الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي "فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ" التَّأْوِيلُ: آخِرُ الْأَمْرِ وَعَاقِبَتُهُ، يُقَالُ: مَآلُ هَذَا الْأَمْرِ مَصِيرُهُ، وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ. وَاصْطِلَاحًا: صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ، فَإِنْ أَرَدْتَ تَعْرِيفَ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ زِدْتَ فِي الْحَدِّ: بِدَلِيلٍ يُصَيِّرُهُ رَاجِحًا؛ لِأَنَّهُ بِلَا دَلِيلٍ، أَوْ مَعَ دَلِيلٍ مَرْجُوحٍ، أَوْ مساوٍ فَاسِدٍ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَهَذَا الْبَابُ أَنْفَعُ كُتُبِ الْأُصُولِ وَأَجَلُّهَا، وَلَمْ يَزِلَّ الزَّالُّ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ.
وَأَمَّا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَأَنْكَرَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ إِدْخَالَهُ لِهَذَا الْبَابِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ "أُصُولِ"* الْفِقْهِ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ يُورَدُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ الظَّاهِرَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، ولعمل بِهِ، بِدَلِيلِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الظَّاهِرِ فَاعْلَمْ: أَنَّ النَّصَّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَهُوَ قِسْمٌ مِنَ النَّصِّ مُرَادِفٌ لِلظَّاهِرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي:
لَا يَقْبَلُهُ، وَهُوَ النَّصُّ الصَّرِيحُ، وَسَيَأْتِي1 الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هذا الباب.
* في "أ": أصل.
_________
1 انظر صفحة: 2/ 36
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَدْخُلُهُ التَّأْوِيلُ
وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَغْلَبُ الْفُرُوعِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: الْأُصُولُ: كَالْعَقَائِدِ، وَأُصُولِ الدِّيَانَاتِ، وَصِفَاتِ الْبَارِي عز وجل.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، بَلْ يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا يؤول شيء منها، وهذا قول المشبهة1.
1 وهم مشبهة الحشوية الذين شبهوا الخالق بالمخلوق وأجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة حد الإخلاص المحض والاتحاد المحض، وهم أتباع كهمس وأحمد الهجيمي أ. هـ الملل والنحل "1/ 103".
وَالثَّانِي:
أَنَّ لَهَا تَأْوِيلًا، وَلَكِنَّا نُمْسِكُ عَنْهُ، مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، لِقَوْلِهِ تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} 1 قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ.
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْوَاضِحَةُ، وَالْمَنْهَجُ الْمَصْحُوبُ بِالسَّلَامَةِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مُهَاوِي التَّأْوِيلِ، لِمَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَكَفَى بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ قُدْوَةً لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ، وَأُسْوَةً لِمَنْ أَحَبَّ التَّأَسِّيَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيلِ الْقَاضِي بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَهُوَ قَائِمٌ مَوْجُودٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
أَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ. قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ بَاطِلٌ، وَالْآخَرَانِ مَنْقُولَانِ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَنُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مسعود، وأم سلمة.
قال أبو عمرو ابن الصَّلَاحِ: النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُوهِمَةِ لِلْجِهَةِ وَنَحْوِهَا فِرَقٌ ثَلَاثٌ:
فَفِرْقَةٌ تُؤَوِّلُ، وَفِرْقَةٌ تُشَبِّهُ، وَثَالِثَةٌ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُطْلِقِ الشَّارِعُ مِثْلَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إِلَّا وَإِطْلَاقُهُ سَائِغٌ وَحَسَنٌ قَبُولُهَا مُطْلَقَةً، كَمَا قَالَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ، وَالتَّبَرِّي مِنَ التَّحْدِيدِ وَالتَّشْبِيهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الْأُمَّةِ وَسَادَتُهَا، "وَإِيَّاهَا"* اخْتَارَهَا أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَتُهَا، وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَأَعْلَامُهُ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ يَصْدِفُ عَنْهَا وَيَأْبَاهَا، وَأَفْصَحَ الْغَزَالِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ "بِتَهْجِيرِ"** مَا سِوَاهَا، حَتَّى أَلْجَمَ آخِرًا فِي إِلْجَامِهِ كل عالم وَعَامِّيٍّ عَمَّا عَدَاهَا. قَالَ:"وَهُوَ"*** كِتَابُ "إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ" وَهُوَ آخِرُ تَصَانِيفِ الْغَزَالِيِّ مُطْلَقًا، حَثَّ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي "النُّبَلَاءِ"2 فِي تَرْجَمَةِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيُّ مَا لَفْظُهُ: وَقَدِ اعْتَرَفَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4، واقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5؛
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": بهجر.
*** في "أ": وهذا.
_________
1 جزء من الآية 7 من سورة آل عمران.
2 أي سير أعلام النبلاء.
3 الآية 5 من سورة طه.
4 جزء من الآية 10 من سورة فاطر.
5 جزء من الأية11 من سورة الشورى.