الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعَارَضَ ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ أَصْلًا لَنُقِلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الْمُعْتَادِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
قَالَ: فَقَدْ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: كَانَتِ الْعَادَةُ انْخَرَقَتْ فِي أُمُورِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِانْصِرَافِ "هِمَمِ"* النَّاسِ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مِنَ الضَّعْفِ وَسُقُوطِ مَا "رَتَّبَهُ"* عَلَيْهَا.
وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ، وَبِهِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ القشيري، وإلكيا، والغزالي، والآمدي، والشريف المرتضى، واختار النَّوَوِيُّ فِي "الرَّوْضَةِ"، قَالُوا: إِذْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةُ عَقْلٍ، وَلَا ثَبَتَ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ" بَعْدَ حِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ: وَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ، وَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ لَكِنْ أَيْنَ السَّمْعُ فِيهِ. انْتَهَى.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَظْهَرُ لَهَا فَائِدَةٌ، بَلْ تَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ، وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَكِنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ شَرَفُ تِلْكَ الْمِلَّةِ التي تبعد بِهَا، وَفَضَّلَهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مِلَّتِهِ.
وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم كَثِيرَ الْبَحْثِ عَنْهَا، عَامِلًا بِمَا بَلَغَ إِلَيْهِ مِنْهَا، كَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ السيرة، وَكَمَا تُفِيدُهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مِنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِاتِّبَاعِ تِلْكَ الْمِلَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ لَهَا، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَمْ يكن إلا عليها.
* في "أ": بانصرافهم.
** في حاشية "أ": كذا بالأصل "أي ملزمة" والصواب سقوط ما نبه عليه يعني بقوله والوجه أن يقال إلخ والله أعلم.
_________
1 انظر البحر المحيط 6/ 41 والمستصفى 1/ 250.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ كَانَ صلى الله عليه وسلم بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله أم لا
؟
اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَمْ لَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِاتِّبَاعِهَا1، بَلْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي آخر عمره.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي"، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ1 لَمْ يُرْشِدْهُ إِلَّا إِلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ.
وَصَحَّحَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ حَزْمٍ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 2.
وَبَالَغَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالَتْ: بِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَقْلًا، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْعَقْلُ لَا يُحِيلُهُ، وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهُ، نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَارَهُ "ابْنُ بَرْهَانَ"*. وَقَالَ: إِنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِهِمْ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحسن واختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي واختاره ابن الحاجب.
قال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ أَصْحَابِنَا، يَعْنِي الْمَالِكِيَّةَ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 3 الآية، فإن ذلك مما استدل بِهِ فِي شَرْعِنَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِكَوْنِ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فِي شَرْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبًا فِي شَرْعِهِ.
واستدلوا أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" 4 وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 5 وَهِيَ مَقُولَةٌ لِمُوسَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، لَمَا كَانَ لِتِلَاوَةِ الْآيَةِ عِنْدَ ذَلِكَ فَائِدَةٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابن عباس أنه سجد في صورة ص، وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 6 فاستنبط التشريع من هذه الآية.
* في "أ": الرازي. وهو تحريف، والصواب ما أثبت كما في البحر 6/ 42.
_________
1 تقدم تخريجه 1/ 152.
2 جزء من الآية 48 من سورة المائدة.
3 جزء من الآية 45 من سورة المائدة.
4 تقدم تخريجه 2/ 75.
5 جزء من الآية 14 من سورة طه.
6 جزء من الآية "90" من سورة الأنعام