الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: الغسيل الكلوي الدموي (Hemo dialysis):
الجانب الطبي:
الغسيل الكلوي الدموي:
هو عملية استخلاص المواد السامة، والسوائل الزائدة عن حاجة الجسم باستخدام مُرشِح.
وتعتمد هذه الطريقة على ضخ الدم من خلال الكلية الصناعية (جهاز الغسيل الكلوي) التي يتم من خلالها إزالة السموم، ومن ثم إعادة الدم إلى الجسم.
والكلية الصناعية هي عبارة عن اسطوانة تحتوي على غشاء يفصل بين الدم وسائل التنقية. ويوجد في هذا الغشاء فتحات صغيرة جداً تسمح بمرور السموم والأملاح والماء إلى سائل التنقية عبر هذا الغشاء.
وسائل التنقية عبارة عن ماء يضاف إليه بعض الأملاح وسكر ومعادن تعادل الكميات الموجودة في الدم (1).
جهاز الغسيل الكلوي:
هو عبارة عن جهاز مؤلف من أنابيب بلاستيكية وجزء فعّال يسمى الفلتر (المُرشِح أو المُصفِي) وهنالك سوائل حمضية تحتوي على الأملاح والسكريات
(1) انظر: د. السويداء، عبد الكريم عمر، غسيل الكلى وأثره على الصيام، مرجع سابق، ص 8.
بنسبة محددة، وهناك سائل البيكربونات وهناك الماء المقطر الذي لا يحوي على أملاح أو سكريات، والذي يخرج من محطة تنقية المياه، وتختلط هذه السوائل جميعها داخل جهاز الغسيل الكلوي ويسمى الخليط سائل الإنقاذ (1).
وتعْبُر الفضلات السامة والأملاح الزائدة من الدم إلى سائل التنقية، كما تَعْبُر بعض المعادن والسكر من سائل التنقية إلى الدم، ومن ثم يتم ضخ الدم إلى الجسم مرة أخرى، بينما يُطْرَد سائل التنقية المُحَمَّل بالفضلات السامة إلى الصرف الصحي، وتستلزم عملية التنقية الدموية إعطاء أدوية متعددة كمسيلات الدم والهرمونات والفتمينات.
3:51 صورة توضيحية لكيفية عملية الغسيل الكلوي
(1) من حوار أجريته مع الدكتور ماهر بشير الخردة جي، استشاري أمراض الكلى بمستشفى بريدة المركزي، السعودية، بتاريخ 3/ 6/2010 م.
الجانب الفقهي:
التكييف الفقهي:
بعد الاستعراض الطبي للغسيل الكلوي الدموي نجد أنه عبارة عن إخراج دم كثير من البدن، ثم إعادته مصفىً مضافاً إليه مواد حيوية كالسكر والماء والأملاح، فالتكييف الفقهي له من شقين:
• الشق الأول فيه مطابق لمسألة الحجامة؛ حيث أنها إخراج دم كثير من البدن.
• الشق الثاني هو إعادة الدم إلى البدن عبر الوريد.
التخريج الفقهي:
بما أن إخراج الدم الكثير من البدن هو شبيه وموافق لصورة الحجامة، فما هي الحجامة؟ وما هو حكمها؟
أولاً: توصيف الحجامة:
الحجامة: من الحَجْم (بفتح الحاء وتسكين الجيم) أَي المصّ، وهي استخراج الدم المحتقن من الجسم عن طريق الامتصاص.
والحجامة هي فعل الحاجم وحرفته. قال الأزهري: «يقال للحاجم .. حجّام لامتصاصه الدم من فم المِحْجَم» ، والمِحْجَم: هو الآلة التي يجمع فيها الدم -أي
القارورة-، وهي مشرط الحجّام أيضا (1).
تاريخ الحجامة:
عُرِفت الحجامة منذ وقت مبكر في التاريخ البشري، فقد حكت لنا الآثار التاريخية أنّ الصينين عرفوا الحجامة قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، كما عرفها الفراعنة، والهنود القدماء، والإغريق، والرومان، وكانت معروفة عند العرب قبل الإسلام، وبرعوا فيها، ومن أشهرهم النضر بن الحارث بن كلدة (المتوفى سنة 13 هـ) أشهر أطباء العرب من بني ثقيف، فقد سأله كسرى عن الحجامة فقال «في نقص الهلال، في يوم صحو لا غيم فيه، والنفس طيبة ، والعروق ساكنة، لسرور يفاجئك وهَمٌّ يباعدك» (2).
موقف الإسلام من الحجامة:
أقر الإسلام الحجامة وحث عليها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) انظر: ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، مرجع سابق ج 2، ص 141، والرازي، محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر، مختار الصحاح، تحقيق: محمود خاطر، مرجع سابق، ج 1، ص 53، وأحمد الزيات، وآخرون، المعجم الوسيط، مرجع سابق، ج 1، ص 158. والموسوعة الفقهية الكويتية، مرجع سابق، ج 2، ص 68.
(2)
انظر: محسن سليمان النادي، أخصائي علاج طبيعي وطب بديل، مقال الحجامة مفتاح العلاج في الطب البديل، على شبكة الإنترنت:
http://www.khayma.com/cupping/ktabmoftah.htm تاريخ التصفح:15/ 9/2010 م. والفيتوري، عبد القادر، الطب البديل الحجامة، (دار ناشري للنشر الالكتروني، ابريل 2004 م).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: احْتَجَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ ضَرِيبَتَهُ، وَقَالَ:«أَمْثَلُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، أو هو أمثل دوائكم» (2).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كان في شيء من أدويتكم خيرٌ ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة نار، وما أحب أن أكتوي» (3).
الحجامة في العصر الحديث:
منذ بداية تدوين كتب الطب الحديثة لم تكن تصدر مجلة أو كتاب طبي إلا وذكرت فيه الحجامة وفصلت فيه فوائدها وطرق إجرائها، حيث كانت تستخدم لعلاج كثير من الأمراض منها ضغط الدم، والتهاب عضلة القلب، وتخفيف آلام الذبحة الصدرية.
وفي النصف الأخير من القرن العشرين ظهرت أبحاث ودراسات موثقة ارتقت إلى درجة العالمية، ومن أبرزها مؤلفات البروفوسور الألماني يوهان آبله،
(1) رواه البخاري، كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث، رقم:5356.
(2)
رواه البخاري، كتاب الطب، باب الحجامة من الداء، رقم:5371.
(3)
رواه البخاري، كتاب الطب، باب الحجم من الشقيقة والصداع، رقم:5375.
ومنها كتابه القيم (الحجامة أسلوب علاجي مجرب) وأيضا دراسته القيمة (الفصد والحجامة) ، التي كانت خلاصة لأكثر من عشرين سنة من البحث والتنقيب في الحجامة ونتائجها، وبهذا أزيل الجهل عن الحجامة وعادت هذه الطريقة للظهور من جديد ،وتطورت أدواتها من حيث التشخيص والعلاج، وأصبح التعقيم واستخدام الكؤوس يتم تحت إجراءات طبية ووقائية صارمة (1).
كيفية إجراء هذا النوع من الحجامة:
1.
تعقم المنطقة المراد حجامتها جيداً.
2.
يوضع كأس الحجامة على الجلد ويفرغ من الهواء بالمقدار المطلوب (بوساطة الماصة)، ويترك من 3 - 5 دقائق حتى يحدث الاحتقان (يمكن أن تُكرر هذه العملية أكثر من مرة إذا كان الجلد قاسياً أو لم يحدث احتقان من المرة الأولى.
3.
ينزع الكأس ويعقم مكان الحجامة مرة أخرى.
4.
يشرط الموضع، بواسطة إبرة خاصة أو مشرط صغير خاص، على أن لا يزيد ذلك عن الحد المسموح به وهو خمسة خطوط طولية، في كل خط من 6 - 7 وخزات أو 2 - 3 شرطات طول كل منها 3 ملم، ويقلّ ذلك أو يكثر بحسب حالة المريض والمنطقة المراد حجامتها.
5.
(1) انظر: محسن سليمان النادي، أخصائي علاج طبيعي وطب بديل، مقال الحجامة مفتاح العلاج في الطب البديل، مرجع سابق على شبكة الإنترنت.
يعاد الكأس مرة أخرى ويفرغ من الهواء مره أخرى، فينسحب الجلد ويخرج الدم إلى الكأس.
6.
يترك الكأس لمدة 5 - 7 دقائق على أن لا تزيد هذه المدة خوفا من ظهور فقاعات مائية كما في الحروق.
7.
ينزع الكأس ويمسح الدم منه بوساطة شاش معقم.
8.
يدهن قليل من الزيت المعقّم على المكان المحجوم (1).
3:52 صورة تبين عملية الحجامة
ثانياً: حكم الحجامة أثناء الصوم:
بدأ الخلاف في مسألة الحجامة مبكراً، هل هي مفسدة للصوم، أم غير مفسدة؟ فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في الحجامة:
(1) انظر: أبو الفداء، محمد عزت عارف، أسرار العلاج بالحجامة والفصد، (القاهرة: دار الفضيلة، د. ط، د. ت) ص 63.
فمنهم من قال أنها غير مُفَطِّرة، وهو قول: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأم سلمة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وهو قول أكثر الصحابة، ومنهم من قال أنّها مُفَطِّرة، وهو قول: علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وعائشة (1).
وعلى اختلاف الصحابة اختلفت المذاهب على قولين، الجمهور (الحنفية، والمالكية، والشافعية) أنها لا تُفَطِّر، وذهب الحنابلة وبعض الشافعية إلى أنها تُفَطِّر (2).
وسوف نستعرض أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها، حيث أنّ هذه المسألة مما لازال الجدل فيها مستمراً، فلزم البسط لينجلي لنا حكم المسألة التي ينبني على القول فيها حكم عدد من المُفَطِّرات الطبية المعاصرة.
القول الأول (الحجامة غير مُفَطِّرة):
ذهب أصحاب هذا القول إلى أن الحجامة لا تُفَطِّر، وهم الجمهور (الحنفية، والمالكية، والشافعية) إلا أن المالكية والشافعية يرون كراهتها للصائم (3). وهذه أقوالهم تبين ذلك:
•
(1) النووي، يحيى بن شرف الدين، المجموع شرح المهذب، مرجع سابق، ج 6، ص 364.
(2)
المرجع السابق، ج 6، ص 391.
(3)
انظر: السرخسي، محمد بن أحمد بن سهل، المبسوط، مرجع سابق، ج 3، ص 57، انظر: سحنون، عبد السلام بن سعيد، المدونة الكبرى، مرجع سابق، ج 1، ص 198، الشربيني، محمد بن أحمد الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، مرجع سابق، ج 1، ص 431.
الحنفية:
قال السرخسي: «وإن احتجم الصائم لم يضره إلا على قول أصحاب الحديث» (1).
• المالكية:
قال سحنون في المدونة: «وقال مالك: إنما كُرهت الحجامة للصائم لموضع التغرير، ولو احتجم رجل مسلم لم يكن عليه شيء» (2).
• الشافعية:
قال الشافعي: «ولو ترك رجل الحجامة صائماًً للتوقي كان أحب إليَّ، ولو احتجم لم أره يُفَطِّره» (3).
وقال النووي: «أما حكم المسألة: فقال الشافعي والأصحاب: تجوز للصائم - أي الحجامة - ولا تُفَطِّره، ولكن الأولى تركها، هذا هو المنصوص، وبه قطع الجمهور» (4).
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على قولهم بعدة أدلة:
1.
(1) السرخسي، محمدبن احمد بن سهل، المبسوط، مرجع سابق، ج 3، ص 57
(2)
سحنون، عبد السلام بن سعيد، المدونة الكبرى، مرجع سابق، ج 1، ص 198.
(3)
الشافعي، محمد بن إدريس أبو عبد الله، الأم، مرجع سابق، ج 2، ص 97.
(4)
النووي، يحيى بن شرف الدين، المجموع شرح المهذب، مرجع سابق، ج 6، ص 364.
حديث ابن عباس ب: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» (1).
2.
حديث ثابت البناني أنه قال لأنس بن مالك رضي الله عنه: «أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ» (2).
3.
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالقُبْلَةِ للصَّائِم وَالحِجَامَة» (3).
4.
حديث أنس رضي الله عنه: «أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ: أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ: «أَفْطَرَ هَذَانِ» ، ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ» ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ (4).
ووجه استدلالهم بهذا الحديث أنّ قوله: «رَخّص» ترفع المنع وتنسخه.
5.
(1) رواه البخاري، كتاب الصيام، باب الحجامة والقيء للصائم، رقم:1337.
(2)
رواه البخاري، كتاب الصيام، باب الحجامة والقيء للصائم، رقم:1338.
(3)
رواه الدارقطني، كتاب الصيام، باب القبلة للصائم، رقم:15. ورجح الزيلعي وقفه على أبي سعيد، انظر: الزيلعي، عبدالله بن يوسف، نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق، ج 2، ص 453.
(4)
رواه الدارقطني، كتاب الصيام، باب القبلة للصائم، رقم: 7، وهو حديث ضعيف، وفي متنه وسند نكارة. انظر: الزيلعي، عبد الله بن يوسف، نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق ج 2، ص 453، ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، مرجع سابق، ج 4، ص 178.
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الحِجَامَةُ، وَالقَيْءُ، وَالاِحْتِلَامُ» (1).
6.
القياس على الجراحة حيث لاتفسد الصوم، فكذلك الحجامة لأنها جراحة فلم يجب بها الفطر للصائم كالفصاد.
المناقشة:
اعتراضات القائلين بالتفطير على أدلة الجمهور:
رد القائلون بالتفطير بالحجامة على أدلة الجمهور بالآتي:
1 -
قالوا حديث: «احتجم وهو صائم» منسوخ بحديث شداد رضي الله عنه: «أفطر الحاجم والمحجوم» (2) لتأخره عنه، ويدل لذلك: أن ابن عباس وهو راوي حديث «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم» كان يُعِد الحجَّامَ والمحاجِم، فإذا غابت الشمس احتجم بالليل. وهذا يدل على أنه عَلِم نسخ الحديث الذي رواه (3).
وأجاب الجمهور: بأنّ ابن عباس صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في السنة العاشرة، وحديث شداد:«أفطر الحاجم والمحجوم» سنة ثمان، فدل على أنَّ
(1) رواه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء، رقم:1978. قال الترمذي بعد روايته للحديث: حديث ابي سعيد غير محفوظ. وقال ابن الجوزي: «أجمعوا على تضعيفه» ، انظر: عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، تحقيق: خليل الميس، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1403 هـ) ج 2، ص 542.
(2)
سيأتي ذكر الحديث وتخريجه عند أدلة الحنابلة.
(3)
انظر: ابن قدامة، عبد الله بن أحمد المقدسي، المغني في فقه الإمام أحمد، مرجع سابق، ج 3، ص 15.
الناسخ هو حديث ابن عباس.
وأما أثر ابن عباس أنَّه كان يؤخر الحجامة فلا يثبت في شيء من كتب السنة؛ بل الثابت عن ابن عباس خلافه، فهو الذي روى:«الفطر مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ» وهذا نص منه على أن الحجامة لا تُفَطِّر؛ لأنها مما خرج، وهذا توافق بين روايته وقوله.
2 -
استدلالكم بحديث «ثلاث لا يُفَطِّرن» لا يستقيم؛ لأنّه حديث ضعيف جداً، فلا يصح الاستدلال به (1).
3 -
استدلالكم بالقياس على الجراحة والفصد، ليس مطابقاً؛ بل الأقرب قياسه على ما يخرج من البدن مما يضعف البدن كالقيء والحيض أولى من قياسه على الجراحة ونحوها (2).
القول الثاني (الحجامة مُفَطِّرة):
وهو مذهب الحنابلة (3)، وقول بعض أئمة الشافعية: منهم أبو بكر بن المنذر، وأبو بكر بن خزيمة، وأبو الوليد النيسابوري، والحاكم أبو عبدالله (4).
(1) سبق بيان ضعفه عند تخريجه في أدلة المجيزين للحجامة، الصفحة السابقة (حاشية).
(2)
انظر: ابن القيم، محمد بن أبي بكر الزرعي، حاشية ابن القيم على سنن أبي داود، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1415 هـ ـ 1995 م) ج 6، ص 356.
(3)
انظر: ابن قدامة، عبد الله بن أحمد، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل، مرجع سابق، ج 3، ص 15.
(4)
انظر: النووي، يحيى بن شرف الدين، المجموع شرح المهذب، مرجع سابق، ج 6، ص 364.
أقوالهم:
قال ابن مفلح: «وإن حَجَم أو احتجم أفطر، نص عليه، لقوله عليه الصلاة السلام: «أفطر الحاجم والمحجوم» » (1).
وقال المرداوي: «أو حَجَم أو احتجم فسد صومه، هذا المذهب فيهما، وعليه جماهير الأصحاب، ونص عليه، وهو من المفردات، ولا نعلم أحداً من الأصحاب فرق في الفطر وعدمه بين الحاجم والمحجوم» (2).
• بعض الشافعية:
أدلتهم:
استدل الحنابلة، ومن قال بقولهم بعدة أدلة منها:
1 -
حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» (4).
(1) ابن مفلح، محمد المقدسي، الفروع وتصحيح الفروع، مرجع سابق، ج 3، ص 48.
(2)
المرداوي، علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، مرجع سابق، ج 3، ص 302.
(3)
النووي، يحيى بن شرف الدين، المجموع شرح المهذب، مرجع سابق، ج 6، ص 364.
(4)
رواه أبوداود، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم، رقم: 2367، والترمذي، كتاب الصوم، باب كراية الحجامة للصائم، رقم 1680. قال النووي:«إسناد أبي داود على شرط مسلم» وقد اختلف في تصحيحه وتضعيفه الأئمة المتقدمون، وقد صححه الإمام أحمد وابن المديني والدارمي. انظر: الزيلعي، عبد الله بن يوسف، نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق ج 2، ص 472، وابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني، التلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، مرجع سابق، ج 2، ص 201.
2 -
حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ:«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» (1).
المناقشة:
اعتراضات القائلين بعدم التفطير على أدلة القائلين بالتفطير:
ردَّ الجمهور على أدلة القائلين بالتفطير بالآتي:
1.
قالوا إنّ أحاديث التفطير بالحجامة منسوخة، فقد قال الشافعي:«فإن كانا ثابتين فحديث ابن عباس ناسخ، وحديث «أفطر الحاجم والمحجوم» منسوخ» (2).
2.
حديث: «أفطر الحاجم» فيه ضعف فقد روي من طرق كثيرة وبأسانيد
(1) رواه أبوداود، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم، رقم:2369. والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصيام، باب الصائم يحتجم لا يبطل صومه، رقم: 8071. وصححه ابن المديني والبخاري، وقال النووي:«إسناد أبي داود على شرط مسلم» . انظر: ابن حجر، أحمد بن علي أبو الفضل العسقلاني، التلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، مرجع سابق، ج 2، ص 201، والنووي، يحيى بن شرف الدين، المجموع شرح المهذب، مرجع سابق، ج 6، ص 350.
(2)
انظر: الشافعي، محمد بن إدريس أبو عبد الله، الأم، مرجع سابق، ج 8، ص 641.
مختلفة كثيرة الاضطراب، وهي إلى الضعف أقرب منه إلى الصحة، مع عدم سلامته من معارض أصح منه أو ناسخ له، والإمام أحمد الذي يذهب إليه ويقول به لم يلتزم صحته، والذي نُقل عنه أنه قال:«أحاديث «أفطر الحاجم والمحجوم» يشد بعضها بعضاً وأنا أذهب إليها» فلو كان عنده منها شيء صحيح لوقف عنده، وقوله:«أصح ما في هذا الباب حديث رافع» لا يقتضي صحته بل معناه أنه أقل ضعفا من غيره (1).
3.
أننا لو سلمنا بتعارض الأدلة في باب الحجامة ولم يترجح ناسخ ومنسوخ، لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى؛ لتأيدها بالقياس وشواهد أصول الشريعة لها، إذ الفطر إنما قياسه أن يكون بما يدخل الجوف لا بالخارج منه كالفصاد والتشريط، ونحوه (2).
أجاب القائلون بالتفطير على ما أورده الجمهور
1.
قولكم إنّ أحاديث التفطير ضعيفة باطل، فإن الأئمة العارفين بهذا الشأن قد تظاهرت أقوالهم بتصحيح بعضها، والباقي إما حسن يصلح للاحتجاج به وحده، وإما ضعيف يصلح للشواهد والمتابعات وليس
(1) الزيلعي، عبدالله بن يوسف، نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، مرجع سابق، ج 2، ص 481.
(2)
انظر: ابن تيمية، أحمد عبد الحليم الحراني، مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج 25، ص 252 - 255.
العمدة عليه (1).
2.
قولكم إنها منسوخة بحديث ابن عباس فغير مُسلَّم، ولا سبيل إلى إثباته؛ بل الثابت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، وأما قوله:«وهو صائم» فإنّ الإمام أحمد قال: لا تصح هذه اللفظة، وبيَّن أنها وهم، ووافقه غيره على ذلك. وقالوا الصواب:«احتجم وهو محرم» ، وقد رُوِي هذا الحديث على أربعة أوجه، أحدها: احتجم وهو محرم فقط، وهذا في الصحيحين (2).
3.
قولكم: إذا تعارضت الأدلة فإن الأخذ بالرخصة هو الموافق لأصول الشريعة فغير مُسَلَّم على إطلاقه؛ لأنّ أحاديث الفطر بالحجامة ناقلة عن الأصل، وما كان ناقل عن الأصل يقدم على ما بقي على الأصل (3).
الترجيح:
بعد هذا العرض المفصَّل لأدلة الفريقين، والاعتراضات والردود عليها، فإن الباحث يرجح أنَّ الحجامة غير مُفَطِّرة، وعلى أكثر الأحوال تكون مكروهة، وأسباب اختيار هذا القول هو الآتي:
1.
أحاديث القائلين بالتفطير لم تخلو من نقد من أئمة الحديث بما فيها عمدتهم
(1) انظر: ابن القيم، محمد بن أبي بكر الزرعي، حاشية ابن القيم على سنن أبي داود، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1415 هـ ـ 1995 م) ج 6، ص 359.
(2)
المرجع السابق، ج 6، ص 360.
(3)
انظر: ابن القيم، محمد بن أبي بكر، حاشية ابن القيم على سنن أبي داود، مرجع سابق، ج 6، ص 356.
في الاستدلال حديث: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» (1).
2.
أحاديث القائلين بعدم التفطير أقوى من حيث الثبوت الحديثي، فهي في الصحيحين، وأحاديث الفريق الآخر لا تقوى على المعارضة من حيث الصحة، وهذا أحد المرجحات عند التعارض.
3.
الروايات التي فيها لفظة «رَخَّص» تدل على رفع الحظر، إذ الرخصة لا تكون إلا بعد حظر.
4.
أنه على افتراض تكافؤ أدلة الفريقين، وليس ثمة مرجح، فالقول بالبراءة الأصلية هو الموافق للشريعة ومقاصدها، ولا يمكن إفساد عبادة إلا بنص صريح، أو تعليل صحيح.
5.
القول بالكراهة لا لكونها مُفَطِّرة ولكن لتفادي الضعف الشديد للصائم، وقد نص عليه حديث ثابت البناني أنَّه قال لأنس بن مالك رضي الله عنه:«أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. إلا من أجل الضعف» (2).
وهذا مقصد حرص عليه الشارع؛ ولذا حث على أكلة السَحَر للصائم، وحث على تأخيرها.
(1) سبق تخريجه، انظر: ص (411).
(2)
سبق تخريجه، انظر: ص (408).
حكم الغسيل الكلوي الدموي: في ضوء التكييف الفقهي على الحجامة:
بعد أن تبين لنا موقف الأئمة من الحجامة أثناء الصوم، فإنّ حكمه عندهم تخريجاً على حكم الحجامة بعد تكييفها فقهياً عليها لكونه يماثلها في الصورة، فإنّ حكم الغسيل الكلوي في نهار رمضان غير مفسد للصوم على رأي جمهور الفقهاء (الحنفية، والمالكية، وجمهور الشافعية)، ومفسد للصوم على قول الحنابلة ومن وافقهم من الشافعية.
ثانياً: التخريج على الشق الثاني من التكييف الفقهي (مسألة حقن الدم):
التخريج الفقهي فيها ما قلناه في مسألة حقن الدم في الحقن الوريدية، فأوجزت القول فيها دفعا للإطالة والتكرار (1).
وخلاصة القول أن حقن الدم في الغسيل الكلوي الدموي أبلغ في الحكم من مسألة حقن الدم السابق ذكرها، حيث يضاف – كما تبين في الجانب الطبي - بعض المعادن والسكريات إلى الدم، ومن ثم يتم ضخ الدم إلى الجسم مرة أخرى.
والراجح فيها أنّ ما يدخل إلى الجسم من دم بعد التصفية وإضافة المواد الأخرى مُفَطِّر ومفسد للصوم، للأسباب الآتية:
1.
كل ما يتغذى به الجسم، ويستغني به عن الطعام والشراب يقع تحت دائرة المُفَطِّرات حيث ليس ثَمّة فرق بين الأكل والشرب، وما يتغذى به البدن لتحقق المعنى في كل منهما.
2.
(1) انظر مسألة حقن الدم في الفصل الثالث، المبحث الثاني، المطلب الثاني.
القول بأنّها لا تُفَطِّر لعدم دخولها إلى الجوف، يجاب عليه بأن الجوف مصطلح حادث لم يعلق الشارع الحكيم فساد الصوم عليه، وإنما العبرة بالأكل والشرب، وما كان في معناهما يأخذ حكمهما، بغض النظر عن وصوله الجوف أو عدم وصوله.
3.
الطب الحديث قرر أنّ حقن الدم أبلغ من حقن المحاليل، فإذا تقرر لدينا أنّ المحاليل المغذية (1) تفطر فحقن الدم من باب أولى.
أقوال الفقهاء المعاصرين وأدلتهم في حكم الغسيل الكلوي الدموي للصائم:
اختلف الفقهاء المعاصرون في الغسيل الكلوي الدموي وأثره على الصوم، فذهبت طائفة منهم إلى أنّه غير مفسد للصوم، وعززوا قولهم بأدلة وتعليلات، وذهبت طائفة أخرى بأنّه مفسد للصوم وعززوا قولهم بأدلة وتعليلات.
القول الأول: الغسيل الكلوي الدموي مفسد للصوم:
ذهب إلى هذا القول الشيخ عبد العزيز بن باز (2). واللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية (3)، والشيخ وهبة الزحيلي (4).
(1) انظر: الترجيح في حكم الحقن الوريدية المغذية ص (286).
(2)
ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، مرجع سابق، ج 15، 257 - 264.
(3)
مجموعة من العلماء، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، مرجع سابق، ج 10، ص 179 - 183.
(4)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي، مرجع سابق، العدد العاشر، ج 2، ص 378.
أدلة القائلين بالتفطير (المعاصرين):
1.
أن غسيل الكلى يزوِّد الجسم بالدم النقي.
2.
أنه يتم إضافة بعض المواد الكيمائية والغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم (1).
3.
قياس الغسيل الكلوي على الحجامة (2) قياس جلي، وبما أن الحجامة مفسدة للصوم فالغسيل كذلك (3).
القول الثاني: الغسيل الكلوي الدموي غير مفسد للصوم:
ذهب إلى هذا القول الشيخ يوسف القرضاوي (4)، والشيخ هيثم خياط (5)، والشيخ محمود عويضة (6).
(1) انظر: ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، مرجع سابق، ج 15، ص 275.
(2)
القائلون بذلك ممن يرون فساد الصوم بالحجامة.
(3)
انظر: العفاني، سيد بن حسين، نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان، مرجع سابق، ج 3، ص 120.
(4)
انظر: فتوى الشيخ القرضاوي على موقع اسلام أون لاين،
http://admin.islamonline.net/Arabic/news/2000 - 12/10/article 17.shtml تاريخ التصفح، 17/ 9/2010 م
(5)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي، مرجع سابق، العدد العاشر، ج 2، ص 290.
(6)
انظر: عويضة، أبو إياس محمود بن عبد اللطيف، الجامع لأحكام الصيام، مرجع سابق، ص 269.
أدلة القائلين بعدم التفطير:
1.
القياس على الحجامة؛ لأنّ خروج الدم في الغسيل الكلوي كخروجه في الحِجامة، فإذا كانت الحجامة لا تُفَطِّر، فالغسيل الكلوي لا يُفَطِّر (1)، فما ينطبق على الحجامة ينطبق على هذه العملية تماماً (2).
2.
أنّ المواد المضافة إلى الدم في عملية غسيل الكلى لا يقصد بها التغذية – من حيث الأصل- لبدن المريض المُعَالج، حتى ولو كان بهذه المواد ما يمكن وصفه بالتغذية؛ بل تحوَّلت إلى كونها مواد علاجية دوائية؛ لإعادة التوازن إلى مكوِّنات الدم في بدن المريض، فالأصلُ المقصودُ بها العلاجُ والدواء (3).
3.
أنَّ الدم الداخل لا يصل إلى الجوف وإنما يدخل من خلال الشرايين.
الترجيح:
والذي يترجح للباحث بعد هذا العرض المفصل طبياً وفقهياً أنَّ الغسيل الكلوي الدموي مُفَطِّر وذلك للأسباب الآتية:
1.
الدم العائد إلى البدن يعود محملاً بالسكريات والأملاح.
2.
(1) وهذا رأي من يرى ن الحجامة لا تفسد الصوم سائراً على قول الجمهور.
(2)
انظر: عويضة، أبو إياس محمود بن عبد اللطيف، الجامع لأحكام الصيام، مرجع سابق، ص 269.
(3)
انظر: العثيمين، محمد بن صالح، مجموع وفتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين، مرجع سابق، ج 19، ص 113 - 114.
أنّه يتم تزويد البدن بالدم النقي وقد سبق الراجح في حكم حقن البدن بالدم، وأنّه من المُفَطِّرات.
3.
كل ما يتغذى به الجسم، ويستغني به عن الطعام والشراب يقع تحت دائرة المُفَطِّرات حيث لا فارق بين الأكل والشرب، وما يتغذى به البدن لتحقق المعنى في كل منهما.
4.
القول بأنّ هذه المواد لا تُفَطِّر لأنها لم تدخل إلى الجوف، يجاب عليه بأن الجوف مصطلح حادث لم يعلق الشارع الحكيم فساد الصوم عليه، وإنما العبرة بالأكل والشرب، وما كان في معناهما يأخذ حكمهما، بغض النظر عن وصوله الجوف أو عدم وصوله.
5.
الطب الحديث قرر أن حقن الدم أبلغ من حقن المحاليل (1)، فإذا تقرر أنَّ المحاليل المغذية تُفَطِّر فحقن الدم من باب أولى.
6.
أنّ الدم المحقون في البدن لا يقال أنّه نفس الدم الذي تم استخراجه؛ لأنّه بمجرد خروجه أصبح له حكم المنفصل، نظيره مسألة خروج القي واسترجاعه عمداً.
OOOOO
(1) ذكر لي ذلك الدكتور محمد علي البار كبير خبراء المجامع الفقهية في الجانب الطبي في حواري معه في عيادته الخاصة بمدينة جدة، في تاريخ 27 - جمادى الثاني-1431 هـ الموافق 9/ 6/2010 م.