الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديثُ الثاني والثلاثون
عن أبي سَعِيدٍ سَعْدِ بنِ مَالِك بنِ سِنَانٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ".
حديثٌ حَسَنٌ، رواهُ ابنُ مَاجَهْ (1) والدَّارَقُطْنِي (2) وغيرُهما مُسْنَدًا.
ورَوَاهُ مَالِكٌ في "المُوَطَّأ"(3) مُرْسَلًا، عن عَمْرِو بن يَحْيَى، عن أبيهِ، عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيدٍ، ولهُ طُرُقٌ يُقَوَّى بَعضُها بِبَعْضٍ (4).
(1) رواه ابن ماجه (2/ 784 رقم 2340)، وعبد الله في "زوائد المسند"(37/ 436 رقم 22778)، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 157)، (10/ 133) لكن مِن حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وإسناده منقطع، إسحاق بن يحيى -الراوي عن عبادة- لم يُدْرِك عبادة.
انظر: "مصباح الزجاجة"(2/ 221).
(2)
في "سننه"(4/ 31 رقم 3079)، (5/ 408 رقم 4541)، ورواه الحاكم (2/ 57 - 58)، والبيهقي في "الكبرى" (6/ 69) عن أبي سعيد. والحديث له طرق عدة يصح بها. قال الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه". وقد صححه الإمام الألباني رحمه الله وأطال الكلام على طرقه في "الإرواء"(3/ 408 - 414 رقم 896)، و"السلسلة الصحيحة"(1/ 443 - 448 رقم 250)، هذا عدا النووي وابن الصلاح والمؤلف -ابن الملقن- وغيرهم.
(3)
(2/ 290 رقم 2171) به، والشافعي في "المسند"(2/ 134 رقم 442، 575)، والبيهقي (6/ 157)، (10/ 133) وسنده صحيح لكنه مرسلٌ.
(4)
في "الأربعين"(72): "يُقَوِّي بعضُها بعضًا"! وفي ط دار المنهاج (98) كما ذكر المؤلف.
وفي هامش الأصل ما نصه: "الضرر: ابتداء الفعل، والضرار: الجزاء عليه، وقيل: الضرر: ما تضر به صاحبك، وتنتفع أنت به، والضرار: أن تضره من غير أن تنتفع به، وقيل: هما بمعنى، وتكرارهما للتأكيد".
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: في التعريف بروايه:
وهو خُدري -بدال مُهْمَلةٍ قطعًا-: نسبة إلى خدرة، قبيلةٌ مِن الأنصار من أصحابِ الشَّجرةِ، وهو أحدُ الفقهاءِ، ماتَ سنةَ أربعٍ وسبعين بالمدينة (1).
و"مالك": هو الإمام أبو عبد الله الأصبحي، إمام أحد المذاهب المتبوعة، أُفْرِدَت تَرجَمَتُهُ بالتَّألِيف، وكان مَولِدُهُ سَنةَ ثلاثٍ وتسعين، ومات سنة تسع وسبعين ومائة في ربيع الأول (2).
ثانيها: "المسند": هو ما اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و"المرسَلُ": ما سَقَطَ منه الصَّحابي عند المُحَدِّثين، وأي راوٍ كان عند الأصوليين (3).
وهذا الحديث وهَّاهُ ابن حزم، وقد رَدَدتُ عليه في "تخريجي لأحاديث الرافعي" وغيره (4).
لا جرم، قال المُصَنِّفُ:"ولهُ طُرق يُقَوَّى بعضُها بِبَعْضٍ"، أي: في بعض طرقه لِينٌ يُجْبَرُ بغيره ويَقْوَى، وهو مُرَجِّحٌ وعاضِدٌ، وقد يكون العاضد كتابًا مثل أنْ يكونَ الحديثُ ضعيفًا، لكن يوافِقُهُ ظَاهِرُ آيةٍ، أو عمومها فَيَقْوَى بها ويتعاضَدَان، وقد يكون سُنَّةً تُعَاضِدُهُ: إِمَّا عن راوي الحديث نفسه، أو عن
(1) انظر ترجمته في: "أُسد الغابة"(2/ 365)، و"السير"(3/ 168)، و"الإصابة"(2/ 32).
(2)
انظر: "الانتقاء" لابن عبد البر (36 - 91)، و"السير"(8/ 48 - 135).
(3)
انظر: "المقنع في علوم الحديث" للمؤلف (1/ 109 - 111، 129 - 140).
(4)
هو "البدر المنير" وليس فيه تخريجه للحديث! وقد أحال المؤلف فيه إلى تخريجه "المهذب" انظر: "البدر المنير"(9/ 613).
غيره، وقد قيل في المثل:
لا تُخَاصِم بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ
…
فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا
وقال ابن الصلاح: "رواه الدارقطني في "جامعه" مِن وُجوهٍ مُتَّصِلًا، وهو حديث حسن". وقال مَرَّةً: "أسنَدَهُ مِن وُجُوهٍ، ومجموعها يقوي الحديث ويحسِّنه، وقد نَقَلَهُ جماهيرُ أهلِ العلمِ واحتجُّوا به، فعن أبي داود أنه قال: "الفقه يدور على خمسة أحاديث
…
" (1) وَعدَّ هذا الحديث مِن الخمسةِ.
قال: "فعدُّ أبي داودَ له مِن الخمسةِ، وقوله فيه يُشْعِرُ بكونهِ عنده غير ضعيف، وجعله خُمْس الشَّريعة"(2).
قال ابن عبد البر: "ولم يختلف عن (3) مالك في هذا الحديث وإرساله، وقد رواه الدِّراوَرْدِي عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسنده، ولهُ طُرقٌ كَثيرةٌ، ومعناه صحيحٌ في الأصول أيضًا، وقد ثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حَرَّمَ اللهُ مِنَ المُؤْمنِ: دَمَهُ ومَالَهُ وَعِرْضهُ، وأَلَّا يُظَنَّ بهِ إلَّا الخير" (4).
(1) رواه الخطيب في "الجامع"(2/ 290 رقم 1887)، والسِّلفي في "شرط القراءة على الشيوخ"(42)، وذكره ابن الصلاح في "صيانة مسلم"(221 - 222)، وابن رجب في "جامع العلوم والحِكَم"(1/ 63). وانظر ما تقدَّم ص (195).
(2)
انظر: "رؤوس المسائل" للنووي (95)، و"جامع العلوم والحكم"(2/ 211).
(3)
في الأصل: "غير" والتصويب من "التمهيد".
(4)
رواه ابن ماجه (2/ 1297 رقم 3932) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. والحديث في إسناده ضعف، لكن له شواهد ترقِّيه إلى درجة الحسن.
فائدة: هذا الحديث حسَّنه الشيخ الألباني رحمه الله من رواية ابن عمر في "غاية المرام"(435)، ثمَّ ضعَّفه في "ضعيف الجامع"(5006)، و"ضعيف ابن ماجه"(852)، وأحال إلى "الضعيفة"(5209)، ولما طُبِعت "الضعيفة" فإذا بالشيخ يتراجع عن ذلك كله وينقل الحديث إلى "الصحيحة" (7/ 2 / 1248 رقم 3420) وقال في آخر تخريجه:=
وقال -أيضًا-: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ"(1)[يعني مِن](2) بعضكم على بعض. وقد قال تعالى: "يا عِبادِي! إنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على نَفْسِي، وجَعَلْتُهُ بينَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَموا" -وقد سلف- (3)، وقال تعالى:{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111].
وأصلُ الظُّلم: وضعُ الشَّيءِ في غير موضِعِهِ، وأخذه من غير وجهه؛ ومَن أَضَرَّ بأخيه فقد ظَلَمَهُ، وصَحَّ:"الظُّلمُ ظُلُمَات يَوْمَ القِيَامَةِ"(4).
وروى مَعْمَر، عن جابر الجُعْفِي، عن عِكْرمةَ، عن ابن عباس مَرفُوعًا:"لا ضَرَرَ ولا ضِرار، وللرَّجلِ وضعُ خَشَبِهِ في جِدَارِ جَارِهِ"(5).
جابر الجُعْفِي مُتكلَّمٌ فيه، قال أبو عُمَر: "شعبة والثَّوري يُثنِيان عليه
= "هذا؛ وقد كنتُ ضَعَّفتُ حديثَ ابن ماجه .. قبل أن يُطبع "شُعَبُ الإيمان" فَلَمَّا وقفتُ على إسنادهِ فيه، وتبيَّنتُ حُسنَهُ؛ بادَرتُ إلى تخريجهِ هنا تبرئةً للذِّمَّة، ونُصحًا للأمَّة داعيًا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وبناءً عليه يُنقل الحديث من "ضعيف الجامع"، و"ضعيف ابن ماجه" إلى "صحيحيهما"." اهـ.
(1)
رواه البخاري (1/ 24 رقم 67)، ومسلم (3/ 1305 رقم 1679) من حديث أبي بكرةَ رضي الله عنه.
(2)
ما بين المعقوفتين من "التمهيد"(20/ 157).
(3)
الحديث الرابع والعشرون من "الأربعين".
(4)
رواه مسلم (4/ 1996 رقم 2578) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5)
رواه ابن ماجه في (2/ 784 رقم 2341)، وأحمد (5/ 55 رقم 2865) من طريق عبد الرزاق عن مَعْمَر به، والطبراني في "الكبير"(11/ 240 رقم 11806)، وابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 158) وإسناده ضعيف، فيه جابر وقد تُكِلم فيه. [انظر:"الزوائد" للبوصيري (2/ 222)].
لكنه توبع، تابعه: داود بن الحصين -وهو ثقة إلَّا أن روايته عن عكرمة منكرة-["التقريب" (305 رقم 1789)]، وسِماك بن حرب وهو "صدوق لكن روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغيَّر بأخرة فكان ربما يتلقن". ["التقريب" (415 رقم 2639)] والحديث صحيح كما تقدَّم في تخريج حديث الباب.
ويصفانهِ بالحفظِ والإتقانِ. وكان ابن عُيَيْنَةَ يذمُّه ويَحْكِي مِن سُوءِ مذهبه ما (1) يُسقِطُ رِوَايَتَهُ، واتَّبَعَهُ على ذلك أصحابه: علي بن المدِيني، وابن مَعِين وغيرهما" (2). قال:"ولهذا قُلتُ: إِنَّ هذا الحديث لا يُسنَدُ مِن وجهٍ صحيح"(3).
وأما قوله: "لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ" فَخَبَرُ "لا" محذوف؛ أي: في ديننا، أو في شريعَتِنَا، أو في سُنَّتِنَا، وظاهرُ الحديثِ تحريمُهُ مُطْلقًا قليلُهُ وكثِيرُهُ، ضرورة كون النَّكرة في سياق النَّفي تَعُم، ثم الظَّاهِرُ تَغَايرُ هذين اللَّفظين حَمْلًا له على التأسيس؛ إذْ هو أَوْلَى مِن التَّأكِيد، فالضَّررُ مِن واحدٍ كالقتل، والضِّرارُ مِن اثنين كالقتال، مِن حيث إنَّ "ضِرَار" مصدر: ضار، وفاعَل إنما يكون من اثنين غالبًا.
وقيل: إنهما لفظتان بمعنى واحدٍ، تكَلَّم بِهِمَا جميعًا على وجهِ التَّأكِيدِ (4)، وهو ظاهر لفظ الجوهري حيث قال:"الضرر" و"الضِّرار" خلاف النَّفع، وقَدْ ضَرَّهُ وضَارَّهُ بمعنى، والاسمُ:"الضّر"." (5).
وقال ابن حبيب (6): ""الضَّرَرُ" عند أهل العربية الاسم، و"الضِّرار" الفعل". قال: "ومعنى: "لا ضرر": لا يَدخُلُ على أَحَدٍ ضررًا لم يُدخِلهُ على نفسه، ومعنى "ولا ضرار": لا يضار أحدٌ بأحدٍ"(7).
(1) في الأصل: "ما لا" والتصويب من "التمهيد"(20/ 158).
(2)
قال الحافظ في "التقريب"(192 رقم 886) في ترجمته: "ضعيف رافضي". وانظر كلام العلماء الذين ذكرهم ابن عبد البر في "تهذيب الكمال"(4/ 465 - 472).
(3)
"التمهيد"(20/ 157 - 158) وقد تصرَّف المؤلف في النص فزاد بعض الكلمات.
(4)
انظر في تضعيف هذا القول: "التعليق على الموطأ"(2/ 206) للوَقَّشي الأندلسي (ت: 489 هـ).
(5)
"الصِّحاح"(2/ 719) مادة "ضرر" وفيه: "والاسم: الضَرَرُ".
(6)
هو الإمام عد الملك بن حبيب الأندلسي (ت:238 هـ). ترجمته في "السير"(12/ 102).
(7)
قاله في كتابه "تفسير غريب الموطأ"(2/ 25 - 26).
وقال الخُشَنِيُّ (1): ""الضرر" الذي لكَ فيه منفعةٌ وعلى جارك فيه المَضَرَّة، و"الضِّرار": الذي ليس لك فيه منفعة، وعلى جارك فيه المضرة"(2).
وهذا وجهٌ حَسَنُ المَعْنَى في الحديث.
وجاءَ في بعض طُرقه المسنَدَةِ مِن طريق عمرو بن يحيى -بعد "لا ضرر ولا ضرار"-: "من ضَارَّ ضَارَّ اللهُ بهِ، ومَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللهُ عليهِ"(3).
وقال بعضهم: "الضَّرَرُ" و"الضِّرَارُ" مِثلُ القَتْلِ والقِتَال، و"الضَّرر": أن تَضُرَّ مَن لا يَضُرُّكَ، و"الضِّرار" أن تضرّ بمن قد أضَرَّ بكَ مِن غير جِهَةِ الاعتِدَاءِ بالمثل والانتصار بالحق، وهو نحو قوله عليه الصلاة والسلام:"أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَن أَئتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ"(4) أي: بعد أن انتصرت منه في خيانَتِهِ
(1) هو أبو الحسن محمد بن عبد السلام الخشني الأندلسي القرطبي، الحافظ اللغوي، (ت:286 هـ). "السير"(13/ 459).
(2)
نقله: ابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 158)، والباجي في "المنتقى"(6/ 40)، والتلمساني في "الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب"(2/ 261 - 262).
(3)
رواه عبد الملك بن حبيب في "تفسير غريب الموطأ"(2/ 26)، والدارقطني (4/ 51 رقم 3079)، والحاكم (2/ 57 - 58)، والبيهقي (6/ 69)، وابن عبد البر (20/ 159) عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
رواه الترمذي (2/ 542 رقم 1264)، وأبو داود (3/ 516 رقم 3535)، والدارمي (3/ 1692 رقم 2639)، والدارقطني (3/ 443 رقم 2936)، والطبراني في "الأوسط"(4/ 55 رقم 3595)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"(1/ 186 رقم 168)، والطحاوي في "مُشكل الآثار"(5/ 91 رقم 1831، 1832)، وتمام في "فوائده"(2/ 321 رقم 707)، والحاكم (2/ 46)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1/ 423 رقم 742)، والبيهقي في "الكبرى"(10/ 271) من طرق عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقال الحاكم "صحيح على شرط مسلم"، وصحَّحه الألباني في "سلسلته الصحيحة"(1/ 708 رقم 423).
لَكَ، والنَّهيُ إِنَّمَا وقعَ على الابتداء، ومَا يكونُ في معنى الابتِدَاءِ، كأنه يقول: ليس لك أن تخونَهُ وإنْ كانَ قد خانَكَ؛ كَمَا (1) لَمْ يكُنْ لهُ أن يخونك، وأَمَّا مَن عاقَبَ بمِثْلِ مَا عُوقِبَ به وأخذَ حَقَّهُ فليسَ بخائِنٍ، وإِنَّمَا الخائِنُ مَن أخذَ ما ليس لهُ، أو أكثر مِمَّا لهُ.
وقد اختَلَفَ الفُقَهَاءُ في الذي يَجْحَدُ حَقًّا عليه ويمنَعُهُ ثم يظفرُ المجحودُ بمالِ الجاحدِ قد ائتمنه عليه أو نحو ذلك، فقال قائل منهم: ليس له أن يأخذ حقه من ذلك؛ لظاهِر الحديث الذي أَوْرَدْنَاهُ: "
…
ولا تَخُنْ مَن خَانَكَ".
وقال آخرون: له أن يَنْتَصِفَ مِنهُ ويأخذ مِنهُ حقَّهُ عَمَلًا بقِصَّةِ هِند: "خُذِي مِنْ مَاله مَا يَكْفِيكِ"(2). وللفقهاء في هذه المسألة وجوهٌ واعتلالاتٌ؛ محلّها كتب الخلافيات، وإنما ذَكَرنَا هذا هنا لِمَا في مَعنَى "الضِّرَار" مِن مُدَاخَلةِ الانتصارِ بالإضرارِ مِمَّن أَضَرَّ بكَ.
والذي يَصِحُّ في النَّظَرِ ويَثبُتُ في الأصولِ أنَّهُ ليسَ لأَحَدٍ أن يَضُرَّ بأخيهِ سواءٌ أضَرَّ بهِ قبلُ أمْ لَا، إلَّا أن يَنْتَصِرَ -إن قدر- بما أُبِيحَ له من الاعتداءِ بالحَقِّ الذي له بمِثلِ مَا اعْتُدِيَ عليه، والانتِصارُ ليسَ باعتِدَاءٍ، ولا ظُلْمٍ، ولا ضَرَرٍ إذا كان على الوَجهِ الذي أباحَتهُ السُّنَّة (3)، وكذا ليس لأَحدٍ أنْ يُضِرَّ بأَحَدٍ مِن غير الوَجهِ الذي هو الانتصار (4) مِن حَقِّهِ، ومَن أدخَلَ على أخيهِ المُسلِم ضَرَرًا مِنهُ؛
(1) في الأصل: "ما" والتصويب من "التمهيد"(20/ 159).
(2)
رواه البخاري (3/ 79 رقم 2211)، ومسلم (3/ 1338 رقم 1714) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(3)
لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 194] وغيرها.
(4)
في "التمهيد"(20/ 160): "الانتصاف".
فإِنْ أَدخَلَ عليه ضَرَرًا بفِعلٍ مَا كأَنْ فعَلَهُ فَأَضَرَّ فعْلُهُ لذلك بجاره أو بغير جاره، نُظِرَ إلى ذلك الفِعل؛ فَإِنْ كان أكثر ضررًا على الفاعل مِن الضَّرَرِ الدَّاخِل على الجار بسَبَبِ ترْكِ ذلك في ماله إذا قطع عنه ما فعله، قطع أكثر الضَّرَرين وأعظمهما حُرْمَةً في الأصول.
مِثالُهُ: فتح الكوَّة للضوء، وتطلع منها على الحُرُم، مَنَعَهُ المالِكِيَّةُ دَفعًا لأكثر الضَّرَرين، وعندَ الشافعية يجوز، وشَرَط بعضهم علوها بحيث لا يطَّلع على الجار، ومثله البناء وإحداث الرَّحَا المُضِرَّة بالجار عندهم (1)، وكذا منعَ العلماء مِن دُخَّان الفُرن والحمام، والدُّود المُتَوَلِّد مِن الزبل المنشور في الرِّحَاب وأمثاله؛ إذا ظهرَ ضَرَره، وبَقِيَ أثره، وخُشِيَ تماديه دونَ مَا إذا كان مِثلَ ساعةٍ خفيفةٍ [مثل: نَفْضِ التُّرابِ والحُصُر] (2) على الباب، ومَا زالَ جبريلُ يُوصِي بالجار حتى ظَنَّ الشَّارعُ -صلوات الله وسلامه عليه- أَنَّهُ يُوَرِّثُهُ (3).
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام "لَعَنَ مَن ضَارَّ مُسْلِمًا أو مَاكَرَهُ"(4) لكنَّ سنَدَهُ لا يقوم منه ضعف كما قال أبو عُمَر.
(1) قالوا: لأنَّ الرَّحَا تُفسِدُ الجُدْرَان وتهدِمها، وتُظهِر الصَّوت المرتفع الذي يؤذي الجيران.
انظر: "المنتقى" للباجي (6/ 41).
(2)
في الأصل: "لنفس أو غتة التراب والحص"؟! وهي من تحريفات الناسخ، والمثبت من "التمهيد"(20/ 161) وبالله التوفيق.
(3)
انظر ما تقدم ص (215) فقد ذكر المؤلف متن الحديث.
(4)
رواه الترمذي (3/ 495 رقم 1941)، وأبو يعلى (1/ 96 رقم 96)، والمروزي في "مسند أبي بكر"(140 رقم 100)، والطبراني في "الأوسط"(9/ 124 رقم 9312)، وابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 162)، والبيهقي في "الشعب"(11/ 82 رقم 8215) من طريق فرقد السَّبخي عن مُرَّة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وهو حديث ضعيف كما ذكر المؤلف، وقد ضعَّفه الألباني في "الضَّعيفة"(4/ 375 رقم 1903).
قال: "ولكنَّه يخاف عقوبة ما جاءَ فيه"(1) فإنه مُوَافِقٌ للقوَاعِدِ.
ثالثها: "الضرر" مصدر: ضره يضره ضرًّا وضرارًا، و"الضرار" مصدر: ضاره يضاره ضرارًا، وفي التنزيل:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].
و"الضَّرَر": إلحاقُ مَفسَدَةٍ بالغير مُطْلَقًا.
و"الضِّرَار": إلحاقُ مَفسدةٍ به على وَجْهِ المُقَابَلَةِ كما أسلفناه؛ أي: كل منهما يقصد ضرر صاحبه (2).
وفي رواية: "ولا إِضْرَار"(3) بالألف، وهو مَصدَر: أَضرَّ به إِضرَارًا: إذا ألحَقَ به ضَررًا، وهو في معنى الضَّرَر.
وقال ابن الصلاح: ""ضرار" على وزن فِعَال، أي أنه مكسور الضَّاد".
قال: "وهو على ألسِنة كثير مِن الفقهاء والمُحَدِّثين: "ولا إضرار" بهمزة مكسورة قبل الضاد، ولا صحة لذلك"(4).
قلتُ: وقوله: "لَا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ" فيه حذْفٌ، أصله: لا لحوق ولا إلحاق ضَرَرٍ بأحَدٍ، ولا فعل ضرار مع أحد. ثُمَّ المعنى: لا لحوق ضرَرٍ شَرْعًا إلَّا بمُوجَبٍ خَاصٍّ؛ ليُخرِجَ الحدود والعقوبات، والله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
(1) من قوله: "قال ابن حبيب" قبل ثلاث صفحات إلى هنا أخذه المؤلف من "التمهيد"(20/ 158 - 162) مع تَصَرُّفٍ واختصار يسيرين!
(2)
انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (11/ 456)، و"التعليق على الموطأ" للوقَّشي الأندلسي (2/ 205 - 206)، و"الشافي في شرح مسند الشافعي"(4/ 168)، و"النهاية"(3/ 81) لابن الأثير، و"الاقتضاب" للتلمساني (1/ 261 - 262).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 55 رقم 2865)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقد تقدَّم تخريجه.
(4)
ذكره عنه الهيتمي في "الفتح المبين"(516).
الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال رسول الله -عليه أفضل الصلاة والسلام-:"الدِّين يُسْرٌ"، و"بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ" (1) أي: السَّهلة، ونحو ذلك من النصوص المُتَظَاهِرة المُصَرِّحة بوضع الدِّين على تحصيل المصلحة والنفع.
والضَّرَرُ مَنهِيٌّ عنه مُزالٌ، ثم هاتان اللَّفظَتَانِ تَقْتَضِيَانِ رِعَايةَ المصالح إثباتًا والمفاسد نَفْيًا، إذ الضَّرَرُ هو المفسدةُ؛ فإذا انتَفَت لَزِمَ إثبَاتُ النَّفع الذي هو المصلحة؛ لأنهما تَفِيضان لا واسطةَ بينَهُمَا.
ثم الأَدِلَّةُ السَّمعِيَّةُ المتَّفَق عليها أربع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
والمختَلَف فيها أربعةَ عَشَر: الاستِصحَاب، الاستِحْسَان، الاستدلال، المصالح المُرْسَلة، سَدُّ الذَّرَائِع، إجماعُ المدينة، الكوفة، العتْرَة (2)، الخلفاء الأربعة، إجماع الشيخين، قول الصحابي، البراءة الأصلية، الاستقراء، الأخذ بالأخف. والخوض فيها محلُّه كتبُ "الأصول" وأقواها: النص والإجماع، ثم
(1) تقدّم تخريج هذين الحديثين في (48 - 52).
(2)
في الأصل و"التعيين"(237): "العشرة"! والذي يظهر أن ما أثبتناهُ هو الصواب ولم أقف -حسب إطلاعي في كتب أصول الفقه- على إجماع "العشرة" هذا، وإنما المعروف والموجود هو "إجماع العترة" وهم آل البيت، فلا بد أنه من تصحيفات النُّسَّاخ.
انظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (2/ 241)، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي (3/ 107)، و"البحر المحيط" للزركشي الشافعي (4/ 490)، و"الإبهاج في شرح المنهاج" للسبكي وابنه (5/ 2062)، و"تحفة المسؤول في شرح مختصر مُنتَهى السُّول" للرّهوني (2/ 258)، و"التحرير شرح التحرير" للمرداوي الحنبلي (4/ 1595).
هُمَا إِمَّا أنْ يُوافِقَا رِعَايةَ المصالح فَبِهَا ونِعمَتْ، أم لا فيُخَصَّصُ بها؛ لاعتناء الشارع بها (1).
* * *
(1) ما تقدَّم مستفاد من "التعيين" للطوفي (236 - 238) وقد حذف المؤلف كلام الطوفي في مسألة مخالفة المصلحة للنص الشرعي وتقديم المصلحة على النص كما هو مذهب الطوفي! ثم قول المؤلف: إن النص والإجماع يخصصان بالمصلحة؛ غير سديد؛ إذ لا يوجد مصلحة تعارض الشرع؛ لأن الشرع أتى بتحصيل المصالح وتكثيرها، وما من خير ومصلحة إلَّا دَلَّ الأُمَّةَ عليها، عَلِمَها مَن علِمَها وجهِلَها مَن جهلها، ولا يُتصوَّر أن يأتي النص أو الإجماع بما يخالف مراعاة المصلحة. والله تعالى أعلم.