الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث في المفوضة
قوله: ولو قالت البالغة المالكة لأمرها زوجني وسكتت عن المهر فالذي ذكره الإمام وغيره أن ذلك ليس بتفويض لأن النكاح يعقد بمهر في الغالب فيحتمل الإذن على الغالب، وكأنها قالت زوجني بالمهر، ويوافقه بعض ما تقدم، وفي كتب العراقيين ما يقتضي كونه تفويضًا ثم قال ومن التفويض الصحيح أن يقول سيد الأمة: زوجتكها بلا مهر، وألحقوا به ما إذا سكت عن المهر، وقد تقوى بهذا ما ذكره العراقيون. انتهى كلامه.
وقد ظهر لك منه أنه ليس فيه تصريح بترجيح أحد المقالتين، وكلامه في "المحرر" يقتضي أنه ليس بتفويض لا في السيد ولا في المرأة، وقد صرح بتصحيحه في "الشرح الصغير" فقال: فإن قالت زوجني وسكتت عن المهر فالظاهر أنه ليس بتفويض، وقيل هو تفويض، وذكر النووي في "الروضة" و"المنهاج" كما في "الشرح" و"المحرر" إلا أنه عبر بقوله، وفي بعض كتب العراقيين ما يقتضي كونه تفويضًا، وهذه العبارة يؤخذ منها ترجيح الأول ما لا يوجد من كلام الرافعي، إذا علمت ذلك فاعلم أن الصواب المفتي به في المسألتين جميعًا أنه تفويض فقد نص عليه الشافعي في "الأم" فقال في باب التفويض ما نصه: قال الشافعي: التفويض الذي إذا عقد الزوج النكاح به عرف أنه تفويض في النكاح أن يزوج الرجل المرأة الثيب المالكة لأمرها برضاها ولا يسمى لها مهرًا، أو يقول لها تزوجتك بغير مهر، فالنكاح في هذا ثابت فإن أصابها فلها مهر مثلها، وإن لم يصيبها حتى طلقها فلها المتعة ولا نصف مهر لها، وكذلك أن يقول أتزوجك ولك علي مائة دينار هذا لفظه بحروفه، ولم يذكر الرافعي المسألة
الأخيرة، وذكر أيضًا بعده في الباب مثله فقال ما نصه: قال الشافعي ولسيد الأمة في تزويج الرجل بغير مهر مثل المرأة البالغ في نفسها إذا زوجها بغير أن يسمى مهرًا أو زوجها على أن لا مهر لها فطلقها الزوج قبل المسيس فلها المتعة وليس لها نصف مهر هذا لفظه، وهي نصوص قاطعة في المسألتين لم يطلعا عليها، واقتصرا على ما وجداه من كلام متأخري الأصحاب ورجحا منه ما ظهر لهما ترجيحه لاسيما في "الروضة" كما تقدم، وهذا الكلام وأمثاله منهما يحمل من وقف عليه ممن لا اطلاع لديه على الإفتاء والحكم به فاحذره.
قوله في "الروضة" في المسألة: ومن التفويض الصحيح أن يقول سيد الأمة زوجتها بلا مهر أو زوجها ساكتا عن المهر. انتهى.
وتعبيره بقوله أو زوجها هو فعل ماض لا أمر فاعلمه، وأما تعبيره قبل ذلك بقوله زوجتها أي بالتاء كما ذكرناه فهو كذلك في بعض [النسخ وزاده في "المنهاج" إيضاحا فعبر بقوله زوجتكها أي بزيادة الكاف، لكن في بعض](1) نسخ الرافعي زوجها على أنه فعل أمر لغيره، وكلام ابن الرفعة في "المطلب" يقتضي أن الأمر بدون التصريح بالمهر لا يكون تفويضًا إذ المأمور يقوم به غالبًا بخلاف قول السيد زوجتكها.
قوله: وإذا وطئت المفوضة وجب المهر وهل الاعتبار بحالة العقد أم بحالة الوطء؟ فيه وجهان أو قولان: أصحهما على ما ذكره الروياني، وهو الذي أورده ابن الصباغ الأول، وقضية القول باعتبار حالة العقد إيجاب مهر ذلك اليوم سواء كان أقل أو أكثر، لكن ذكر المعتبرون أنه إن كان أقل لم يقتصر عليه، بل يلزمه أكثر قيمة من يوم القبض إلى الإتلاف. انتهى ملخصًا.
فيه أمران:
(1) سقط من جـ.
أحدهما: أن ما ذكره من التردد في أنه وجهان أو قولان تابعه عليه في "الشرح الصغير" و"الروضة"، والراجح أنه وجهان فقد جزم به الرافعي في "المحرر" فقال: والاعتبار فيه بحالة العقد في أصح الوجهين، وتابعه عليه في "المنهاج".
الثاني: أن ما نقله عن المعتبرين من اعتبار الأكثر قد خالفه في العتق في الكلام على السراية إلى نصيب الشريك مخالفة عجيبة فإنه نقل عن الأكثرين ما حاصله أنهم لم يعتبروا الأكثر، بل جعلوا الاعتبار بحالة العقد، وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه وذكر نحوه هنا من "المحرر" و"الشرح الصغير" وقد وقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج"، فقال في "الروضة" ما نصه: وهل تعتبر حالة الوطء أم يجب أكثر مهر من يوم العقد إلى الوطء وجهان أو قولان أظهرهما: الثاني: وقال في "المنهاج": لم يحكه في "الروضة" بالكلية فضلًا عن تصحيحه.
قوله: ولو مات أحد الزوجين قبل المسيس وقبل أن يفرض لها مهر، فهل يجب مهر المثل؟ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق، وقد نكحت بغير مهر فمات زوجها بمهر نسائها وبميراثها (1)، لكن في رواته اضطراب، فقيل: رواه معقل بن سنان، وقيل: ابن يسار، وقيل: رجل
(1) أخرجه أبو داود (2114) و (2116) والترمذي (1145) والنسائي (3354) وابن ماجه (1891) وأحمد (4276) والدارمى (2246) وابن حبان (4098) والحاكم (2737) والطيالسي (1273) والطبراني في "الكبير"(20/ 231) حديث (542) و"الأوسط"(2107) وسعيد بن منصور (929) وعبد الرزاق (10899) وابن أبي شيبة (3/ 555) والبيهقي في "الكبري"(14188) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(1296) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
قال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وقال الألباني: صحيح.
من أشجع، أو ناس من أشجع، فظهر لذلك تردد في كلام الشافعي، وللأصحاب طرق:
أحدها: أنه إن ثبت الحديث وجب المهر، وإلا فقولان.
والثاني: إن لم يثبت الحديث لم يجب، وإن ثبت فقولان.
والثالث: إن ثبت وجب، وإلا فلا وهو ظاهر لفظ "المختصر".
وأشبههما: إطلاق قولين في المسألة. انتهى كلامه.
وما ذكره بحثًا من ترجيح طريقة القولين مطلقًا تبعه في "الروضة" عليه، وعبر بالأصح عوضًا عن الأشبه، وهذا الترجيح خلاف ما نص عليه الشافعي، فإنه نص في "الأم" على أنه إن ثبت الحديث وجب وإلا فلا على وفق الطريقة الثالثة فقال في هذا الباب ما نصه: قال الشافعي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي أنه قضى في بروع بنت واشق، ونكحت بغير مهر فمات زوجها فقضى لها بمهر نسائها، وقضى لها بالميراث (1)، فإن كان ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أولى الأمور بنا ولا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم وإن كثروا، ولا قياس ولا شيء في قوله إلا طاعة لله تعالى بالتسليم؛ وإن كان لا يثبت لم يكن لأحد أن يثبت عنه ما لا يثبت، ولم أحفظه بعد من وجه يثبت مثله وهو مرة يقال: عن معقل بن يسار، ومرة عن معقل بن سنان، ومرة عن بعض أشجع لا يسمى فإن لم يثبت، فإذا مات أو ماتت فلا مهر لها هذا لفظه بحروفه.
واعلم أن بروع بباء موحدة مكسورة ثم راء مهملة ساكنة ثم واو مفتوحة، ثم عين مهملة وأبوها واشق بالشين المعجمة المكسورة وبالقاف، وهي كلابية وقيل أشجعية وكانت امرأة هلال بن مرة، وخالف الجوهري فقال أصحاب الحديث يقولونه بكسر الباء والصواب الفتح لأنه ليس في
(1) تقدم.
الكلام فعول إلا خروع بكسر المعجمة اسم للشجر المعروف وعتود بكسر العين المهملة وبالتاء المثناة اسم واد، وذكر صاحب "المحكم" نحوه، وقد ذكر النووي في "تهذيبه" هذا كله ثم حكي عن القلعي فيها أي في بروع ضبطًا آخر نسبه فيه إلى التصحيح، والحديث المذكور رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وابن حزم والبيهقي وغيرهم.
قوله: وهل لها الحبس بتسليم المفروض حكى الإمام عن الأصحاب وهو الذي أورده صاحب "الكتاب" المنع.
وقال الروياني: ظاهر المذهب أن لها ذلك وهو الجواب في "التهذيب". انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد عبر عن قول الرافعي وهو الذي أورده صاحب الكتاب بقوله وبه قطع الغزالي وليس الأمر كما قاله فقد حكى الغزالي في "البسيط" و"الوسيط" فيه وجهين وزاد على ذلك فقال: إن هذا الوجه متجه وإذا تأملت ذلك قضيت عجبًا من نقله القطع بالشيء عن شخص هو مرجح خلافه خصوصًا الغزالي وشهرته والخلاف في مثل "الوسيط".
الأمر الثاني: أن الأصح هو الوجه الثاني كذا صححه الرافعي في "المحرر" وعبر بالأظهر، وقال في "الروضة" من زوائده: إنه الأصح، ولم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير".
قوله: في "الروضة": فإن منعنا أي الإبراء عن المجهول فذلك في ما زاد عن المتيقن وفي ما استيقنه وجهان من تفريق الصفقة. انتهى.
ومقتضاه تصحيح الصحة لأن الأصح التفريق، لكن سبق في أوائل
الضمان ما يقتضي مخالفة هذا فراجعه، وعبر الرافعي هنا بقوله: ويقال هما مأخوذان من تفريق الصفقة فضعف الاعتراض عليه.
قوله: فرع في "التتمة": لو نكح ذمي ذمية على أن لا مهر لها وترافعا إلينا حكمنا بحكمنا في المسلمين، وقال أبو حنيفة: إن اعتقدوا أن النكاح لا يخلو عن المهر فكذلك، وإن جوزوا خلوه عن المهر فلا مهر لها انتهى كلامه.
وقد ذكر في أثناء نكاح المشركات ما يشكل على هذا فقال: فرع لو نكح الكافر على صورة التفويض، وهم يعتقدون أن لا مهر للمفوضة بحال، ثم أسلموا فلا مهر وإن كان الإسلام قبل المسيس لأنه قد سبق استحقاق وطء بلا مهر. انتهى كلامه.
وهو غريب فإنا إذا قلنا بالوجوب في ما إذا لم يسلما مع أنهما يعتقدان عدم الوجوب، ولم ينتهيا إلى حالة يتغير اعتقادهما فيها، فكيف يستقيم معه أن يقال بعدم الوجوب إذا أسلما مع أنهما قد انتهيا إلى حالة يعتقدان فيها الوجوب لو أوقعا فيها عقدًا جديدًا، وقد اختصر النووي الموضعين على ما هما عليه، وزاد على ذلك فلم ينقل الموضع المذكور هنا عن صاحب "التتمة" كما نقله عنه الرافعي بل أطلق ذلك.
قوله: الثانية: إذا وطء مرارًا بشبهة واحدة أو في نكاح فاسد لم يجب إلا مهر واحد كما أن الوطآت في النكاح الصحيح لا تقتضي إلا مهر واحد. انتهى.
وهذا القياس الذي استند إليه عجيب لأن الوطآت الواردة في النكاح استيفاء لحق سبق بعقد واقع على مسمى معين، وأما في مسألتنا فإنه وطء وطءً في غير ملك، وكل وطأة صدرت منه، فإنها انتفاع غير الانتفاع الأول والشبهة لا تؤثر في دفع الغرامات إنما أثرها في دفع العقوبة، وأيضًا
فالموجب في مسألتنا إنما هو الوطء لأنه لا عقد فالوطء الأول لا يمكن تأخير الوجوب عنه.
والثاني: لابد أن يترتب عليه أثر.
قوله: ولو وطء الأب جارية الابن مرارًا من غير إحبال فقد أطلق في الكتاب، وجهين أشبههما أنه لا يجب إلا مهر واحد لأن الشبهة وهي وجوب الإعفاف واحدة، وخصص في "التهذيب" الوجهين بما إذا اتحد المجلس وحكم بالتكرار عند اختلاف ووطء أحد الشريكين الجارية المشتركة، ووطئ السيد المكاتبة مرارًا كوطء جارية الابن. انتهى كلامه.
وهذا الذي قاله في المكاتبة من وجوب مهر واحد، وتبعه عليه في "الروضة" ليس على إطلاقه، بل له شرط ذكره الشافعي في "الأم" في باب مال المكاتبة وقال في ما إذا وطئ السيد مكاتبته فحملت منه أنها تخير بين أخذ المهر ويكون على المكاتبة وبين أن تعجز نفسها فتكون أم ولد ولا مهر لها لانفساخ الكتابة، ثم قال ما نصه: فإن أصابها مرة أو مرارًا فلها مهر واحد إلا أن تخير فتختار الصداق، أو العجز فإن خيرت فعاد فأصابها السيد فلها صداق آخر، ثم قال ما نصه: وكلما خيرت فاختارت الصداق ثم أصابها فلها صداق كنكاح المرأة نكاحًا فاسدًا يوجب مهرًا واحدا فإذا فرق بينهما وقضى الصداق ثم نكحها نكاحًا آخر فلها صداق آخر. انتهى كلامه.
وهي فائدة مهمة، ويؤخذ منها ترجيح تعدد المهر في جارية الابن على خلاف ما رجحه الرافعي بحثًا.