الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأربعون
عن ابنِ عُمَر رضي الله عنهما قال: "أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَيَّ فَقَالَ: "كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَريب أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ".
وكانَ ابنُ عُمَرَ يَقُولُ: "إِذَا أَمسَيتَ فَلَا تَنْتَظِر الصَّبَاحَ، وَإِذَا أصبحتَ فَلَا تَنْتَظِر المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمنْ حَيَاتِكَ لِموتكَ".
رواهُ البُخَاري (1).
* * *
هذا الحديثُ شريفٌ جامِعٌ لمعاني الخير، ومعناه: لا تركَنْ إلى الدنيا، ولا تتَّخِذْها وطنًا، ولا تُحَدِّث نفسك بطولِ البقاءِ فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق فيها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنهِ، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله (2).
وحاصِلُهُ: الحضُّ على قِلَّةِ المحافَظةِ عليها، وقِلَّةِ الاقتناءِ، والزُّهدِ في الدُّنيا.
وبيانه: أن الغريب قليلُ الانبساطِ إلى الناس؛ بل هو مُسْتَوْحش منهم، إذْ
(1)(8/ 89 رقم 6416).
وانظر شرح المؤلف له في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح"(29/ 403 - 404).
(2)
من كلام النووي في آخر "أربعينه"(102).
لا يكادُ يمُرُّ بمن يعرده فيأنس به ويستكثر بخلطته، فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل -أي: المار على الطريق- لا يَنْفذُ (1) في سفره إلَّا بقوتهِ عليه وخفته من الأثقال، غير متشبِّثٍ بما يمنعه من قطع سفره، معه زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده، وهذا دالٌّ على إيثار الزُّهد في الدُّنيا، وأخذ البلْغَةِ منها والكفاف؛ فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، كذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه إلى المحل.
وقول ابن عمر رضي الله عنهما: "إذا أمسيتَ .. " إلى آخره، حضٌّ منه على أن يجعل الموت نُصب عينيه؛ فيستعد بالعمل الصالح، وحضٌّ منه على تقصير الأمل، وترك الميل إلى غرور الدنيا، والمبادرة إلى العمل.
وقوله: "وَخُذْ مِن صِحَّتكَ لِمَرَضِكَ"حضٌّ على اغتنام صِحَّتِهِ؛ فيجتهد فيها لنفسه خوفًا من حُلولِ مرضٍ به يَمنعه عن العمل.
وكذلك قوله: "وَمنْ حَيَاتِكَ لِمَوتكَ" تنبيه على اغتنام أيام حياته، لا تَمُرُّ عنه باطلًا في سهو وغفلة؛ لأنَّ مَن مات قد انقطع عمله وفاته أَمَله (2)، فلا ينفعه ندمه فيقدم وطنه بغير زاد، وقد ذم الله الأمل وطوله:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
(1) في الأصل: "لا يتعدى"، وفي "التوضيح":"لا يبعد"! والتصويب من "شرح ابن بطال". وانظر: "تهذيب اللغة"(14/ 436).
(2)
من قوله: "وحاصله" إلى هنا من "شرح ابن بطال للبخاري"(10/ 148 - 149).
فصل
وفي الحديث ما يدلُّ على الحضِّ على التَّشبه بالغريب؛ لأن الغريب إذا دخل بلدة لم يناقش أهلها في مجالسهم، ولم يجزع أن يروه على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون مدثرًا معهم، وكذلك عابر السبيل لا يتخذ دارًا، ولا يلج في الخصومات مع الناس، ولا يشاححهم، ناظرًا إلى لُبثهِ معهم أيامًا يسيرة، فكل أحوال الغريب وعابر السبيل في الدنيا مستحبة أن تكون للمؤمن؛ لأن الدنيا ليست وطنًا؛ لأنها تحبسه عن داره، وهي الحائلة بينه وبين قراره.
فصل
فالحديث أصلٌ في الفراغ عن هذه الدَّار، والزهد فيها، والرغبة عنها، والاحتقار لها، والقناعة فيها بالبُلْغة خوف فوات المقصود.
وما أحسن قول المصنف رحمه الله في آخر الكتاب: "معناه: لا تركن إليها، ولا تتخذها وطنًا، ولا تُحَدِّث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد (1) الذهاب إلى أهله"(2)؛ فالعبدُ خُلِقَ للعبادةِ، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] فإن وُفِّقَ لها كان مِن أهل الجِنان، وإن خُذِلَ-والعياذ بالله- كان من أهل الشيطان، قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]، وقال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ففي الحقيقة العبد مُرسَل، أرسله سيده إلى بلد غريب؛ فشأنه البدار إلى ما أرسله والحذار؛ ليعود إلى الوطن الحقيقي.
(1) زاد في الأصل: "غير وطنه". ولعلها مقحمة.
(2)
متن "الأربعين"(102). وقد تقدم كلامه في أول الحديث!
فصل
وقول ابن عمر هو مُقْتَضَبٌ مِن معنى الحديث، لأنَّ الغريب لا يدري متى يتوجَّهُ إلى وطنهِ مساءً أو صباحًا، فيجتَهِدَ في الطَّاعةِ ولزوم الجماعة.
فائدة: "المَنْكِب" -بفتح الميم وكسر الكاف-: مجتمع العضد والكتف، و"مَنْكِبيَّ" بالتثنية.
فصل
في الحديث مَسُّ المعلِّم بعض أعضاء المتَعَلِّم عند التعلُّم، أو الموعوظ عند الوعظ، ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه:"علَّمَني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد، كفِّي بينَ كفَّيْه"(1)؛ وذلك للتأنيس والتنبيه والتذكير.
وفيه دليل على محبته لابن عمر وابن مسعود إذ (2) العادة أن لا يفعل ذلك إلَّا لمن يميل إليه قلبه.
وفيه الابتداءُ بالنَّصيحةِ والإرشادِ لِمَنْ لم يطلب ذلك.
وفيه حرصه (3) عليه الصلاة والسلام على إيصالِ الخير لأُمَّتهِ؛ فإن هذا الكلام لا يخص ابن عمر وحده (4).
(1) رواه البخاري (8/ 59 رقم 6265)، ومسلم (1/ 302 رقم 402/ 59).
(2)
في الأصل: "إذا".
(3)
في الأصل: "حرصته".
(4)
هذا الفصل مستفاد من كلام الفاكهاني في "المنهج المبين"(549 - 550) وتصويب الأخطاء منه.