الفساد أم لا؟ أما الذِّمي فبيع المسلم عليه محتمل جوازه لنقص حرمته، والذمي لا يؤالف، ويحتمل حرمته للإيذاء، وهو أيضًا في ذِمَّتِنا وعكسه؛ فلا يجوز له ولا يبعد أن يُؤَدَّب عليه لافتياتهِ واستخفافهِ.
ومثال ذلك: أن يأمر البائع بالفسخ ليبيعه مثله، وفي معناه: الشراء على الشراء، وضرره على المشتري، والأول على البائع، والسوم على السوم، والخِطبة على الخِطبة كلُّ ذلك مَنْهِيّ عنه، وكذا كل ما في معناه مما ينفر القلوب ويورث التباغض، إلَّا أنْ يرضَى مَن لهُ الحَقُّ فيجوزُ؛ لأنهُ حقه فله تركه ولزوال علة التنافر.
السادسة: قوله: "وكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا" هو شبيهٌ بالتَّعليل لِمَا سَلَفَ، كأنَّهُ قال: إذا تركتم ذلك كنتم إخوانا وإذا لَمْ تَكُونُوا كذلك كنتم أعداءً؛ فَتَعَامَلُوا وتعاشَرُوا معاملةَ الإخوةِ، ومعاشرتهم في المودَّةِ والرِّفقِ والشَّفَقَةِ والملاطفة والتعاون على الخير مع صفاءِ القلوب، والنصيحة على كل حال.
و"الإخوان" و "الإخوة" من غير نَسَبٍ كالأخُوَّة من النسب، ومعنى "وكونوا عباد الله إخوانًا": اكتسبوا ما تصيرون به إخوانًا، كما سبق ذكره وغيره من فِعلِ المُؤَلِّفَات وتركِ المُنفِّرَات.
وقوله: "عباد الله" أي: يا عباد الله، حقكم أن تطيعوه بأن تكونوا إخوانًا، ووجه طاعة الله في كونِهم إخوانًا: التعاضد على إقامَةِ دِينهِ وإِظهارِ شِعَارهِ؛ إذ بدون ائتلاف القلوب لا يتم ذلك، أَلَا ترى قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62].
السابعة: قوله: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِم" قد سلف مَعنَاهُ، والأُخُوَّةُ تارةً تكون نَسَبِيَّةً بأن تَجْمَعَ الشخص ولادة من صلْب أو رَحِم أو منهما، وتارة تكون دينيَّةً؛ بأن يجمعهما دين واحد ورأي واحد، وفي التنزيل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] والأخُوَّة الدِّينية أعظم من النسبية، بدليل أن الأَخَوَيْن من النَّسَب إذا افتَرقا في الدِّين لم يَتَوَارَثا، والأَجْنَبِيَّان إذا توَافَقَا في الدِّين تَوَارَثا؛ إما بإسلام أحدهما على يد الآخر، كما كان أولًا ثُمَّ نُسِخ، أو بعموم الدين عند فقد القرابة، أو لغير ذلك.
الثامنة: معنى "لا يظلمه": لا يدخل عليه ضررًا بغير إذنٍ شَرعِي؛ لأن ذلك حرام يُنَافي الأُخُوَّةَ، بل الظُّلم حَرَام للكافر (1)[فالمسلم أولى](2).
(1) من هذا الموضع إلى آخر متن الحديث الآتي سقط من الأصل، أُقَدِّره بورقة ذات وجهٍ واحد، وتحتوي على شرح:
1 -
"لا يخذله".
2 -
"ولا يكذبه".
3 -
"ولا يحقره".
4 -
"التقوى ها هنا".
5 -
"بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
6 -
"كل المسلم على المسلم حرام" في ستِّ نقاط ومسائل.
وتستطيع أن تنظر ما يقاربه في: "التعيين" للطوفي (303 - 305)، و"المنهج المبين"(512 - 514). والشرح كذلك فيهما في ورقة واحدة تقريبًا، وبالله التوفيق.
(2)
ما بين المعقوفتين من "التعيين"(303).