الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
ما يطلب ممن أراد الأضحية عند دخول أول ذي الحجة
ثبت في الحديث الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) رواه مسلم (1).
وفي رواية أخرى: (من كان له ذِبح يذبحه فإذا أهلَّ هلالُ ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً حتى يضحي) رواه مسلم (2). والذِبح بكسر الذال: الذبيحة.
وقد اختلف العلماء فيمن أراد أن يضحي وأهلَّ عليه هلال ذي الحجة فما حكم الأخذ من شعره وأظفاره على أقوال كما يلي:
القول الأول: قال سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وابن حزم الظاهريان وأبو الحسن العبادي من الشافعية، إنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية (3).
القول الثاني: قال المالكية والشافعية وبعض الحنابلة يكره له ذلك كراهة تنزيه وليس
بحرام (4).
القول الثالث: قال أبو حنيفة وأصحابه يباح ذلك وهو رواية عن مالك (5).
ونقل عن أبي حنيفة القول بالاستحباب وأن من يفعله يكره له ذلك كراهة تنزيه (6).
أدلة القول الأول: احتجوا بحديث أم سلمة السابق وقد ورد بروايات عند مسلم وهي:
(1) صحيح مسلم مع شرح النووي 4/ 119.
(2)
المصدر السابق 4/ 120.
(3)
المغني 9/ 436، المحلى 6/ 3، شرح النووي على صحيح مسلم 4/ 119، معجم فقه السلف 4/ 144.
(4)
الذخيرة 4/ 141، المجموع 8/ 391، الشرح الكبير 2/ 121، الحاوي 15/ 74، المغني 9/ 436، شرح الآبي على صحيح مسلم 5/ 307، بذل المجهود 13/ 12.
(5)
شرح معاني الآثار 2/ 182، شرح النووي على صحيح مسلم 4/ 119.
(6)
إعلاء السنن 17/ 292، بذل المجهود 13/ 12.
أ. عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً). قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال: لكني أرفعه.
ب. عن أم سلمة رضي الله عنها ترفعه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمن ظفراً).
ج. عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره).
د. عن أم سلمة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي)(1).
ووجه الاستشهاد به أن فيه نهي عن أخذ الشعر والأظفار، ومقتضى النهي التحريم (2).
وروى مسلم بإسناده عن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال: (كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلى فيه ناس فقال بعض أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه. فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال: يا ابن أخي هذا حديث قد نُسِيَ وترك. حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث (3).
وقوله في الحديث أطلى فيه ناس: أي أزالوا شعر العانة بالنورة.
واحتجوا أيضاً بما رواه ابن حزم بإسناده أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان أن الرجل إذا اشترى أضحية ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره حتى يضحي.
قال سعيد قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: نعم. فقلت: عمن يا أبا محمد؟ قال عن أصحاب رسول الله (4).
أدلة القول الثاني: قالوا إن النهي الوارد في حديث أم سلمة، محمولٌ على كراهة التنزيه وليس ذلك بحرام.
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 5/ 119 - 120.
(2)
المغني 9/ 437.
(3)
صحيح مسلم مع شرح النووي 5/ 121.
(4)
المحلى 6/ 28.
وأيدوا قولهم بما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حلَّ للرجال من أهله حتى يرجع الناس) رواه البخاري ومسلم (1).
قال الماوردي: [فكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحاياه، لأنه كان بالمدينة وأنفذها مع
أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع، وحكمها أغلظ لسوقها إلى الحرم، فلما لم يحرم على نفسه شيئاً كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم] (2).
وقال أبو عبد الله الآبي المالكي: [مذهبنا أنه لا يلزم العمل بهذه الأحاديث - روايات حديث أم سلمة – لحديث عائشة
…
وبعثُ الهدي آكدُ من إرادة الأضحية] (3).
أدلة القول الثالث: احتجوا بحديث عائشة السابق وحملوه على الإباحة وقدموه على حديث أم سلمة.
قال الطحاوي بعد أن ذكر حديث عائشة: [
…
ففي ذلك دليل على إباحة ما قد حظره الحديث الأول – يعني حديث أم سلمة – ومجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسن من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنهما لأنه جاء مجيئاً متواتراً.
وحديث أم سلمة فلم يجئ كذلك، بل قد طعن في إسناد حديث مالك، فقيل إنه موقوف على أم سلمة.
ثم ذكر الطحاوي حديث أم سلمة برواية مالك وفيه: (عن أم سلمة رضي الله عنها ولم ترفعه قالت: من رأى هلال ذي الحجة
…
الخ).
وذكر رواية أخرى وفيها: (عن أم سلمة مثله ولم ترفعه
…
).
ثم قال الطحاوي: وأما النظر في ذلك فقد رأينا الإحرام ينحظر به أشياء مما قد كانت كلها قبله حلالاً، منها الجماع والقبلة وقص الأظفار وحلق الشعر وقتل الصيد فكل هذه الأشياء تحرم بالإحرام وأحكام ذلك مختلفة.
فأما الجماع فمن أصابه في إحرامه فسد حجه، وما سوى ذلك لا يفسد إصابته الإحرام فكان الجماع أغلظ الأشياء التي يحرمها الإحرام.
(1) صحيح البخاري مع الفتح 4/ 295، صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 439.
(2)
الحاوي 15/ 74.
(3)
شرح الآبي على صحيح مسلم 5/ 307.
ثم رأينا من دخلت عليه أيام العشر وهو يريد أن يضحي أن ذلك لا يمنعه من الجماع، فلما كان ذلك لا يمنعه من الجماع، وهو أغلظ ما يحرم بالإحرام، كان أحرى أن لا يمنع مما دون ذلك] (1).
القول الراجح في المسألة:
الذي يغلب على ظني ـ بعد طولِ تأملٍ وتفكرٍ ـ رجحان القول الأول لقوة أدلته ويظهر ذلك فيما يلي:
أولاً: إن حديث أم سلمة خاص، وحديث عائشة عام، والخاص مقدم على العام.
قال ابن قدامة: [وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص](2).
وقال الشوكاني: [ولا يخفى أن حديث الباب – أي حديث أم سلمة – أخص منه
– أي من حديث عائشة - مطلقاً فيبنى العام على الخاص ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم ولكن على من أراد التضحية] (3).
ثانياً: يجب حمل حديث عائشة على غير محل النزاع لوجوه منها:
أ - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروهاً، قال الله تعالى:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عنه {سورة هود الآية 88.
ب - ولأن أقلَّ أحوال النهي أن يكون مكروهاً، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليفعل المكروه فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره.
ج - ولأن عائشة تخبر عن فعله صلى الله عليه وسلم، وأم سلمة تخبر عن قوله صلى الله عليه وسلم، والقول يقدم على الفعل، لاحتمال أن يكون فعله خاصاً له (4).
ثالثاً: إن ما قاله الطحاوي بأن حديث أم سلمة موقوف؛ غير صحيح، بل هو حديث مرفوع، رفعه جماعة من المحدثين، وقد رواه مسلم مرفوعاً من وجوه:
(1) شرح معاني الآثار 4/ 182.
(2)
المغني 9/ 437.
(3)
نيل الأوطار 5/ 128.
(4)
المغني 9/ 437.
…
أ. الرواية الأولى في صحيح مسلم بإسناده وفيها حدثنا سفيان
…
قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال لكني أرفعه.
ب. الرواية الثانية في صحيح مسلم وفيها: (عن أم سلمة ترفعه
…
).
ج. الرواية الثالثة في صحيح مسلم مرفوعة.
د. الرواية الخامسة في صحيح مسلم مرفوعة (1).
وأجاب العلامة ابن القيم جواباً مفصلاً عن الادعاء بأن حديث أم سلمة موقوف فقال:
[وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه.
فقالت طائفة: لا يصح رفعه وإنما هو موقوف.
قال الدارقطني في كتاب العلل: ووقفه عبد الله بن عامر الأسلمي ويحيى القطان وأبو حمزة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد، ووقفه عقيل على سعيد. ووقفه يزيد بن عبد الله بن قسيط عن سعيد عن أم سلمة: قولها. ووقفه عبد الرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد: قوله. والمحفوظ عن مالك موقوف.
قال الدارقطني: والصحيح عندي قول من وقفه.
ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه منهم مسلم بن الحجاج ورواه في صحيحه مرفوعاً. ومنهم أبو عيسى الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح. ومنهم ابن حبان خرَّجه في صحيحه. ومنهم أبو بكر البيهقي قال: هذا حديث قد ثبت مرفوعاً من أوجه لا يكون مثلها غلطاً، وأودعه مسلم في كتابه. وصححه غير هؤلاء وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس شعبة وسفيان بدون هؤلاء الذين وقفوه.
ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة بل هو المعتاد من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (لا يؤمن أحدكم)(أيعجز أحدكم)(أيحب أحدكم)(إذا أتى أحدكم الغائط)
(إذا جاء أحدكم خادمه بطعام) ونحو ذلك] (2).
(1) انظر صحيح مسلم مع شرح النووي 4/ 119 - 120.
(2)
شرح ابن القيم علىسنن أبي داود بهامش عون المعبود 7/ 346.
وقال صاحب تحفة الأحوذي بعد أن ذكر الطرق المرفوعة لحديث أم سلمة: [وهذه الطرق المرفوعة كلها صحيحة، فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث بل الظاهر أن أصل الحديث المرفوع](1).
وقد بيَّن الشيخ الألباني أن الصحيح أن هذا الحديث مرفوع؛ حتى وإن لم يصرح سعيد بن المسيب برفعه فله حكم الرفع لأنه لا يقال بالاجتهاد والرأي (2).
رابعاً: ويجاب على من ردَّ حديث أم سلمة بالقياس، كما سبق في كلام الطحاوي، أنَّ مُريدَ الأضحية لا يحرم عليه الجماع، فلا يحرم عليه قص شعره وأظفاره؛ بما قاله ابن حزم: [ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل، لأنه ليس إذا وجب أن لا يمس الشعر والظفر بالنص الوارد في ذلك، يجب أن يتجنب النساء والطيب، كما أنه إذا وجب اجتناب الجماع والطيب، لم يجب بذلك اجتناب مس الشعر والظفر، فهذا الصائم فرضٌ عليه اجتناب النساء، ولا يلزمه اجتناب الطيب، ولا مس الشعر والظفر، وكذلك المعتكف، وهذه المعتدة يحرم عليها الجماع والطيب، ولا يلزمها اجتناب قص الشعر والأظفار.
وهذه فتيا صحت عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف فيها مخالفٌ منهم لهم] (3)
وقال ابن القيم: [وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحتة وعدم ما يعارضه
ولهذا كان أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين: هذا في موضعه وهذا في موضعه.
وقد سأل الإمام أحمد أو غيره عبد الرحمن بن مهدي عن هذين الحديثين؟ فقال: هذا له وجه وهذا له وجه] (4).
وبعد هذا العرض أرجو أن يكون ما رجحته هو الراجح، وقد كنت أميل للقول بالكراهة فقط، ثم ترجح عندي القول بالتحريم، والله أعلم.
(1) تحفة الأحوذي 5/ 100.
(2)
إرواء الغليل 4/ 378.
(3)
المحلى 6/ 26.
(4)
شرح ابن القيم على سنن أبي داود بهامش عون المعبود 7/ 348.