المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: حكم التداوي: - المفطرات الطبية المعاصرة دراسة فقهية طبية مقارنة

[عبد الرزاق الكندي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ توطئة:

- ‌ موضوع البحث وأهميته:

- ‌ مشكلة البحث:

- ‌ أسئلة البحث:

- ‌ أهداف البحث:

- ‌ أسباب اختيار الموضوع:

- ‌ ما ستضيفه هذه الدراسة:

- ‌ منهجية البحث:

- ‌ هيكل البحث:

- ‌الفصل الأولالتعريفات المنهجية، وأهمية دراسة نوازل الصيام، وضوابط الفتيا فيها، والعلاقة بين الفقه والطب

- ‌المبحث الأولالتعريفات المنهجية للمُفَطِّرات الطبية المعاصرة

- ‌المطلب الأول: تعريف الصوم:

- ‌المطلب الثاني: تعريف المُفَطِّرات:

- ‌المطلب الثالث: استخدام مصطلح المُفَطِّرات:

- ‌المطلب الرابع: تعريف الطب:

- ‌المطلب الخامس: تعريف المعاصرة:

- ‌المبحث الثانيأهمية دراسة النوازل في باب المُفَطِّرات

- ‌المطلب الأول: تعريف النوازل لغة واصطلاحاً:

- ‌المطلب الثاني: أهمية دراسة النوازل في باب المُفَطِّرات المعاصرة:

- ‌المبحث الثالثشروط الفتوى في النوازل، ومن له حق الإفتاء فيها

- ‌المبحث الرابعالعلاقة بين الفقه والطب

- ‌المطلب الأول: علاقة الفقه بالطب، ومكانة الطب في الشريعة الإسلامية:

- ‌المطلب الثاني: جهود العلماء المسلمين في مجال الطب:

- ‌المطلب الثالث: اعتماد بعض الأحكام الشرعية على التخصصات الطبية:

- ‌المبحث الخامسحكم التداوي

- ‌المطلب الأول: تعريف التداوي:

- ‌المطلب الثاني: حكم التداوي:

- ‌المطلب الثالث: حكم التداوي للصائم:

- ‌الفصل الثانيتقرير قواعد الفقهاء في باب المُفَطِّرات

- ‌المبحث الأولالمُفَطِّرات المجمع عليها والمختلف فيها

- ‌المطلب الأول: المُفَطِّرات المجمع عليها:

- ‌المطلب الثاني: المُفَطِّرات المختلف فيها:

- ‌المبحث الثانيالموسعون والمضيقون في باب المُفَطِّرات

- ‌المطلب الأول: مذهب الموسعين في المُفَطِّرات:

- ‌المطلب الثاني: مذهب المضيقين في المُفَطِّرات:

- ‌المبحث الثالثتحديد الجوف وضابطه عند الفقهاء والأطباء

- ‌المطلب الأول: تعريف الجوف في اللغة:

- ‌المطلب الثاني: الجوف في النصوص الشرعية:

- ‌المطلب الثالث: الجوف عند الفقهاء:

- ‌المطلب الرابع: الجوف عند الأطباء المعاصرين (1)

- ‌المطلب الخامس: مناقشة تقرير الفقهاء للجوف:

- ‌المبحث الرابعضابط المُفَطِّرات

- ‌الفصل الثالثالمُفَطِّرات الطبية المعاصرة

- ‌المبحث الأولما يدخل الجسم عبر منافذ الوجه

- ‌المطلب الأول: بخاخ الربو وملحقاته:

- ‌المطلب الثاني: غاز الأكسجين:

- ‌المطلب الثالث: غاز التخدير (Gas anesthesia)

- ‌المطلب الرابع: معجون الأسنان ومطهرات الفم ومعالِجاته:

- ‌المطلب الخامس: منظار المعدة:

- ‌المطلب السادس: قطرات الأنف وملحقاتها:

- ‌المطلب السابع: قطرات العين، وملحقاتها:

- ‌المطلب الثامن: قطرات الأذن وملحقاتها:

- ‌المطلب التاسع: الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان:

- ‌المبحث الثانيما يدخل الجسم عبر الجلد نفاذًا وامتصاصاً

- ‌المطلب الأول: الحقن العضلية والجلدية والوريدية

- ‌المطلب الثاني: حقْن الدم في الوريد:

- ‌المطلب الثالث: الغسيل الكلوي البريتوني (1) (Peritoneal dialysis)

- ‌المطلب الرابع: منظار البطن (LAPROSCOPE):

- ‌المطلب الخامس: القسطرة القلبية (Cardiac Catheterization):

- ‌المطلب السادس: الدهانات والمراهم واللصقات العلاجية والتجميلية

- ‌المبحث الثالثما يدخل الجسم عبر الجهاز التناسلي والشرج

- ‌المطلب الأول: ما يدخل عبر الجهاز التناسلي للمرأة:

- ‌المطلب الثاني: ما يدخل عبر الجهاز البولي

- ‌المطلب الثالث: ما يدخل عن طريق الشرج:

- ‌المبحث الرابعالخارج من البدن

- ‌المطلب الأول: الغسيل الكلوي الدموي (Hemo dialysis):

- ‌المطلب الثاني: التبرع بالدم:

- ‌المطلب الثالث: أخذ الدم للتحليل:

- ‌المطلب الرابع: شفط الدهون (Liposuction):

- ‌الخاتمة

- ‌النتائج والتوصيات

- ‌ التوصيات:

الفصل: ‌المطلب الثاني: حكم التداوي:

لسد نقص في الجسم، وتستعمل الأدوية أيضاً في التشخيص والوقاية من الأمراض. وقد تكون الأدوية من أصل نباتي، أو حيواني، أو معدني، كما قد تكون مركباً تركيباً تخليقياً في المختبر (1).

OOOOO

‌المطلب الثاني: حكم التداوي:

جاءت النصوص الشرعية صحيحة وصريحة في مشروعية التداوي والحث عليه من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى عن النحل:{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29]، وهذه الآية متضمنة مشروعية التداوي، والطب العلاجي والوقائي، وبها استدل عمرو بن العاص رضي الله عنه حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفا على نفسه منه، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على احتجاجه هذا (2).

ومن السنة المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم: «تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللهَ عز وجل لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ» (3).

(1) القاموس الطبي العربي، موقع طبيب على الإنترنت www.altibbi.com. تاريخ التصفح،22/ 1/2010 م.

(2)

انظر: ابن عطية، عبد الحق بن غالب الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد (لبنان: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1413 هـ- 1993 م) ج 5، ص 150.

(3)

سبق تخريجه، ص (50).

ص: 58

إلا أن العلماء اختلفوا في مراتب مشروعية التداوي على أقوال نذكرها، ونذكر أدلتهم، ثم نذكر الراجح.

القول الأول (وجوب التداوي): وهو قول بعض الحنابلة (1). وعزاه ابن تيمية لبعض الشافعية (2).

أدلتهم: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:

الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللهَ عز وجل لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ» (3).

ووجه الاستدلال: أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: «تَدَاوَوْا» أمْرٌ بالتداوي، والأمر يدل على الوجوب (4).

الدليل الثاني: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَخِي

(1) انظر: المرداوي، أبو الحسن علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مرجع سابق، ج 2، ص 463.

(2)

انظر: ابن تيمية، أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني، مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي (القاهرة: مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية، د ت) ج 24، ص 269. نقل ابن تيمية هذا القول عن بعض الشافعية، ولم أجد في كتبهم من نص على ذلك إلا ما ذكره البرلسي الملقب بعميرة في حاشيته على المنهاج حيث يقول: «إذا كان به جرح يخاف منه التلف وجب». انظر: البرلسي، شهاب الدين أحمد، حاشية عميرة على المنهاج، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م) ج 1، ص 403. وهذا القول لا يعني القول بالوجوب مطلقاً، ولعل ابن تيمية وقف على قول عند الشافعية لم أتمكن من الوقوف عليه.

(3)

سبق تخريجه، ص (50).

(4)

انظر: الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله، التلخيص في أصول الفقه، تحقيق: عبد الله جولم النبالي، وبشير أحمد العمري، (بيروت: دار البشائر الإسلامية، د. ط 1417 هـ- 1996 م) ج 1، ص 269.

ص: 59

يَشْتَكِي بَطْنَهُ، فَقَالَ:«اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ، فَقَالَ:«اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ؟ فَقَالَ: «صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اسْقِهِ عَسَلًا» فَسَقَاهُ فَبَرَأَ (1).

ووجه الاستدلال: أنّه صلى الله عليه وسلم أمره بشرب العسل وهو من التداوي، فدل على أنه مأمور به. والأمر يدل على الوجوب عند الإطلاق.

المناقشة: نوقش هذا الاستدلال بأنه لو سلمنا بهذا القول لَلَحِق من ترك التداوي الذم بتركه، ومن المعلوم أن بعض الصحابة تَرَك التداوي كأبي بكر، وأبي ذر، وأبي الدرداء، ولم ينكر عليهم أحد، ولو كان التداوي واجباً عليهم لم يتركوه، ولأنكر عليهم بقية الصحابة (2).

القول الثاني (استحباب التداوي): وهو مذهب الشافعية (3)، وجمهور السلف، وعامة الخلف.

قال النووي: «استحباب الدواء هو مذهب أصحابنا، وجمهور السلف

(1) رواه البخاري، كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، رقم: 5684، ومسلم، كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، رقم:2217.

(2)

انظر: ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري (المغرب: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، د. ط 1387) ج 5، ص 279.

(3)

انظر: النووي، يحيى بن شرف الدين، المجموع شرح المهذب، مرجع سابق ج 5، ص 96، وانظر: النووي، يحيى بن شرف الدين، روضة الطالبين وعمدة المفتين، (بيروت: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1405) ج 2، ص 96.

ص: 60

وعامة الخلف» (1).

أدلتهم: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:

الدليل الأول: قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82].

الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69].

ووجه الاستدلال من الآيتين الكريمتين: أنهما في مقام الامتنان على العباد بما هو شفاء لهم، فدل على أن طلب الشفاء بالتداوي أمر مطلوب.

الدليل الثالث: استدلوا بالأحاديث التي استدل بها القائلون بالوجوب، إلا أنهم قالوا إنّ الأمر فيها مصروف من الوجوب إلى الاستحباب بأدلة أخرى، فانصرف الوجوب، وبقي الاستحباب.

المناقشة: نوقش بأنّ القول بالاستحباب مطلقاً يتنافى مع النصوص في الحالات التي قد يهلك فيها الإنسان من المرض؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29]، أو يضر غيره بالعدوى، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا

(1) النووي، يحيى بن شرف الدين، شرح صحيح مسلم (بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية 1392 هـ) ج 1، ص 213، المرداوي، أبو الحسن علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مرجع سابق، ج 2، ص 463.541.

ص: 61

ضِرَارَ» (1).

القول الثالث (أن التداوي مباح): وهو قول الحنفية (2)، والمالكية (3)، وبعض الحنابلة (4).

قال ابن عبد البر: «وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء» (5).

أدلتهم: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:

الدليل الأول: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا

(1) رواه ابن ماجه، كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، رقم:2340. وقَوّى الحديث الإمام النووي فقال: «له طرق يقوي بعضها بعضا».وتبعه ابن رجب. انظر: ابن رجب، أبو الفرج عبد الرحمن البغدادي، جامع العلوم والحكم، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وإبراهيم باجس (بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة السابعة 1417 هـ - 1997 م) ج 1، ص 304.

(2)

السرخسي، محمد بن أحمد بن سهل، المبسوط، مرجع سابق، ج 10، ص 156، والمرغيناني، أبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني، الهداية شرح بداية المبتدي، (المكتبة الإسلامية، د. ط، د. ت) ج 4، ص 97.

(3)

العبدري، محمد بن يوسف بن أبي القاسم، التاج والإكليل شرح مختصر خليل، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الثانية 1398) ج 2، ص 6، القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن (القاهرة، دار الشعب) ج 10، ص 138.

(4)

المرداوي، أبو الحسن علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، مرجع سابق، ج 2، ص 463، والبهوتي، منصور بن يونس بن إدريس، كشاف القناع عن متن الإقناع، تحقيق: هلال مصيلحي (بيروت: دار الفكر، د. ط 1402 هـ) ج 2، ص 76.

(5)

ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله النمري، التمهيد لما في الموطأ، مرجع سابق، ج 5، ص 279.

ص: 62

إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا»، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا» (1).

ووجه الاستدلال في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنْ شِئْتُمْ» فهو دليل على الإباحة المطلقة، ولو كان التداوي مستحباً، أو واجباً لبينه صلى الله عليه وسلم ولم يؤخره عن وقت الحاجة.

الدليل الثاني: حديث عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: سألت عائشة عَنِ الرُّقْيَةِ مِنَ الْحُمَةِ (2)، فَقَالَتْ:«رَخَّصَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي الرُّقْيَةِ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ» (3).

ووجه الاستدلال: أن التداوي رخصة فيكون مباحاً.

المناقشة: نوقش الدليل الأول: بأنّ جملة «إِنْ شِئْتُمْ» : لا تدل على الإباحة؛ لأنّه قد ورد في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها (4).

ونوقش الدليل الثاني: بأنّ كلمة رخص في مقابل المنع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك أولاً، ثم رخص فيها، وقد ثبت أنه رقى بنفسه ورُقي وحث على

(1) رواه مسلم في الصحيح، كتاب القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، رقم:671.

(2)

والحُمَة: بضم الحاء وتخفيف الميم: سُمّ العقرب، أو سُمّ اللدغات عموما. انظر: ابن حجر، أحمد بن علي أبو الفضل العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: محب الدين الخطيب (بيروت: دار المعرفة، د. ط، د. ت) ج 10، ص 156.

(3)

رواه البخاري، كتاب الطب، باب رقية الحية والعقرب، رقم:5409.

(4)

هذه الرواية عند البخاري، كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، حديث رقم:231

ص: 63

الرقية.

القول الرابع (التداوي محرم): وهو قول بعض غلاة الصوفية (1).

أدلتهم: استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:

الدليل الأول: قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22].

ووجه الاستدلال: أنه مادام كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي.

وقالوا إنّ الولاية لا تتم إلا إذا رضي العبد بجميع ما نزل به من البلاء، وأنَّ الله قد علم أيام المرض، وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته لما استطاعوا.

المناقشة: نوقش هذا الاستدلال بأنّ هذا المفهوم للآية غير صحيح ولا يُسلم لهم، وذلك أنّه ليس في الآية إشارة إلى ترك التداوي، وإنما قررت الآية أنّ المصائب سبق أن سطرت في اللوح المحفوظ، كما أنّ النصوص التي حثت على التداوي وأمرت به تَردُّ عليهم وتبطل استدلالهم.

قال الشوكاني: «من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعاً لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم بين درعين، ولبس على

(1) انظر: النووي، يحيى بن شرف الدين، شرح صحيح مسلم، مرجع سابق، ج 14،ص 191، القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، ج 10، ص 138.

ص: 64

رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشِعب، وخندق حول المدينة، وأَذِن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله أيعقل ناقته أو يتوكل:«اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» (1) فأشار إلى أنّ الاحتراز لا يدفع التوكل» (2).

الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» ، قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (3).

وجه الاستدلال: أنّه صلى الله عليه وسلم ذكر أنَّ مِنْ وَصْف هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، فدل هذا على أنّ ترك التداوي هو الأقرب إلى التوكل وهو المطلوب.

المناقشة: نوقش هذا الاستدلال بأن الحديث ليس فيه ذكر التداوي، وإنما فيه وصف للذين يدخلون الجنة بغير حساب (4).

(1) رواه ابن حبان، كتاب الرقائق، باب الورع والتوكل، رقم:731.

(2)

الشوكاني، محمد بن علي، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار (بيروت: دار الجيل، د. ط، 1973) ج 9، ص 92.

(3)

رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه، رقم: 6106، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، رقم:218.

(4)

انظر: الأشقر، محمد سليمان، أبحاث اجتهادية في الفقه الطبي، (بيروت: الرسالة ناشرون، الطبعة الأولى، 1422 هـ ـ 2001 م) ص 231.

ص: 65

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في «الفتح» أجوبة العلماء عن الاستدلال بهذا الحديث، وأنه ليس كما فهمه غلاة الصوفية، ومن هؤلاء الأئمة الحليمي حيث قال:«يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المُعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء، ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله، والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ولا يخشون من ذلك شيئًا» (1).

الترجيح: بعد استعراض الأقوال، وأدلة كل فريق، ومناقشة الأدلة يترجح للباحث أنّ التداوي تلحقه الأحكام التكليفية الخمسة، وأنّه لا عبرة بقول غلاة الصوفية بالتحريم مطلقاً لتهافت أدلتهم ولمخالفته لما انعقد عليه الإجماع السكوتي قبلهم.

فقد يكون التداوي واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون مباحاً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً بحسب اختلاف الأحوال والأشخاص جمعاً بين الأدلة وإعمالا لها جميعاً، فحكمه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص:

- فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه، أو أحد أعضائه، أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره كالأمراض المنتقلة.

-

(1) ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، مرجع سابق، ج 10، ص 211.

ص: 66