الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
شروط الفتوى في النوازل، ومن له حق الإفتاء فيها
لما كانت النوازل المعاصرة يحيط بها قدر من التعقيد، لم يكن النظر فيها متاحاً لكل من آنس من نفسه ثقافة شرعية؛ بل إنّ النظر فيها يتطلب نظراً فقهيا دقيقاً، يجمع بين سلامة التصور، وامتلاك آلة النظر الفقهي؛ ولذا استلزم الأمر أن يُضبط بشروط ومحددات للنظر فيها. وهذه الشروط التي لابد منها هي:
أولا: العلم:
النظر في النوازل أمر يحتاج إلى اجتهاد؛ لذا كان شرط العلم والقدرة على الاجتهاد فيها شرطاً أساسياً، وذلك بأن يكون لدى الناظر في النازلة من العلم الشرعي ما يتمكن معه من الاجتهاد في النازلة، وقد نقل ابن الصلاح عن الإمام الجويني قوله:«والقول الوجيز في ذلك: أنَّ المفتي هو المتمكن من إدراك أحكام الوقائع على يسر من غير معاناة تَعَلّم» (1). ولا يلزم أن يصل مرتبة المجتهد المطلق، فإنَّ الاجتهاد يتجزأ.
وأما ما اشترطه الأصوليون في المفتي أن يكون مجتهداً مطلقاً فإنما مرادهم المفتي المطلق في جميع أبواب الشرع.
(1) انظر: ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهرزوي، أدب المفتي والمستفتي، تحقيق: د. موفق عبد الله عبد القادر، (بيروت: مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الأولى، 1407 هـ) ص 27.
أما المفتي في باب خاص من العلم، نحو علم المناسك، أو علم الفرائض، فلا يشترط فيه جميع ذلك، ومن الجائز أن ينال الإنسان منصب الفتوى والاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض، فمن عرف القياس وطرقه وليس عالماً بالحديث، فله أن يفتي في مسائل قياسية يعلم أنّه لا تعلق لها بالحديث، ومن عرف أصول المواريث وأحكامها جاز له أن يفتي فيها، وإن لم يكن عارفا بأحاديث النكاح، ولا يجوز له أن يفتي في غير ذلك من أبواب الفقه. وقد قطع بجواز هذا جماعة من أهل العلم المحققين (1).
وبالتأمل في أحوال المفتين عبر التاريخ نجد أنّ شروط الاجتهاد التي نص عليها الأصوليون لم تتوفر إلا في القليل، ولذا كان القول بأنّ كل من عَلِم باباً جاز له أن يفتي فيه هو المتعين، وبه يندفع الحرج عن الأمة.
يقول ابن دقيق العيد: «توقيف الفتيا على حصول المجتهد-أي المطلق- يفضي إلى حرج عظيم» (2).
وعليه فإن الناظر في النازلة إذا ملك آلة النظر والاجتهاد في مسألة جاز له أن يجتهد ويفتي فيها، فقد يكون الشخص أهلاً للإفتاء في مسائل معينة، وليس أهلاً للإفتاء في مسائل أخرى، أو للإفتاء العام.
(1) انظر: النووي، يحيى بن شرف أبو زكريا، آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي، (دمشق: دار الفكر، الطبعة الأولى، 1408 هـ) ص 24.
(2)
انظر: الشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، تحقيق: أبي مصعب محمد سعيد البدري (بيروت: دار الفكر، الأولى، 1412 هـ - 1992 م) ج 1، ص 450.
ثانياً: التصور:
من المعلوم أنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولما كانت الفتوى تنزيل حكم الله في الواقعة أو النازلة، كان لابد من التصور الصحيح لتلك الحادثة أو النازلة حتى يُنزّل فيها حكم الله على الوجه الصحيح فمعرفة النازلة نصف الاجتهاد.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم.
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله» (1).
ومن البديهي أن يتم الرجوع في التصور لأهل الاختصاص فنوازل الصناعات يُرجع فيها إلى أهل الصناعات المختصين، ونوازل الطب يرجع فيها إلى الأطباء المختصين.
(1) ابن القيم، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد (بيروت: دار الجيل، د. ط 1973) ج 1، ص 87.
ومن هنا تبرز أهمية العلاقة بين الفقهاء وأهل الاختصاص، ويشهد لذلك قوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [النحل:43]، وكذا قوله تعالى:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، وأهل الذكر في نوازل الصيام الطبية هما: الطبيب والفقيه إذ بغيرهما لا يمكن إيجاد حكم شرعي صحيح، فلابد قبل إصدار الحكم الشرعي من سماع قول المختص في تصوير النازلة، وكيفية تأثيرها على الجسم، ومدى انتفاع الجسم بتلك المواد ووصولها إلى الجهاز الهضمي، عندها يستطيع الفقيه إصدار الحكم الشرعي الصحيح.
ثالثاً: التكييف والتخريج:
والتكييف: هو تصنيف المسألة تحت ما يناسبها من النظر الفقهي، أو رَدّ المسألة إلى أصل من الأصول الشرعية (1).
ويكون التكييف بعد التصور الصحيح فيضعها في بابها وموطنها إلحاقاً بالنصوص بدلالة العموم، أو المفهوم، أو الإيماء، أو الإشارة، أو القياس، أو بالاجتهاد في إلحاق هذه النازلة بما يشابهها من النوازل المتقدمة؛ لتقاس عليها، وتأخذ حكمها، وبعد أن يتم التكييف الصحيح للنازلة يكون التخريج.
والتخريج: هو نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها والتسوية بينهما فيه (2).
(1) الجيزاني، محمد حسين، فقه النوازل، مرجع سابق، ج 1، ص 47.
(2)
انظر: المرداوي، أبو الحسن علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: محمد حامد الفقي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط) ج 1، ص 6، وابن بدران، عبد القادر، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط الثانية 1401) ص 140.
ويُعَرِّفه البعض بأنه: «استنباط الأحكام الشرعية من خلال آراء أئمة المذاهب وقواعدهم» (1).
ووجه الصلة بين التكييف الفقهي والتخريج أنَّ التكييف هو الخطوة الأولى والمرحلة الأساسية التي يُبنى عليها التخريج الصحيح الموافق للدليل أو قول الإمام، فالمخرِّج أول ما يبدأ اجتهاده في واقعة ما لابد أن يتصورها تصوراً كاملاً، ثم يكيفها بإلحاقها بالصورة المشابهة لها، ثم يُخَرِّج حكمها في ضوء تكييفه لها من خلال مراتب يسير المجتهد على ضوئها ابتداءً بالأعلى، ثم الذي يليه، وهي كالآتي:
1) البحث عنها في نصوص الكتاب والسنة بدلالة العموم، أو المفهوم أو بالإشارة، مثال ذلك: دخول الشعر الصناعي (الباروكة) في قوله صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ الله الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» (2).
2) إلحاقها بالنوازل المتقدمة لتأخذ حكمها بالقياس.
مثال ذلك: إلحاق حكم البوفية المفتوحة بحكم دخول الحمَّامات بأجرة
(1) انظر: القحطاني، مسفر بن علي، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، (جدة، السعودية، دار ابن حزم، الطبعة الأولى- 1412 هـ 2003 م)، ص 355 وص 472.
(2)
رواه البخاري، كتاب اللباس، باب الوصل في الشعر، رقم:5589.
معينة مع عدم تحديد كمية الماء المستهلك ومدة المكث.
3) اندراجها تحت القواعد الفقهية أو الأصول الشرعية.
مثال ذلك: مشروعية السعي فوق سطح المسعى في تجديدات الحرم عملاً بالقاعدة الفقهية «الهواء يأخذ حكم القرار» .
4) الاجتهاد في استخراج الحكم بطريق الاستنباط من خلال النظر في مقاصد الشريعة وكلياتها، أو قواعدها الكلية، مثل: سد الذرائع، والمصالح المرسلة، والأمور بمقاصدها.
مثال ذلك: الحكم بجواز زراعة الأعضاء طلباً لمصلحة المريض المستفيد وحفظاً لحياته، والقول بوجوب الفحص الطبي قبل الزواج درءا لمفسدة انتشار الأمراض الوراثية (1).
رابعاً: التطبيق:
وذلك بتطبيق الحكم التخريجي عليها، والنظر في مدى مطابقته للنازلة والخروج بحكم شرعي مبني على سلامة التصور والتكييف والتخريج (2). فبعد أن يتصور الفقيه النازلة ويقوم بتكييفها وتخريجها فقهياً، عندها يصدر الحكم
(1) انظر: القحطاني، مسفر بن علي، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، مرجع سابق، ص 377 ومابعدها، والجيزاني، محمد حسين، فقه النوازل، مرجع سابق، ج 1،ص 51.
(2)
انظر: السفياني، عابد بن محمد، معنى النوازل والاجتهاد فيها، مجلة الأصول والنوازل، العدد الأول، (جدة: مركز المصادر، الطبعة الأولى،1430 هـ-2009 م) ص 19.
الشرعي الخاص بهذه النازلة مع ضرورة مراعاة مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية.
يقول الإمام الشاطبي: «إنّ وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً» (1).
ويقول المرداوي: «إنّ الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد، عُلِم ذلك بطريق الاستقراء» (2).
فهذه الأسرار والغايات التي وُضِعت الشريعة لأجلها من حفظ الضروريات وإصلاح لأحوال العباد في الدارين معرفتها ضرورية على الدوام ولكل الناس، فالمجتهد يحتاج إليها عند استنباط الأحكام، وفهم النصوص، وغير المجتهد للتعرف على أسرار التشريع.
والناظر في النوازل في أمَسِّ الحاجة إلى مراعاة فهم النصوص لتطبيقها على الوقائع وإلحاق حكمها بالنوازل والمستجدات، وكذلك إذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة، فإنه لابد وأن يستعين بمقصد الشرع (3).
(1) الشاطبي، إبراهيم بن موسى، الموافقات في أصول الفقه، تحقيق: عبد الله دراز، (بيروت: دار المعرفة، الطبعة الثانية، 1416 هـ - 1996 م) ج 2، ص 6.
(2)
المرداوي، علي بن سليمان، التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، تحقيق: د. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح، (الرياض: مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م) ج 7 ص 3408.
(3)
انظر: ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق الطاهر الميساوي (عمَّان، الأردن، دار النفائس، الطبعة الثانية،1421 هـ 2001 م) ص 183.
يقول الشيخ عبد الوهاب خلّاف: «ومعرفة المقصد العام من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على الوقائع، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه» (1).
والأخذ بالمقاصد وإعمالها يكون بتوسط من غير إفراط ولا تفريط، فلا إعمال مطلق مع وجود النص التفصيلي، ولا نفي مفرط، وهذا هو الموقف الأقرب للصحة والأليق بمنظومة الشرع، ومقررات العقل، ومتطلبات الواقع، ومصالح الناس (2). وهذا ما درج عليه الأئمة وسارت عليه مراتب الاستدلال.
قال الإمام الشافعي: «فليست تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها» (3).
فلابد من رد النوازل إلى الأصول فإن وجد حكمها في الأدلة التفصيلية فهو مراد الشارع والمصلحة المتحققة للعباد، وإن لم نجد في الأدلة التفصيلية نظرنا في المقاصد الكلية. ولا يجوز تجاوز النصوص إلى النظر في المقاصد الكلية؛ لأنَّ المقاصد مأخوذة من مجموع النصوص، فالمقصد الأول في النص التفصيلي هو
(1) خلّاف، عبد الوهاب، علم أصول الفقه، (القاهرة: مكتبة الدعوة، الطبعة الثامنة، دت) ص 197.
(2)
انظر: الخادمي، نور الدين بن مختار، الاجتهاد المقاصدي حجيته، ضوابطه، مجالاته، (قطر، وزارة الشؤون الإسلامية، الطبعة الأولى، 1419 هـ -1989 م) ص 39.
(3)
الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر (القاهرة: دار النشر، د. ط، 1358 هـ - 1939 م) ص 20.
المصلحة، فإن لم نجد فالمقاصد الشرعية والقواعد الكلية، ويشهد لذلك حديث معاذ رضي الله عنه: لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له: «كَيْفَ تَقْضِي؟» قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ الله، قَالَ:«فَإِنْ جَاءَكَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله» ، قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«فَإِنْ لَمْ تَكُنْ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ الله؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَالَ:«الْحَمْدُ لله الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم» (1)، فرتب معاذ رضي الله عنه مآخذ الاستدلال من النص، فإن لم يجده اجتهد رأيه حسب قواعد الشريعة، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذه التراتبية في الاستدلال.
وهذا ما درج عليه الصحابة رضي الله عنهم.
يقول ابن القيم رحمه الله: «فالصحابة رضي الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها، وشبهوها
(1) رواه أبو داود، كتاب الأقضية، رقم: 3592، والحديث مرسل إلا أن الأمة تلقته بالقبول لصحة معناه. انظر: ابن حجر، أحمد بن علي أبو الفضل العسقلاني، التلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، تحقيق: السيد عبدالله هاشم اليماني، (المدينة المنورة، 1384 هـ ـ 1964 م،) ج 4، ص 182.
(2)
رواه النسائي، كتاب آداب القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم، رقم:5397.
بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله» (1).
ومن هنا نعلم أنه إذا وُجِد العلم، وصَحَّ التصور للنازلة، وحَسُن التكييف، فإنّ الحكم الشرعي في النازلة يكون موفقاً ومسُدداً بعد توفيق الله للناظر فيها.
(1) ابن القيم، محمد بن أبي بكر الزرعي، إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق ج 1، ص 217.