الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
ضابط المُفَطِّرات
بعد استعراض موقف الفقهاء والأطباء من الجوف، ومناقشة الأقوال في تحديد مناط المُفَطِّرات، فإن الضابط الذي توصل إليه الباحث، وتدل عليه النصوص، وتطمئن إليه النفس بعد دراسة وتمحيص في المُفَطِّرات الداخلة للجسم هو:
كل ما دخل إلى المعدة عن طريق الحلق من أكل أو شرب سواء تغذى به البدن أو لم يتغذى، وكل ما دخل من منفذ آخر وتغذى به البدن.
أو هو: كل ما دخل إلى المعدة عن طريق الحلق من أكل أو شرب سواء انتفع به الإنسان أم لم ينتفع، أو كان داخلاً من أي منفذٍ ويقوم مقام الأكل والشرب.
أو هو: الأكل والشرب عن طريق الحلق، وما كان في معناهما حقيقة أو صورة (1).
أدلة الترجيح:
توصل الباحث إلى هذا الاختيار بناءً على دراسة متأنية لأقوال الفقهاء في المذاهب الفقهية المعتبرة، وسبر تلك الأقوال في ضوء الأدلة الشرعية والتطورات الطبية في مجال التشريح، وليس اختياره بدعاً من القول؛ بل ذهب إليه أو قريباً منه
(1) كل هذه التعاريفات لها مؤدى واحد، وإنما نوعتها إثراءً للعبارة، وتسهيلا للتداول.
أئمة أعلام من المتقدمين والمتأخرين، وهذا استعراض لمرجحات الاختيار:
أولاً: الفقهاء المتقدمون متفقون على أن المعدة هي أصل الجوف، وذكروا أجوافاً أخرى هي محل خلاف بين المذاهب؛ بل بين المذهب الواحد، فيكون محل الاتفاق مؤثراً لأنه معتمد على نص تحريم الأكل والشرب، ولذا يمكن اعتبار المحل المجمع عليه والمسْتنِد إلى نص هو ضابط رئيس في المُفَطِّرات بجعله مناطاً لفساد الصوم، ويُلغى ما كان محلاً للخلاف بسبب عدم ورود نص فيه، أو علة صريحة تجعله مناطاً لفساد الصوم، لئلا نبطل بذلك عبادة عينية مُطالب بها العام والخاص، وهذا ما صرح به النووي وابن قدامة.
قال الإمام النووي: «أجمعت الأمة على تحريم الطعام والشراب على الصائم، وهو مقصود الصوم، ودليله الآية الكريمة والإجماع» (1).
وقال ابن قدامة: «أجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب لما يتغذى به،
(1) النووي، يحيى بن شرف الدين، المجموع شرح المهذب، مرجع سابق، ج 6، 321.
فأما ما لا يتغذى به، فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به» (1).
ثانياً: إنّ إدراك مفسدات الصوم في ضوء توسع الفقهاء في الجوف مما زاد على المنصوص، ولا يستند إلى دليل أو تعليل قوي، مما يتعذر فهمه على كثير من المكلفين، فلا يمكن إفساد عبادة عينية تلزم كل المكلفين، العالِم منهم والجاهل، والذكر والأنثى، وصاحب الحاضرة وصاحب البادية بأمر خَفِيٍّ كهذا، وهذا مما لا تأتي به الشريعة، وقد جرت عادة التكليف في الشريعة في الفروض العينية سهولة فهمها لكل المكلفين، وتفريعات الفقهاء زيادة على مقصود الشارع، وما كان زائداً عن مقصود الشارع فالراجح إلغاؤه (2).
ثالثاً: اعتبار غير المغذي (مما يدخل في عموم لفظ الأكل والشرب) في ضابط المُفَطِّرات إذا دخل المعدة عن طريق الحلق للأسباب التالية:
1.
دخوله تحت عموم الأكل والشرب، فمن تناول ما لا يغذي عن طريق الفم فإنه ينطبق عليه أنّه أكَلَ أو شَرِب، فيدخل تحت دائرة الحظر.
2.
اتفاق الفقهاء على أنّ تناول غير المغذي مفسد للصوم، وهو أشبه بالإجماع فكان محل اعتبار في ضابط المُفَطِّرات.
قال ابن قدامة «أجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب لما يتغذى به، فأما ما لا يتغذى به-أي من الأكل والشرب-، فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل
(1) ابن قدامة، عبد الله بن أحمد المقدسي، المغني في فقه الإمام أحمد، مرجع سابق، ج 3، ص 14.
(2)
انظر: الشاطبي، إبراهيم بن موسى، الموافقات في أصول الفقه، مرجع سابق، ج 1، ص 197.
به» (1).
3.
مقصود الشارع متحقق بالامتناع عن تناول غير المغذي لما يحصل به من الإشباع وامتلاء المعدة، وإذا حصل هذا الامتلاء لم يحصل مقصود الصوم وحكمته. وقد أثبت ذلك الطب المعاصر حيث يتم علاج السمنة المستعصية بعملية بالون المعدة من أجل تخفيف الوزن، فيشعر الشخص معه بقدر من الشبع والامتلاء مع كونه غير مغذي (2).
وقد فطن بعض الفقهاء المتقدمون لهذا المعنى.
يقول الدسوقي: «الحصاة تشغل المعدة اشتغالاً ما، وتنقص كَلَب الجوع (أي شدته ووطأته)» (3).
(1) ابن قدامة، عبد الله بن أحمد المقدسي، المغني في فقه الإمام أحمد، مرجع سابق، ج 3، ص 14.
(2)
يقول الدكتور عبد الحميد المؤمن، استشاري أول جراحة السمنة والمناظير في مستشفى سعد التخصصي، وأستاذ الجراحة المساعد في كلية الطب بجامعة الملك فيصل:«بالون المعدة مصنوع من مادة السيلكون المطاطية المرنة الناعمة، ويتم إدخاله وهو بأصغر حجم ممكن، ليستطيع الطبيب تمريره عبر الفم، وبمجرد إدخال البالون إلى المعدة، يملأ البالون بمحلول الملح المعقم، من خلال أنبوب ملي صغير يتم ربطه بالبالون، وعند امتلاء البالون يزيل الطبيب القسطرة بسحبها من الطرف الخارجي، فيصبح حجم البالون كبيراً بشكل لا يسمح له بالمرور في الأمعاء والعوم في المعدة بشكل تلقائي. عندها يشعر الشخص بقدر من الشبع والامتلاء» . (بتصرف يسير) انظر: موقع الدكتور على شبكة الإنترنت. www.dralmomen.com/default.aspx?PageID=1
(3)
الدسوقي، محمد عرفه، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، مرجع سابق، ج 1، ص 524.
2:6 صورة تبين بالون المعدة
رابعا: إدراج المغذي الداخل من غير منفذ الحلق في ضابط المُفَطِّرات للأسباب الآتية:
1.
أنّ أبرز الحِكَم الشرعية في منع الأكل والشرب للصائم لما فيهما من الغذاء، فإذا وجد الغذاء بغير هذه الطريقة فقد تحقق المقصود بهما، واختلاف طريق حصول الغذاء لا أثر له، ولهذا ثبت الحكم لعدم الفارق، وفارق طريق الحصول لا يؤثر في الحكم؛ لأنّ الشريعة مبنية على المعاني فما تحقق فيه المعنى أخذ حكم نظيره.
2.
كل ما يتغذى به الجسم يقع تحت دائرة المُفَطِّرات حيث لا فارق بين الأكل والشرب، وما يتغذى به البدن لتحقق المعنى في كل منهما.
وهذا المعنى متقرر عند الأصوليين، يقول الإمام الجويني: «ما علم قطعاً التحاقه بالمنصوص عليه، فلا حاجة فيه إلى استنباط معنى من مورد النص، وبيان وجود ذلك المعنى في المسكوت عنه؛ بل العقل يسبق إلى القضاء بالإلحاق، ويقدره
بالمنصوص عليه» (1).
والضابط الذي توصل إليه الباحث يتوافق مع ما قرره بعض الأئمة الأفذاذ من المتقدمين والمتأخرين، فهذا الكاساني رحمه الله يقول: «وأما ركنه - أي الصوم- فالإمساك عن الأكل والشرب والجماع
…
فلا يوجد الصوم بدونه، وعلى هذا الأصل؛ ينبني بيان ما يُفسد الصوم وينقضه؛ لأنَّ انتقاض الشيء عند فوات ركنه أمرٌ ضروري، وذلك بالأكل والشرب والجماع. سواء كان صورة ومعنى (تناول المغذي)، أو صورة لا معنى (تناول غير المغذي)، أو معنى لا صورة (تناول المغذي من غير مدخله المعتاد)» (2).
ويقول الشيخ القرضاوي: «ولم يجيء فيهما- الكتاب والسنة-منع الصائم من شيء إلا من الأكل والشرب والجماع» (3).
وجاء قرار مجمع الفقه الإسلامي في ضابط المُفَطِّرات بما يلي: «المُفَطِّرات في كتاب الله عز وجل، وفي السنة الصحيحة ثلاثة هي: الأكل والشرب والجماع، فكل ما جاوز الحلق وكان ينطبق عليه اسم الأكل أو الشرب، كمًّا وكيفًا، يُعد مُفَطِّراً» (4).
(1) الجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: د. عبد العظيم محمود الديب (المنصورة، مصر: دار الوفاء، الطبعة: الرابعة 1418 هـ) ج 2، ص 516.
(2)
الكاساني، علاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، مرجع سابق، ج 2، ص 90. وما بين القوسين بيان من الباحث.
(3)
القرضاوي، يوسف، فقه الصيام، مرجع سابق، ص 72.
(4)
انظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد العاشر، ج 2، ص 464.