الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: مذهب المضيقين في المُفَطِّرات:
وهم الذين يقولون إنّ الصوم إنما يفسد بالأكل والشرب خاصة، أو بما كان بمعناهما.
في مقابل اتجاه التوسع في المُفَطِّرات سلك آخرون مسلك التضييق مكتفين بما دلت عليه معاقد الإجماع في هذا الباب أو قريباً منه، ومن أبرز من سلك مسلك التضييق في باب المُفَطِّرات:
الإمام البخاري (1)، وابن حزم الظاهري (2)، وابن تيمية (3).
أما الإمام البخاري فقد ظهر اتجاهه في باب المُفَطِّرات جلياً من خلال ترجمته لأبواب الصحيح، حيث روى آثاراً في تراجم أبواب الصيام تبين اختياره الفقهي كما هي عادته:(4).
من ذلك ما ذكره في باب اغتسال الصائم: أنّ ابن عباس ب قال: «لا بأس أن يتطعم القِدْر أو الشيء» ،
…
وقال الحسن: «لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم» ، .. وقال ابن سيرين: «لا بأس بالسواك الرطب. قيل: له طعم. قال:
(1) انظر: البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، ج 2، ص 681.
(2)
ابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد الظاهري، المحلى، مرجع سابق، ج 6، ص 214.
(3)
انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج 25، ص 233 - 236.
(4)
فقه الإمام البخاري واختياراته الفقهية تظهر من خلال تراجمه لأبواب الصحيح، قال ابن حجر العسقلاني:«قال جمع من الأئمة فقه البخاري في تراجمه» انظر: ابن حجر، أحمد بن علي أبو الفضل العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، مرجع سابق، ج 1، ص 243.
والماء له طعم وأنت تمضمض به» (1).
وترجم في أحد الأبواب بقوله: «باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء» ، ولم يميز بين الصائم وغيره،
…
وقال عطاء: «ولا يمضغ العلك فإن ازدرد ريق العلك لا أقول إنه يفطر» (2).
ومن أرباب مذهب التضييق ابن حزم الظاهري الذي ضيق باب المُفَطِّرات، وقصرها على المنصوص عليه، ومنع أي قياس عليه، وليس غريباً على مذهبه المانع للقياس حيث يقول رحمه الله: «ولا ينقض الصوم
…
حقنة، ولا سعوط ولا تقطير في أذن، أو في إحليل، أو في أنف، ولا استنشاق وإن بلغ الحلق، ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد، ولا كحل، أو إن بلغ إلى الحلق نهاراً، أو ليلاً بعقاقير أو بغيرها،
…
ولا سواك برطب أو يابس،
…
ولا مداواة جائفة أو مأمومة بما يؤكل أو يشرب أو بغير ذلك، ولا طعام وجد بين الأسنان أي وقت من النهار وُجِد» (3).
وقال: «إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القئ والمعاصي، وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر، أو إحليل، أو أذن، أو عين، أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس، وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله
…
» (4).
(1) البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله الجعفي، الجامع الصحيح، مرجع سابق، ج 2، ص 681.
(2)
المرجع السابق، ج 2، ص 683.
(3)
ابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد الظاهري، المحلى، مرجع سابق، ج 6، ص 203 - 204.
(4)
المرجع السابق، ج 6، ص 214.
ومن أرباب مسلك التضييق أيضاً: شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي لم يرفض القياس، وإنما ضيقه في باب الصيام، ورفض أن يُسلِّم بالعلة التي قاس عليها الفقهاء، وكانت سبباً للتوسع في باب المُفَطِّرات، حيث يقول: «وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم
…
، والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإنّ الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويَفْسُد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه، ولو ذُكِرَ ذلك لَعَلِمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً عُلِم أنَّه لم يذكر شيئاً من ذلك» (1).
وسلك مسلك التضييق جماعة من العلماء المعاصرين، كالشيخ محمود شلتوت (2)، والشيخ محمد العثيمين (3)، والشيخ يوسف القرضاوي (4)، وهو ما تبنته قرارات المجامع الفقهية المعاصرة (5).
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج 25، ص 233.
(2)
انظر: شلتوت، محمود، الفتاوى، مرجع سابق، ص 118.
(3)
العثيمين، محمد بن صالح، مجموع وفتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين، مرجع سابق، ص 204.
(4)
القرضاوي، يوسف، فقه الصيام، مرجع سابق، ص 56.
(5)
انظر قرارات مجلة مجمع الفقه الإسلامي المنعقد حول المُفَطِّرات، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، مرجع سابق، العدد العاشر، ج 2، ص 453،وص 364.
ويرى الشيخ العثيمين أنّ ما يُفَطِّر هو الأكل والشرب خاصة، وما كان في معناهما، ولم يرتضِ التوسع والتعليل بالوصول إلى الجوف حيث يقول:«نحن في غنى عن هذه التعليلات من الأصل إذا أخذنا بالقول الراجح، وهو أن المُفَطِّر هو الأكل والشرب، وما أدخل من طريق الإحليل فإنه لا يسمى أكلاً ولا شرباً» (2).
ويقول في فتواه على جواز استخدام التحاميل الشرجية للصائم: «لا بأس أن يستعمل الصائم التحاميل التي تُجْعل في الدبر إذا كان مريضاً؛ لأنّ هذا ليس أكلاً ولا شرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، والشارع إنما حَرَّم علينا الأكل أو الشرب؛ فما كان قائماً مقام الأكل والشرب أُعطِي حكم الأكل والشرب، وما ليس كذلك فإنه لا يدخل في الأكل والشرب لفظاً ولا معنى، فلا يثبت له حكم الأكل والشرب» (3).
(1) شلتوت، محمود، الفتاوى، مرجع سابق، ص 118.
(2)
العثيمين، محمد بن صالح، الممتع شرح زاد المستقنع، (الدمام: دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1424 هـ) ج 6، ص 358.
(3)
العثيمين، محمد بن صالح، مجموع وفتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين، مرجع سابق، ج 19، ص 204 - 205.
يقول الشيخ القرضاوي: «وهذه الثلاثة –الأكل والشرب والجماع- وما أُلحق بها بالإجماع من تدخين التبغ ومضغه ونشوقه هي التي بينتها النصوص واتفقت مع حِكْمة الشارع» (1).
ويقول: «والواقع أنَّ جلّ ما يقال في هذا المجال مما لم يدل عليه محكم قرآن ولا صحيح سنة، ولا إجماع أمة، إنما هي اجتهادات يؤخذ منها ويترك أو آراء بشر يجب أن تحاكم وترد إلى النصوص الأصلية والقواعد المرعية، والمقاصد الكلية،
…
والذي أميل إليه أنه لا يُفَطِّر الصائم إلا ما أجمع الفقهاء على التفطير به، وذلك ما دل عليه محكم القرآن، وصحيح السنة، واتفق مع حِكْمة الشارع من الصيام» (2).
وجانب التضييق هو ما اختاره أغلب أعضاء مجمع الفقه الإسلامي، فقد جاء في توصيات الندوة الفقهية الطبية التابعة لمجمع الفقه الإسلامي ما يلي:
وعند النظر في مذهب المضيقين قد يبدو أنّ مذهبهم تمرداً على مذهب
(1) القرضاوي، يوسف، فقه الصيام، مرجع سابق، ص 74.
(2)
المرجع السابق ص 80 - 81.
(3)
انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي، مرجع سابق، العدد العشر، ج 2، ص 464.
الجمهور في ضابط المُفَطِّرات التي توسعوا فيها تبعاً لتوسعهم في الجوف الذي جعلوه مناطاً لفساد الصوم، إلا أننا عند التأمل في مذهب المضيقين نجد أنهم وافقوا الجمهور في المحل الذي اتفقوا عليه من الجوف، والذي دل النص على أنّه مناط لفساد الصوم بما يصل إليه، وخالفوهم فيما تباينت فيه وجهاتهم إذ لا يوجد نص صريح على ما ذهبوا إليه، ولا علة منصوصة يمكن الركون إليها في توسيع دائرة المُفَطِّرات بما يشق على المكلفين، فبقي الأصل التشريعي في التكاليف وهو رفع الحرج، وكما قال الشعبي:«إذا اختلف عليك في أمرين، فخذ أيسرهما، فإن أيسرهما أقربهما من الحق؛ لأنّ الله عز وجل يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]» (1).
والمضيقون منهم مَنْ حمله على ذلك أصوله المانعة والممانعة للقياس كابن حزم، ومنهم من ولجه بأدواته القياسية نافياً وجود علة صريحة يمكن البناء عليها في إفساد عبادة صحيحة متيقنة، وأنّ التوسع من الحرج الذي يجب رفعه عن المكلفين الذين يشق عليهم معرفة تفاصيل المُفَطِّرات المبنية على تلك العلة المستنبطة، وهذا مسلك ابن تيمية والقرضاوي، والعثيمين.
والباحث يرجح مذهب المضيقين بمسلكه القياسي لما له من قوة حجة،
(1) نقله عنه الإمام البغوي. انظر: البغوي، الحسين بن مسعود، شرح السنة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - محمد زهير الشاويش (دمشق-بيروت: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1403 هـ - 1983 م) ج 14، ص 391.
وموافقة لمقاصد الشريعة وأصولها الكلية (1).
(1) وسيأتي تفصيل حجج الباحث لهذا الاختيار في مطلب: الراجح في ضابط المُفَطِّرات، ص (135).