المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث: الجوف عند الفقهاء: - المفطرات الطبية المعاصرة دراسة فقهية طبية مقارنة

[عبد الرزاق الكندي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ توطئة:

- ‌ موضوع البحث وأهميته:

- ‌ مشكلة البحث:

- ‌ أسئلة البحث:

- ‌ أهداف البحث:

- ‌ أسباب اختيار الموضوع:

- ‌ ما ستضيفه هذه الدراسة:

- ‌ منهجية البحث:

- ‌ هيكل البحث:

- ‌الفصل الأولالتعريفات المنهجية، وأهمية دراسة نوازل الصيام، وضوابط الفتيا فيها، والعلاقة بين الفقه والطب

- ‌المبحث الأولالتعريفات المنهجية للمُفَطِّرات الطبية المعاصرة

- ‌المطلب الأول: تعريف الصوم:

- ‌المطلب الثاني: تعريف المُفَطِّرات:

- ‌المطلب الثالث: استخدام مصطلح المُفَطِّرات:

- ‌المطلب الرابع: تعريف الطب:

- ‌المطلب الخامس: تعريف المعاصرة:

- ‌المبحث الثانيأهمية دراسة النوازل في باب المُفَطِّرات

- ‌المطلب الأول: تعريف النوازل لغة واصطلاحاً:

- ‌المطلب الثاني: أهمية دراسة النوازل في باب المُفَطِّرات المعاصرة:

- ‌المبحث الثالثشروط الفتوى في النوازل، ومن له حق الإفتاء فيها

- ‌المبحث الرابعالعلاقة بين الفقه والطب

- ‌المطلب الأول: علاقة الفقه بالطب، ومكانة الطب في الشريعة الإسلامية:

- ‌المطلب الثاني: جهود العلماء المسلمين في مجال الطب:

- ‌المطلب الثالث: اعتماد بعض الأحكام الشرعية على التخصصات الطبية:

- ‌المبحث الخامسحكم التداوي

- ‌المطلب الأول: تعريف التداوي:

- ‌المطلب الثاني: حكم التداوي:

- ‌المطلب الثالث: حكم التداوي للصائم:

- ‌الفصل الثانيتقرير قواعد الفقهاء في باب المُفَطِّرات

- ‌المبحث الأولالمُفَطِّرات المجمع عليها والمختلف فيها

- ‌المطلب الأول: المُفَطِّرات المجمع عليها:

- ‌المطلب الثاني: المُفَطِّرات المختلف فيها:

- ‌المبحث الثانيالموسعون والمضيقون في باب المُفَطِّرات

- ‌المطلب الأول: مذهب الموسعين في المُفَطِّرات:

- ‌المطلب الثاني: مذهب المضيقين في المُفَطِّرات:

- ‌المبحث الثالثتحديد الجوف وضابطه عند الفقهاء والأطباء

- ‌المطلب الأول: تعريف الجوف في اللغة:

- ‌المطلب الثاني: الجوف في النصوص الشرعية:

- ‌المطلب الثالث: الجوف عند الفقهاء:

- ‌المطلب الرابع: الجوف عند الأطباء المعاصرين (1)

- ‌المطلب الخامس: مناقشة تقرير الفقهاء للجوف:

- ‌المبحث الرابعضابط المُفَطِّرات

- ‌الفصل الثالثالمُفَطِّرات الطبية المعاصرة

- ‌المبحث الأولما يدخل الجسم عبر منافذ الوجه

- ‌المطلب الأول: بخاخ الربو وملحقاته:

- ‌المطلب الثاني: غاز الأكسجين:

- ‌المطلب الثالث: غاز التخدير (Gas anesthesia)

- ‌المطلب الرابع: معجون الأسنان ومطهرات الفم ومعالِجاته:

- ‌المطلب الخامس: منظار المعدة:

- ‌المطلب السادس: قطرات الأنف وملحقاتها:

- ‌المطلب السابع: قطرات العين، وملحقاتها:

- ‌المطلب الثامن: قطرات الأذن وملحقاتها:

- ‌المطلب التاسع: الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان:

- ‌المبحث الثانيما يدخل الجسم عبر الجلد نفاذًا وامتصاصاً

- ‌المطلب الأول: الحقن العضلية والجلدية والوريدية

- ‌المطلب الثاني: حقْن الدم في الوريد:

- ‌المطلب الثالث: الغسيل الكلوي البريتوني (1) (Peritoneal dialysis)

- ‌المطلب الرابع: منظار البطن (LAPROSCOPE):

- ‌المطلب الخامس: القسطرة القلبية (Cardiac Catheterization):

- ‌المطلب السادس: الدهانات والمراهم واللصقات العلاجية والتجميلية

- ‌المبحث الثالثما يدخل الجسم عبر الجهاز التناسلي والشرج

- ‌المطلب الأول: ما يدخل عبر الجهاز التناسلي للمرأة:

- ‌المطلب الثاني: ما يدخل عبر الجهاز البولي

- ‌المطلب الثالث: ما يدخل عن طريق الشرج:

- ‌المبحث الرابعالخارج من البدن

- ‌المطلب الأول: الغسيل الكلوي الدموي (Hemo dialysis):

- ‌المطلب الثاني: التبرع بالدم:

- ‌المطلب الثالث: أخذ الدم للتحليل:

- ‌المطلب الرابع: شفط الدهون (Liposuction):

- ‌الخاتمة

- ‌النتائج والتوصيات

- ‌ التوصيات:

الفصل: ‌المطلب الثالث: الجوف عند الفقهاء:

قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا» (1).

قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، فَاسْأَلُوا اللهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ» (2).

قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ» (3).

قوله صلى الله عليه وسلم: «أَكْثَرُ مَا يَلِجُ بِهِ الْإِنْسَانُ النَّارَ الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ» (4).

ومن خلال التأمل في النصوص الواردة في الكتاب والسنة حول الجوف نجد أنه لا يوجد فيها نص له علاقة بالصوم، وأنّ مفهوم الجوف واسع، من حيث الدلالة اللغوية، والسياق والقرائن هي التي تحدد دقة المعنى، إلّا أنَّ الشارع لم يربط به أي حكم من أحكام الصيام.

OOOOO

‌المطلب الثالث: الجوف عند الفقهاء:

أولاً: الجوف عند الحنفية:

من خلال استقراء نصوص السادة الأحناف نستطيع أن نقول إنّ عباراتهم

(1) رواه ابن ماجه، كتاب الجهاد، باب الخروج في النفير، رقم:2274.

(2)

رواه الحاكم في المستدرك، كتاب الإيمان، رقم:5.

(3)

رواه الحاكم في المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، رقم:8543.

(4)

رواه أحمد في المسند، مسند أبي هريرة، رقم:9085.

ص: 101

لم تستقر في تحديد الجوف على ضابط معين فمنهم من قصره على التجويف البطني، وهذا ما ذهب إليه جمهور الأحناف، مع اعتبار الداخل إلى الدماغ مفطراً، لا لكونه جوفاً أصلياً مؤثرا، وإنما لأنّ فيه منفذاً للتجويف البطني – حسب اعتقادهم-، وهذه نصوصهم تدل على ذلك.

قال ابن نجيم: «والمراد بترك الأكل ترك إدخال شيءٍ في بطنه أعم من كونه مأكولاً أو غير مأكول، ولا يرد ما وصل إلى الدماغ فإنه مفطر لما أنّ بين الدماغ والجوف منفذاً، فما وصل إلى الدماغ وصل إلى الجوف» (1).

وقال الكاساني: «وما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ من المخارق الأصلية، كالأنف، والأذن، والدبر، بأن استعط أو احتقن أو أقطر في أذنه فوصل إلى الجوف أو إلى الدماغ فسد صومه، أما إذا وصل إلى الجوف فلا شك فيه لوجود الأكل من حيث الصورة. وكذا إذا وصل إلى الدماغ، لأنَّ له منفذاً إلى الجوف، فكان بمنزلة زاوية من زوايا الجوف» (2).

فمن هذه النصوص يتبين أنّ التأثير حاصل عندهم بما يصل إلى التجويف البطني، وأنّ ما يصل إلى الدماغ مؤثر لكونه منفذاً إلى التجويف البطني.

وقال ابن عابدين: «والتحقيق: أن بين جوف الرأس وجوف المعدة منفذاً

(1) ابن نجيم، زين الدين، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، مرجع سابق، ج 2، ص 279.

(2)

الكاساني، علاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 1982) ج 2، ص 93.

ص: 102

أصلياً، فما وصل إلى جوف الرأس يصل إلى جوف البطن» (1).

بينما نرى أنّ الإمام السرخسي يعتبر الدماغ أحد الجوفين، وأنّ مجرد وصول الدواء إليه مفطر حيث يقول:«والإقطار في الأذن كذلك يفسد؛ لأنه يصل إلى الدماغ، والدماغ أحد الجوفين» (2).

هذا ما نص عليه جمهور الأحناف، إلا أننا نرى اختلافاً في المذهب فيما يُقَطَّر في الإحليل-ثقب الذَّكَر- وفيما يدخل إلى الجوف من غير المنافذ الأصلية.

قال الكاساني: «وأما الإقطار في الأحليل فلا يُفْسِد-أي لا يفسد الصوم- في قول أبي حنيفة، وعندهما -محمد بن الحسن وأبي يوسف- يُفْسد» (3).

وقال السمرقندي: «وأما الجائفة (4) والآمة (5) إذا داواهما: فإن كان الدواء يابساً فلا يفسد؛ لأنه لا يصل إلى الجوف، أما إذا كان رطباً: فيفسد عند أبي حنيفة، وعندهما لا يفسد، فأبو حنيفة اعتبر ظاهر الوصول بوصول المغذي إلى الجوف

(1) ابن عابدين، محمد أمين بن عمر، حاشية رد المختار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر، د. ط، 1421 هـ - 2000 م) ج 2، ص 403.

(2)

السرخسي، محمد بن أحمد بن سهل، المبسوط، مرجع سابق، ج 3، ص 67.

(3)

الكاساني، علاء الدين أبوبكر، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، مرجع سابق، ج 2، ص 93.

(4)

الجائفة: هي الجرح النافذ إلى خلاء داخل البدن، كالبطن والصدر. انظر: قلعة جي، محمد رواس، الموسوعة الفقهية الميسرة، (بيروت: دار النفائس، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م) ج 1، ص 619.

(5)

الآمة، هي الشجة في الرأس إذا بلغت أم الدماغ، وهي: الجلدة الرقيقة المُغَلِفة للدماغ. انظر: قلعة جي، المرجع السابق، ج 1، ص 16.

ص: 103

حقيقة، وهما يعتبران الوصول بالمخارق الأصلية (1)، لا غير. ويقولون: في المخارق يتيقن الوصول، فأما في المخارق العارضة فيحتمل الوصول إلى الجوف، ويحتمل الوصول إلى موضع آخر، لا إلى محل الغذاء والدواء، فلا يفسد الصوم مع الشك والاحتمال، وأبو حنيفة يقول: الوصول إلى الجوف ثابت ظاهراً، فكفى لوجوب القضاء احتياطاً» (2).

وهذا يدل على أنّ الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه –رحمهم الله قائم في مسألة الداخل من الإحليل، ومسألة ما ينفذ إلى الجوف من غير المخارق الأصلية.

كما أنّ الأحناف لا يكتفون بمجرد دخول الشيء إلى الجوف، وإنما يشترطون استقرار المادة التي دخلت.

قال الكاساني: «ولو طُعِن برمح فوصل إلى جوفه أو إلى دماغه: فإن أخرجه مع النصل لم يفسد، وإن بقي النصل فيه يفسد، وكذا قالوا: فيمن ابتلع لحماً مربوطاً على خيط ثم انتزعه من ساعته إنَّه لا يفسد، وإن تركه فسد

وهذا يدل على أن استقرار الداخل في الجوف شرط فساد الصوم» (3).

ومما سبق ندرك أن جمهور الأحناف يقتصرون على حصر الجوف بالتجويف

(1) المخارق الأصليه عندهم هي: الفم، والأنف، والأذن، وفرج المرأة. انظر: السرخسي، محمد بن أحمد بن سهل، المبسوط، مرجع سابق، ج 3، ص 68.

(2)

السمرقندي، علاء الدين، تحفة الفقهاء، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1984 م) ج 2، ص 356.

(3)

الكاساني، علاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، مرجع سابق، ج 2، ص 93.

ص: 104

البطني، وأنّ الدماغ معتبر لوجود منفذ إلى البطن، ضرورة أن يكون النافذ إليه عبر المخارق الأصلية، ويرى بعضهم أنَّ الداخل إلى الإحليل والنافذ من غير المخارق الأصلية مؤثر.

وعدم انضباط كل الأحناف على قول واحد يرجع إلى عدم وجود حَدٍّ، أو ماهية للجوف في النصوص الشرعية؛ لكون الجوف ليس علة منصوصة، ولم يربط الشارع فساد الصوم بما يصل إليه بنص قطعي أو ظني.

ثانياً: الجوف عند المالكية:

بعد استقراء أقوال السادة المالكية حول الجوف نجد أنّ جمهور المالكية يقصرون الجوف على الحلق والمعدة والأمعاء «الجهاز الهضمي» ، وما يوصل إليها كالدبر وفرج المرأة-حسب ظنهم-، ومنهم من اعتبر ما يدخل إلى الدماغ مؤثراً ومفسدا للصوم.

قال سحنون: قلت لابن القاسم عن قول مالك في الكحل فقال: قال مالك «إذا دخل حلقه-أي الكحل- وعُلِم أنَّه قد وصل الكحل إلى حلقه فعليه القضاء» (1). وهذا نص من مالك على أنّ ابتداء الجوف من الحلق.

وقال الخرشي: «وما وصل الأمعاء -أي من الدبر- من طعام حصل به فائدة الغذاء، فإنَّ الحقنة تُجْذَب من المعدة، ومن سائر الأمعاء عند الأطباء، فصار

(1) سحنون، عبد السلام بن سعيد، المدونة الكبرى، مرجع سابق، ج 1، ص 197.

ص: 105

ذلك في معنى الأكل» (1).

وقال القرافي: «ولا يُفَطِّر ما وصل إلى الدماغ، خلافاً للأئمة» (2).

وقال الدسوقي: «ما وصل للمعدة من منفذ عالٍ موجب للقضاء، سواء كان ذلك المنفذ واسعاً أو ضيقاً بخلاف ما يصل للمعدة من منفذ سافل فإنه يشترط فيه كونه واسعاً كالدبر، وقُبُل المرأة والثقبة، لا كإحليل وجائفة وهي الخرق الصغير جداً الواصل للبطن، وصل للمعدة أو لا» (3).

وهذا يبين أنَّ مذهب جمهور المالكية فيما يصل إلى التجويف البطني لا بد أن يكون من خلال المنافذ المعتادة، بدليل عدم اعتبارهم لما يدخل من الجائفة.

وبعض المالكية لا يُسلِّم باعتبار فرج المرأة منفذاً إلى الجوف، ويرى أنّ فرج المرأة ليس متصلاً بالجوف فلا يصل منه شيء إليه (4).

يقول الصاوي: «فرج المرأة وفيه نظر بل هو كالإحليل -أي غير معتبر-» (5).

كما أنّهم لا يعتبرون الدماغ من الجوف، أو أنّ ما يصل إليه مؤثر خلافاً

(1) الخرشي، محمد بن عبد الله، شرح مختصر خليل، (بيروت: دار الفكر، د. ط، د. ت) ج 2، ص 249.

(2)

القرافي، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المصري، الذخيرة في فروع المالكية، تحقيق: محمد حجي، (بيروت: دار الغرب، د. ط، د. ت، 1994 م) ج 2، ص 505.

(3)

الدسوقي، محمد عرفه، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، مرجع سابق، ج 1، ص 524.

(4)

المرجع السابق، ج 1، ص 533.

(5)

الصاوي، أحمد، بلغة السالك لأقرب المسالك، تحقيق: محمد عبد السلام شاهين (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م) ج 1، ص 451.

ص: 106

للأحناف والشافعية والحنابلة.

ويرى بعض المالكية أنَّ ما يصل إلى الدماغ مؤثر.

قال المغربي «المعروف بالحطّاب» : «واستنشاق قدر الطعام بمثابة البخور; لأنّ ريح الطعام له جسم يتقوى به الدماغ، فيحصل به ما يحصل بالأكل» (1).

وبعد هذا الاستقراء لنصوص السادة المالكية حول مفهوم الجوف نرى أنّّ جمهور المالكية يقصرون الجوف على الحلق والأمعاء والمعدة «الجهاز الهضمي» ، ومنهم من وسع قليلاً واعتبر الواصل إلى الدماغ مفسداً للصوم بمجرد وصوله كما تفيد عبارة المغربي.

وعليه لا يمكن استنتاج ضابط للجوف عند كل المالكية، ولكنهم أضيق في مفهوم الجوف من الشافعية والحنابلة.

وهذا الخلاف وعدم القدرة على تحديد ضابط مُطَّرد في المذهب الواحد يرجع إلى ما أسلفنا الحديث عنه من كون مصطلح الجوف لم يرد في النصوص الشرعية كعلة لفساد الصوم بما يصل إليه، فضلاً عن عدم وجود نص يحدد ماهيته.

ثالثاً: الجوف عند الشافعية:

من خلال استقراء نصوص السادة الشافعية نجد أنّهم أوسع المذاهب في

(1) المغربي، محمد بن عبد الرحمن، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل (بيروت: دار الفكر الطبعة: الثانية 1398) ج 2، ص 426.

ص: 107

تحديد الجوف، وأنهم على مذهبين: مذهب الأكثر، ومذهب الأقل كما سيتبين من خلال نصوصهم.

وقد نص الإمام النووي على ذلك بقوله: «وضبط الأصحاب الداخل المفطر بالعين الواصلة من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم، وفيه قيود منها: الباطن الواصل إليه، وفيما يعتبر به وجهان.

أحدهما: أنه ما يقع عليه اسم الجوف، والثاني: يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من دواء أو غذاء. والأول هو الموافق لتفريع الأكثرين» (1).

وهذا نص على محل الخلاف في اعتبار ما يكون جوفاً مؤثراً، وأنَّ مذهب الأكثرين عدم اعتبار كون الجوف الواصل إليه محيلاً للغذاء والدواء.

قال الأنصاري في حديثه عن مفسدات الصوم: «دخول عين من الظاهر وإن لم تؤكل عادة كحصاة جوفاً له

، ولو كان الجوف سوى محيل «أي غير محيل» للغذاء، أو الدواء كباطن الأذن، وإن كان لا منفذ منه إلى الدماغ; لأنّه نافذ إلى داخل قحف الرأس، وهو جوف، أو باطن الإحليل وإن لم يجاوز الداخل فيه الحشفة، كما يبطل بالواصل إلى حلقه وإن لم يصل إلى معدته، والمحيل كباطن الدماغ، والبطن، والأمعاء، والمثانة» (2).

(1) النووي، يحيى بن شرف الدين، المجموع شرح المهذب، مرجع سابق، ج 6، 321.

(2)

الأنصاري، زكريا بن محمد، الغرر البهية في شرح البهجة الوردية، (المطبعة الميمنية، د. ط، د. ت) ج 2، ص 213.

ص: 108

وقال الغمراوي: «وشرطه أيضا الإمساك عن وصول العين وإن قَلَّت إلى ما يسمى جوفاً، وقيل يشترط مع هذا أن يكون فيه أي الجوف قوة تحيل الغذاء أي المأكول والمشروب» (1).

وقال الشربيني: «والذي يفطر به الصائم عشرة أشياء، الأول: ما وصل من عين وإن قلّت كسمسمة عمداً مختاراً عالماً بالتحريم إلى مطلق الجوف من منفذ مفتوح، سواءً أكان يحيل الغذاء أو الدواء أم لا، كباطن الحلق والبطن والأمعاء وباطن الرأس؛ لأنَّ الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف» (2).

وقال أيضاً: «والتقطير في باطن الأذن وإن لم يصل إلى الدماغ وباطن الإحليل، -وهو مخرج البول من الذكر واللبن من الثدي-، وإن لم يصل إلى المثانة ولم يجاوز الحشفة أو الحلمة مفطر في الأصح بناءً على الوجه الأول، وهو اعتبار كل ما يسمى جوفا، والثاني: لا، بناءً على مقابِله، إذ ليس فيه قوة الإحالة، وأُلحِق بالجوف على الأول الحلق» (3).

كما اختلف الشافعية فيما يدخل الإحليل هل يقع الفطر بمجرد الدخول أم

(1) الغمراوي، محمد الزهري، السراج الوهاج على متن المنهاج، (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، د. ط) ج 1، ص 138.

(2)

الشربيني، محمد بن أحمد الخطيب، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات، (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1415 هـ) ج 1، ص 237.

(3)

الشربيني، محمد بن أحمد الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (بيروت: دار الفكر، د. ط، د. ت) ج 1، ص 428.

ص: 109

يلزم أن يصل المثانة.

يقول النووي: «وإن زَرَقَ في إحليله شيئاً، أو أدخل فيه ميلاً ففيه وجهان، أحدهما: يبطل صومه، لأنّه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه، فتعلق بالواصل إليه كالفم والثاني: لا يبطل؛ لأنَّ ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف فهو بمنزلة ما لو ترك في فمه شيئاً» (1).

وهذه النصوص تبين لنا أن الجوف عند الشافعية يشمل كل مجوف كباطن الإذن، وداخل قحف الرأس، والداخل إلى الحلق، وإن لم يصل الداخل إليها إلى المعدة، وباطن الإحليل، على خلاف بينهم في لزوم وصوله إلى المثانة أو عدم لزومه.

ولا يشترطون أن يكون الجوف محيلاً للغذاء، وهذا مذهب أكثر الشافعية والمشهور عندهم.

ومذهب الأقل: قيدوا الجوف بما فيه قوة محيلة للغذاء أو الدواء، أو كان طريقاً إلى الجوف المحيل. وما سواها فلا أثر له في إفطار الصائم عندهم.

وممن ذهب إلى ذلك من علماء الشافعية الإمام الغزالي حيث يقول: «وأما الباطن: عنينا به كل موضع مجوف فيه قوة محيلة للدواء والغذاء كداخل القحف

(1) النووي، يحيى بن شرف الدين، المجموع شرح المهذب، مرجع سابق، ج 6، 320.

ص: 110

والخريطة، وداخل البطن، والأمعاء، والمثانة» (1).

والفريقان متفقان على أنّ البطن، والأمعاء، والمثانة، وباطن الدماغ أجواف معتبرة في فساد الصوم فما يصل إليها من الخارج يُفَطِّر بلا خلاف عندهم؛ لأنَّ في كلٍّ منها قوة محيلة.

ومن خلال نصوص السادة الشافعية حول مفهوم الجوف نجد أنهم أوسع المذاهب، ومع ذلك فهم مختلفون في تحديده، وفي اشتراط كونه مما يحيل الغذاء والدواء، أم لا يحيل.

كل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره من أنّ سبب الخلاف وعدم القدرة على ضبط مفهوم الجوف حتى في المذهب الواحد راجع إلى كون لفظة الجوف لم ترد في النصوص الشرعية- الكتاب والسنة- علة ومناطاً لفساد الصوم.

رابعاً: الجوف عند الحنابلة:

من خلال استقراء نصوص السادة الحنابلة نجد أنهم اختلفوا كما اختلف غيرهم من المذاهب في تحديد مفهوم الجوف وتباينت نصوصهم، وهم أقرب إلى الشافعية، فمنهم من يرى رأي أكثر الشافعية، ومنهم من يرى رأي الأقل من الشافعية. ومن خلال استعراض نصوصهم يتبين لنا ذلك.

(1) الغزالي، محمد بن محمد أبو حامد، الوسيط في المذهب، تحقيق: أحمد محمود إبراهيم، ومحمد محمد تامر، (القاهرة، دار السلام، الطبعة الأولى، 1417 هـ) ج 2، ص 525.

ص: 111

قال ابن قدامة: «يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره، وكان مما يمكن التحرز منه، سواء وصل من الفم على العادة أو غير العادة، كالوجور واللدود (1)، أو من الأنف كالسعوط، أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه، أو من دواء المأمومة إلى دماغه فهذا كله يُفَطِّر؛ لأنّه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل، وكذلك لو جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه، سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه» (2).

وقال البهوتي: «

أو أدخل جوفه أو مجوف في جسده، كدماغه، وحلقه وباطن فرجها، وإذا أدخلت إصبعها، ونحو ذلك أي نحو الدماغ، والحلق، وباطن فرجها كالدبر، مما ينفذ إلى معدته شيئاً من أي موضع كان، ولو خيطاً ابتلعه كله أو ابتلع بعضه، أو رأس سكين، من فعله أو فعل غيره بإذنه، فغاب في جوفه، فسد صومه» (3).

فهذه النصوص تبين أن مسمى الجوف عند الحنابلة يدخل فيه المعدة والحلق

(1) الوجور بفتح الواو وهو ما صب في وسط الفم في الحلق، واللدود ما صب في أحد جانبيه، انظر: النووي، يحيى بن شرف الدين، تهذيب الأسماء واللغات، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى، 1996 م) ج 3، ص 362.

(2)

ابن قدامة، عبد الله بن أحمد المقدسي، المغني في فقه الإمام، ج 3، ص 16.

(3)

البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس، كشاف القناع عن متن الإقناع، مرجع سابق، ج 2، ص 318.

ص: 112

والأمعاء، والدبر، وباطن الفرج، والدماغ.

ومن الحنابلة من يشترط كمذهب الأقل من الشافعية أن يكون الجوف الواصل إليه مما يحيل الغذاء والدواء.

قال ابن مفلح: «وإن داوى جرحه، أو جائفته، فوصل الدواء إلى جوفه، أو داوى مأموته فوصل إلى دماغه، أو أدخل إلى مجوف فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء شيئا من أَيِّ موضع أفطر» (1).

وقال: «أو داوى المأمومة أو قطر في أذنه ما يصل إلى دماغه؛ لأنَّ الدماغ أحد الجوفين فالواصل إليه يغذيه فأفسد الصوم» (2).

وقال المرداوي: «مثل ذلك في الحكم لو أدخل شيئاً إلى مجوف فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء من أي موضع كان» (3).

كما اختلف الحنابلة في الداخل إلى الإحليل، فجمهورهم على عدم فساد الصوم وإن وصل المثانة، ولهم قول آخر بالفساد إن وصل المثانة.

قال المرداوي: «وإن أقطر في إحليله لم يفسد صومه، وهو المذهب، نص

(1) ابن مفلح، محمد المقدسي، الفروع وتصحيح الفروع، تحقيق: أبو الزهراء حازم القاضي، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418 هـ) ج 3، ص 35.

(2)

ابن مفلح، محمد المقدسي، المبدع في شرح المقنع، (بيروت: المكتب الإسلامي، د. ط، 1400 هـ -1980 م) ج 3، ص 23.

(3)

المرداوي، علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، مرجع سابق، ج 3، ص 299.

ص: 113

عليه، وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به أكثرهم، وقيل: يفطر إن وصل إلى مثانته، وهو العضو الذي يجتمع فيه البول داخل الجوف» (1).

ويستفاد من النصوص المتقدمة أنَّ الجوف عند الحنابلة هو المعدة المحيلة للغذاء والدواء، أو أي مُجَوَّفٍ في الجسم ينفذ إلى المعدة كالدماغ والحلق وباطن الفرج والدبر.

ومن خلال ما ذكرنا من نصوص السادة الحنابلة حول مفهوم الجوف نجد أنهم ممن توسع في مفهوم الجوف، إلا أنّهم مع ذلك مختلفون في تحديده كبقية المذاهب، وهل يشترط كون الجوف مما يحيل الغذاء والدواء، أم لا يشترط، كل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره من أنّ سبب الخلاف، وعدم القدرة على ضبط مفهوم الجوف حتى في المذهب الواحد راجع إلى كون الجوف علة مستنبطة لم ترد في النصوص.

OOOOO

(1) المرجع السابق، ج 3، ص 307.

ص: 114