المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثامن عشر - المعين على تفهم الأربعين ت دغش

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

- ‌المطلب الأول: التعريف بالمؤلف

- ‌شيوخه:

- ‌مؤلفاته

- ‌ثناءُ العلماءِ عليه:

- ‌وفاته:

- ‌المطلب الثاني: اسم الكتاب وتوثيق نسبته لابن الملقن:

- ‌المطلب الثالث: تاريخ تأليفه:

- ‌المطلب الرابع: وصف النسخة الخطية:

- ‌المطلب الخامس: المآخذ على الكتاب:

- ‌المطلب السادس: منهجي في تحقيق الكتاب

- ‌فصلٌ

- ‌الإله

- ‌الرَّبُّ

- ‌العالمينَ

- ‌سَمَاحَةِ الدِّينِ

- ‌الحَدِيثُ الأَوّلُ

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديثُ السَّادِس

- ‌الحديثُ السَّابعُ

- ‌الحديثُ الثامِنُ

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديثُ العَاشِرُ

- ‌الحَديِثُ الحَادِي عَشَرَ

- ‌الحدِيثُ الثاني عَشَر

- ‌الحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌الحديث التَّاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الحادي والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرَّابعُ والعشْرُون

- ‌الحديثُ الخَامِسُ والعِشْرونَ

- ‌الحديثُ السَّادِسُ والعِشْرُونَ

- ‌الحديثُ السَّابعُ والعِشْرُونَ

- ‌الحديثُ الثَّامِنُ والعِشْرُونَ

- ‌الحَديثُ التَّاسِعُ والعِشْرُونَ

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌الحديثُ الحادي والثلاثون

- ‌الحديثُ الثاني والثلاثون

- ‌الحديثُ الثالِثُ والثَّلاثُونَ

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحَدِيثُ الخَامِسُ والثلاثُون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌الحديث الأربعون

- ‌الحديث الحادي والأربعون

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌الحديث الثامن عشر

‌الحديث الثامن عشر

عن أبي ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ، وأَبي عبدِ الرَّحمن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:"اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كنْتَ، وأَتْبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".

رواهُ التِّرمذيُّ وقال: "حسنٌ". وفي بعضها: "حسنٌ صحيحٌ"(1).

* * *

الكلام عليه من وجوه:

(1) حديث أبي ذر رضي الله عنه: رواه أحمد (35/ 284 رقم 21354، 21403، 21487)، والترمذي (3/ 526 رقم 1987)، وابن أبي شيبة (8/ 377 رقم 25712)، والدارمي (3/ 1838 رقم 2833)، والقضاعي (1/ 379 رقم 652)، والحاكم (1/ 54)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 378)، والبيهقيّ في "الشعب"(10/ 382 رقم 7663)، وابن عساكر في "الأربعون الأبدال العوالي"(73 رقم 31). وقد صححه التِّرمذيُّ، والحاكم وقال:"على شرطهما" ووافقه الذهبي، وتعقَّبه ابن رجب في "الجامع"(1/ 395 - 396)، وحسَّنه الألباني في "الترغيب"(3/ 12 رقم 2655، 3160).

وأمَّا حديث معاذ رضي الله عنه: فرواه أحمد (36/ 313 رقم 21988، 22059)، والترمذي (3/ 527 رقم 1987)، ووكيع في "الزهد"(1/ 318 رقم 94)، وابن أبي شيبة (8/ 377 رقم 25712)، وهنَّاد في "الزهد"(2/ 520 رقم 1073)، والطبراني في "الكبير"(20/ 144 رقم 295، 296، 298، 297)، و"الأوسط"(4/ 126 رقم 3779)، والصغير (1/ 320 رقم 530)، والشاشي في "المسند"(3/ 266 رقم 1367)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 376)، والبيهقيّ في "الشعب"(10/ 380 رقم 7660، 7661، 7662).

والحديث حسَّنه الألباني في "الترغيب"(3/ 226 رقم 3160)، و"التِّرمذيُّ"(1618).

ص: 236

أحدُها: في التعريف بِرَاوِيه:

أمَّا أبو ذرٍّ -ويقال: أبو الذر- ففي اسمه أقوال، أشهرها ما ذكرهُ: جُندُب -بفتح الدال وضمها، وربما كُسِرت- بن جُنادَة -بضمِّ الجيم-. وقيل: ابن برير. وقيل: أنه لقب، وقيل: ابن عبد الله، وقيل: ابن السَّكن، وقيل: يزيد -وهو وهمٌ-.

أُمُّه: رملة بنت الوقيعة بن حرام بن عمار، وكان أخا عمرو بن عبسة لأُمِّه، كان رابعًا في الإسلام أو خامسه، أسلم بمكة ثم رجع إلى بلادِ قَوْمِه، ثم قَدِمَ المدينة وهو أولُ مَن حيَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحِيَّةِ الإسلام.

قال الشَّارعُ -صلوات الله وسلامه عليه- في حَقِّهِ: "مَا أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ، ولا أَقَلَّتِ الغَبْراءُ أَصْدَقَ لهجَةً مِنْهُ"(1).

مات بالرَّبذة سنة إحدى -أو اثنتين- وثلاثين في خلافة عثمان، وصلى عليه ابن مسعود، فأقام عشرةَ أيَّام ثم مات بعدَ عاشرة -يرحمه الله- وهو أحدُ النُّجباء.

قال عليّ -كرَّمَ اللهُ وجههُ-: "وعاءٌ مُلِئَ عِلْمًا، ثم أُوكيَ عليه فَلَمْ يَخْرُج مِنهُ شَيءٌ حَتَّى قُبِضَ"(2).

(1) رواه أحمد (11/ 70 رقم 6519، 6630، 7078)، والترمذي (6/ 134 رقم 3801)، وابن ماجه (1/ 55 رقم 156)، وابن سعد في "الطبقات"(4/ 228)، وابن أبي شيبة (11/ 183 رقم 32804)، والحاكم (3/ 342) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

والحديث في إسناده عثمان بن عُمَيْر "ضعيف واختلط، وكان يُدَلِّس ويغلُو في التَّشيع" كما في "التقريب"(667 رقم 4539). قلت: ولعل غلوَّه في التشيُّع كان سببًا في تضعيف شيخ الإسلام للحديث في "منهاج السنة"(6/ 276)، بل قال: "

ضعيف، بل موضوعٌ! وليسَ له إسنادٌ يقومُ به". قلتُ: ومع ذلك حسَّنه التِّرمذيُّ، وصححه الألباني في "التِّرمذيّ"(2990)، وابن ماجه (127)!!

(2)

ذكره المِزِّي في "تهذيب الكمال"(33/ 297)، والذهبي في "السير"(2/ 60).

تنبيه: قوله "كرَّمَ الله وجهه" لا ينبغي أن يخص عليّ رضي الله عنه بهذا ولا بغيره من الألفاظ إلَّا ما خَصِّه الشَّارع، وتخصيص عليّ رضي الله عنه دون سائر إخوانه من الصّحابة أصبح شعارًا =

ص: 237

وكان أصدقَ النَّاسِ لهجةً (1).

وأمَّا مُعَاذٌ؛ فهو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل الخزرجي المدني من نجباء الصَّحابة، شَهِدَ المشاهِدَ، وروى وجمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يُشَبَّه بإبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- كانَ أُمَّةً قانتًا لله، وكان أعلمهم بالحلال والحرام.

مات سنة ثمان عشرة بالأردن بالطاعون عن ثمانٍ وثلاثين سنة أو أقل، وقبره بشرقي غور بيسان (2).

ثانيها: معنى قول التِّرمذيّ: حسن صحيح: أنه رويَ مِن وجْهَيْن: وجه كذا، ووجه كذا، كذا قيل! وهو مردود عليه؛ إذْ يقول إثرهُ: لا يعرفهُ إلَّا مِن هذا الوجه، وقد أوضحتُ ذلك في "المقنع في علوم الحديث" تأليفي (3).

ثُمَّ أعلم أن نُسَخ التِّرمذيّ تَخْتَلِفُ بالحسن والصحيح، ففي بعضها:"حسنٌ"، وفي بعضها:"حسن صحيح"، وذلكَ بحسَبِ اختِلافِ الرُّواةِ عنهُ لكَتابه والضَّابِطِينَ لهُ.

ثالثها: سبب هذا الحديث أنَّ أبا ذَرٍّ لَمَّا أسْلَمَ قديمًا أَمَرَهُ الشَّارعُ أنْ يَلْتَحِقَ بقومه، عسى أن ينفعهم اللهُ بِهِ، ولَمَّا رأى حِرصَهُ على المقام معهُ بمَكَّةَ، وعَلِمَ

= للرافضة، فالواجب أن يُتَرَضَّى عنه كما يترضى عن بقيَّة أصحاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويعضهم يزعم أن عليًّا خُصَّ بهذا اللفظ؛ لأنَّه لم يسجد لغير الله بخلاف الخلفاء الثلاثة قبل إسلامهم! وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ أصاغر الصّحابة ومن وُلِدَ في الإسلام مِنهُم لم يسجدوا لغير الله وكذا من بعدهم إلى يومنا هذا، ولعل الكلمة من تصرفات الناسخ.

(1)

انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال"(33/ 294)، و "السير"(2/ 46)، و"الإصابة"(4/ 63).

(2)

انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال"(28/ 105)، و "الإصابة"(3/ 406).

(3)

انظر (1/ 89 - 97) من "المقنع".

ص: 238

الشَّارعُ -صلوات الله وسلامه عليه- أنهُ لا يقدر على ذلك قال لهُ: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُما كنتَ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها

".

والمراد: تركُ المؤاخَذَة، ويجوزُ أن يكون المحو حقيقةً، وهو موافقٌ لقوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وهي نزلت في ذلكَ الذي أصاب مِن تِلكَ المرأة ما دُونَ الجِماعِ، وأَمَرَهُ الشَّارعُ -صلوات الله وسلامه عليه- بالوضوء والصَّلاة، فقال معاذ: هذا لهُ خاصَّة أم للناس عامَّة؟ فقال: "بَل للنَّاسِ عَامَّةً"(1).

وقال: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهرُ فَيُحْسِنُ الطُّهورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إلى مَسْجِدٍ مِنْ هذهِ المَسَاجِدِ، إلَّا كتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطوَةٍ يَطَؤُهَا (2) حَسَنَةً. ويَرْفَعُ بها دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عنهُ بها خَطِيئَةً"(3). فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الآية، وقوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63].

فمن اتَّقى بما في الآية الأولى مِن الإيمان والإسلام فهو متَّقٍ، والمتقي ولي الله؛ فصار معنى قوله:"اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كنتَ" تكُنْ وليّ الله بتقواك إيَّاه، وحصل لك [من ذلك المِدحةُ] (4) والثناء:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

(1) رواه أحمد (36/ 426 رقم 22112)، والترمذي (5/ 189 رقم 3113)، والطبري في "تفسيره"(15/ 520 رقم 18678، 18682)، والطبراني في "الكبير"(20/ 136 رقم 277)، والدارقطني في "سننه"(1/ 244 رقم 483)، والحاكم (1/ 135) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. قال التِّرمذيُّ:"هذا حديث ليسَ إسنادٌ بِمُتَّصِل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يَسْمَعْ مِن معاذٍ".

قلتُ: ويُغنِي عنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه في البُخاريّ (1/ 111 رقم 526)، ومسلم (4/ 2115 رقم 2763).

(2)

كذا بالأصل، وفي مسلم:"يَخْطُوهَا".

(3)

رواه مسلم (1/ 433 رقم 654/ 257) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(4)

في الأصل: "لوائح وضح الحمد"؟ والتصويب من "المنهج المبين"(345) وغيره.

ص: 239

والحفظُ والحِراسَةُ مِن الأعداء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].

والثانية: والنَّصرُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128]، و {اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} [البقرة: 194].

والنَّجاةُ مِن الشَّدائدِ، والرِّزقُ الحلال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3].

وإِصلاحُ العَمَلِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 70 - 71].

وغُفرانُ الذُّنوبِ: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71].

والنُّورُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28].

والمحبةُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] وما أعظمها وأنفعها.

والإِكرَامُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

والبِشارةُ عندَ الموتِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 63 - 64].

والنَّجاة مِن النَّار: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72]، {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17].

والخلود في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

منْ عَرَفَ اللهَ فلم تُغْنِهِ

معرفته أَلا فذاكَ الشَّقي

مَا يَصنَعُ العَبْدُ بِعِزِّ الغِنى

والعِزُّ كل العِز للمُتَّقي

ص: 240

وكُتِبَ على بعضِ القبور: "ليسَ زادٌ سِوى التُّقى، فخُذي مِنْهُ أوْ دَعِي"(1).

وابعها: اشتَمَلَ هذا الحديث على أحكامٍ ثلاثة: حقُّ الله، وحقُّ المُكَلَّف، وحقُّ العِباد؛ أَمَّا حقُّ الله تعالى: فحيثُمَا كنتَ تَتَّقيهِ، فهوَ ناظر إليكَ ومعكَ ورقيب.

و"التَّقْوَى" لفظَةٌ وجِيزَةٌ جامعةٌ لكلِّ خيرٍ دينيّ ودُنيَويٍّ؛ لأنها: امتِثالُ الأوامِر واجتنابُ النَّواهِي.

وعبَّرَ عنهُ بعضهم: ألا يَرَاكَ حيثُ نهاك، ولا يفقدكَ حيثُ أَمَرك.

ولهذا قال بعضهم: إذا أردتَ أن تعصيه فاعصه حيث لا يراك! أو أخرج من داره! أو كُلْ غيرَ رزقه!

وبتقوى الله يتضَمَّن ما تضمنه الحديثُ السالِفُ: "إنَّ اللهَ كتبَ الإحسان على كلِّ شيءٍ"، وكذا ما تَضمَّنَهُ حديثُ جبريل السالف من الإيمان والإسلام والإحسان؛ لأنَّ سائر أحكام التكليف لا تخرج عن أمر ونَهْي، فإذا اتقى الله بفعل ما أمر وترك ما نهي، فقد أَتى بجميع وظائف المكلفين.

وأَمَّا حقُّ المكلف فمحو الحسنةِ بالسيئة، كما سلف:{ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] أي: عِظَةٌ لِمن اتَّعظ؛ فلا تعجز أيها المسكين إذا أتيت سيئة بقلبك، أو لسانك أو جوارحك، احتَلْ بأن تتبعها بحسنةٍ مِن صلاة، أو صدقة -وإنْ قَلت-، أو ذِكْرٍ.

و"الباقياتُ الصالحات": سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا الله، والله أكبر. أو: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم؛ فإنَّهُ أحبُّ الكلام إليهِ،

(1) نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة عن الكتابة على القبور، فلا تُعارَض سنته بشيء من أفعال النَّاس ولا أقوالهم.

ص: 241

وحبيب إلى الرحمن، وخفيف على اللسان، وثقيل في الميزان -كما سيأتي-.

فإنَّ عجزتَ عن إِتْبَاع الحسنة السيئة فأنتَ مخذُولٌ، والسيئةُ الصَّغيرةُ مقابلة بالحسنة الصغيرة والذكر اليسير، والكبائرُ بالتويةِ والإنابةِ.

وأَمَّا حقّ العِباد فهو مُخالقتهم -أي: معاشرتهم- بخُلُقٍ حسنٍ، فعاملهم بما تحب أن يعاملوك به مِن: كفِّ الأذى وبَذْل النَّدَى وطلاقةِ الوجهِ؛ أي عامل النَّاس بما تحت أن يعاملوكَ به فتجتمع القلوب ويتفق السرُّ والعلانية، فتأمن الكيد والشر، وذلك جِماعُ الخير ومِلاكُ الأمر -إن شاء الله تعالى- وأثقل مَا وُضِعَ في الميزان: خلقٌ حسنٌ (1).

وصحَّ أنَّ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ خِيَارَكُمْ أحاسِنُكُمْ أَخْلاقًا"(2)، وجاء: "إنَّ العَبْدَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِم بالنَّهار القَائِمِ باللَّيلِ

" الحديث (3).

(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أثْقلُ شيءٍ في مِيزَانِ المُؤْمنِ يومَ القِيامَةِ حُسْنُ الخُلُقِ". رواه أحمد (45/ 510 رقم 27517)، والبخاري في "الأدب المفرد"(159 رقم 464)، و"التاريخ"(2/ 266)، وأبو داود (5/ 97 رقم 4799)، الترمذي (3/ 535: 536 رقم 2003، 2002)، وعبد الرزاق (11/ 146 رقم 20157)، والطيالسي (2/ 323 رقم 1071)، وابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 524 رقم 801، 802)، وابن حبان (2/ 230 رقم 481) وجمعٌ من الأئمة عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

وهو حديثٌ صحيحٌ: صححه التِّرمذيُّ، وابن حبان، والألباني في "الصحيحة"(2/ 562 رقم 876).

(2)

رواه مسلمٌ (4/ 1810 رقم 2321) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(3)

رواه أحمد (40/ 414 رقم 24355، 25013، 25537)، أبو داود (5/ 97 رقم 4798)، والحاكم (1/ 60)، وابن حبان (2/ 228 رقم 480)، وتمام في "فوائده"(3/ 294 رقم 1071)، والبيهقيّ في "الشعب"(10/ 363 رقم 7631، 7632، 7633) عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني كما في "صحيح موارد الظمآن"(2/ 247 رقم 1619)، و"الصحيحة"(2/ 41 رقم 522، 795).

ص: 242

وهو مِن سِيما النَّبيين والمُرْسَلين وخصوص المؤمنين، ويكفي في ذلك مَدْحُ الباري سبحانه وتعالى نبيَّه محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم (1):{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. قال الجوهري: "الخُلُق: السَّجِيَّة.

يقالُ: "خَالِصِ (2) المُؤْمِن، وخَالِقِ الفَاجِرَ". وفلانٌ يَتَخَلَّقُ بِغَيْرِ خُلُقِهِ، أَي: يَتَكَلَّفهُ.

قال الشَّاعر:

.....................

إنَّ التَّخَلُّقَ يأتي دُونَهُ الخُلُق" (3)

والخُلُق وإنْ كان سجيَّةً في الأصل فيتخلَّق، وإن كان بغير خلقه حتَّى يتَّصف بالأخلاق الجميلة الرَّضيَّة الزَّكِيَّة.

قال بعضُ الحُكَماء: "عليكَ بالخُلُقِ مع الخَلْقِ، وبالصِّدق مع الحَقِّ".

وحسن الخلق خير كُلُّه، والعبد لا يؤمر بما طُبِعَ عليه؛ فإنَّهُ تحصيلُ حاصل، فكذا أَمَرَ الشَّارع -صلوات الله وسلامه عليه- بِتَحْصيلِهِ وبِكَسبه.

خاتِمة: قد يُستَدَلُّ به على اكتساب الولاية وإلَّا لم يصح الأمر بها، والجمهور على أنها مَوْهِبةٌ كالنبوَّةِ؛ نعم التحقيق أنها مُتَرَتِّبةٌ على زَكاةِ النَّفس وصلاح العمل، كالرزق فَضلُ الله، وهو مُرَتَّب على الأسباب والأكساب التي جرت بها العادة في حصول الرزق، وكما قال تعالى:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]، وقال:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}

(1) بعدها: "صلوات الله وسلامه عليه" وهو تكرار للصلاة.

(2)

في الأصل: "خالق" والتصويب من "الصحاح" و"اللسان".

(3)

"الصحاح" للجوهري (4/ 1471). وصدرُ البيت: "يا أيها المتَحلِّي غيرَ شِيمَتِهِ .. " وهو لسالم بن وابِصَة كما في "لسان العرب"(10/ 87).

ص: 243

[السجدة:24]، وقال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] عَلَّلَ ما مَنَّ بهِ عليهم من مسارعتهم إلى الخيرات وما بعده (1).

يُريدُ المَرْءُ أنْ يُعْطَى مُناهُ

ويَأْبى اللهُ إلَّا ما أرادَا

يقُولُ المرء فائِدَتي ومَالي

وتقوى اللهِ أفضلُ ما اسْتَفادَا (2)

أُخرى: صحَّ أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إنَّ خِيَارَكُمْ أحاسِنُكُمْ أخلاقًا" كما سلف.

وقال -أيضًا- صلوات الله وسلامه عليه: "اللَّهم كمَا حَسَّنتَ خَلقي

(1) الولي كُلُّ مؤمن تقي، كما قال الله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس]، والعبد قادرٌ على تحصيل هذه المنزلة؛ لأنَّ الله أَمَرَ وحثَّ على تحصيلها، ولو لم يَقْدِر العبدُ على تحصيلها لكان أمرًا بما لا قدرةَ للعبد عليه، وهذا عبثٌ يُنَزَّهُ المولى الجليل عنه، وفي "البُخاريّ" [8/ 105 رقم 6502]:"مَنْ عَادَى لي وَليًّا فقد آذنتُهُ بالحَربِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلى عَبدِي بشيءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افتَرَضْتُهُ عليه" الحديث، فكل من عَمِل بما في هذا الحديث فقد وَصَلَ إلى درجةِ الولاية، ومن خير أولياء الله الرسل والأنبياء، ومَن تَبِعَهُم كأصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعلماء هذه الأمة المبارَكين المتَّبعين للسُّنة، والزُّهَّاد والعُبَّاد، بل حتَّى يوجد في التُجار والزُّراع مَن هم أولياءُ لله، لكن لا يوجد في أهل البدع الظاهرة أولياءُ لله. وليست الولاية كالنبوَّة فإنَّ النبوة فَضلٌ مِن الله يختَصُّ به مَن يشاء من عباده، قال سبحانه:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف] ومعلومٌ أنه لم يدَّع أن النبوة مكتسبةٌ إلَّا الزنادِقة.

انظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لشيخ الإسلام ابن تيمية (76، 90، 113، 121، 128، 190)، و"قطر الولي" للشوكاني (237، 278، 369).

(2)

البيتان لأبي الدرداء رضي الله عنه، كما في "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 225).

ص: 244

فَحَسِّن خُلُقي" (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: "أَكْمَلُ المُؤْمنِينَ إِيمَانًا أحْسَنُهم خُلُقًا"(2)، و "إنَّ العَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القائِم"(3).

وللشافعي رحمه الله قَوْلان: أَنَّ الخُلُقَ حَسَنُهُ وقبيحُهُ جِبلَّةٌ في العبدِ كَلَوْنِهِ أَمْ لَا؟ فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جِبِلَّة، وقد "فَرَغَ رَبُّكَ من أربع: الخَلْقُ، والخُلُق، والرِّزْقُ، والأَجَلُ" (4).

وقال الحسن رحمه الله: "مَن أُعْطِيَ حُسنَ صورةٍ، وخُلقًا حسنًا، وزوجةً صالِحَةً، فقد أعطِيَ خير الدُّنيا والآخرة".

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 246 رقم 367)، وأحمد (6/ 373 رقم 3823)، والطيالسي (1/ 291 رقم 372)، وأبو يعلى (9/ 9 رقم 5075، 5181)، وابن حبان (3/ 239 رقم 959)، والقضاعي في "مسند الشِّهاب"(2/ 334 رقم 1472، 1473)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"(1/ 16 رقم 7)، والبيهقيّ في "الشعب"(11/ 61 رقم 8183) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهو حديثٌ صحيحٌ.

قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 173): "رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجالُ الصَّحيح غير عوسجة بن الرماح، وهو ثِقةٌ".

وصححه الألباني في "الإرواء"(1/ 113 - 116 رقم 74).

(2)

رواه أحمد (12/ 364 رقم 7402)، والترمذي (2/ 454 رقم 1162)، وأبو داود (5/ 42 رقم 4682)، وأبو يعلى (10/ 333 رقم 5926)، وابن حبان (2/ 227 رقم 479، 4176)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"(1/ 27 رقم 14)، والحاكم (1/ 3) عن حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه.

والحديث قال عنه التِّرمذيُّ: "حسن صحيح". وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، والألباني كما في "السنن"، و"صحيح الترغيب"(2/ 409 رقم 1923)، (3/ 13 رقم 2660).

(3)

تقدم تخريجه ص (242).

(4)

رواه ابن بطة في "الإبانة"(2/ 150 رقم 1594، 1599 القدر)، والطبراني في "الكبير"(9/ 193 رقم 8952، 8953)، والدارقطني في "سننه"(5/ 323 رقم 4390، 4448)، والبيهقيّ في "السنن الكبرى"(6/ 162).

ص: 245

وعن ابن مسعود رضي الله عنه رَفَعَهُ-: "إنَّ اللهَ قَسَمَ بينكُم أَخْلاقَكُم كَمَا قَسَمَ بينكم أرزاقكم"(1).

وإثابةُ الربِّ -جل حلاله- لِعَبْدِهِ كاستعمال ذلك فيما أمر فيه، كالشَّجَاعة.

وقال آخرون: إنَّهُ كَسْبيٌّ، وهو ظاهر الحديث، إذ لو كانَ جِبِليًّا لَمَا أَمَرَهُ به.

وقال عمر رضي الله عنه لقبيصة بن جبر رضي الله عنه: "أراكَ شابًّا فصيحَ اللِّسان، فَسِيحَ الصَّدر.

وقد يكونُ في الرَّجُل عشرةُ أَخلاقٍ: تسعةٌ صالحةٌ وخُلُق سَيِّئٌ، فَيُفسِدُ التِّسعةَ الصالحةَ الخُلُق السَّيِّئُ، فاتَّقِ عثَرَاتِ اللِّسان" (2).

(1) رواه أحمد (6/ 189 رقم 3672)، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية"(4/ 166)، والحاكم (1/ 34، 33)، (2/ 447)، والبيهقيّ في "القضاء والقدر"(264 رقم 376)، والبغوي في "شرح السنة"(8/ 10 رقم 2030) مرفوعًا، وقال الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، وصحح إسناده البيهقي في "القدر".

ورواه -موقوفًا- المروزي في زوائد "الزهد" لابن المبارك (339 رقم 1134)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد"(101 رقم 27)، وأبو داود في "الزهد"(164 رقم 137)، والطبراني في "الكبير"(9/ 203 رقم 8990)، والبيهقيّ في "الشعب"(2/ 119 رقم 599)، و"القدر" (265 رقم 368). قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 90):"رجاله رجال الصحيح".

وصححه الألباني في "الصحيحة"(6/ 482 رقم 2714)، و"صحيح الترغيب" (2/ 242 رقم 1571) وقال:"له حكم الرفع".

فائدة: ذهب الإمام الدارقطني إلى أن الصحيح وقْفه على ابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "العلل"(5/ 271).

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(4/ 406 رقم 8239)، والبيهقيّ في "الكبرى"(5/ 181)، وذكره ابن الجوزي في "مناقب عمر"(205)، وابن المبرد الحنبلي في "محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب"(2/ 728).

ص: 246

وقال صعصعة بن صوحان لابن أخيه زيد رضي الله عنهما: "خَالِص (1) المؤمن، وخَالِقِ الفَاجِر، فإنَّ الفَاجِرَ يَرْضَى مِنْكَ بالخُلُق الحَسَن"(2).

* * *

(1) في الأصل: "جالس" والتصويب من "المسند".

(2)

رواه إسحاق بن راهويه في "المسند"(3/ 1017)، وابن أبي الدُّنيا في "الحلم"(69 رقم 107).

ص: 247