الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْمُومَإِ إِلَيْهِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَنْوَاعِ السَّابِقَةِ، فَاشْتَرَطَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ فُهِمَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، كَمَا فِي قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقض الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 1 اشْتُرِطَ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُشْتَرَطُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ.
وَحَكَى الْهِنْدِيُّ تَفْصِيلًا، وَهُوَ اشْتِرَاطُهُ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِ،. وَحَكَى ابْنُ الْمُنِيرِ تَفْصِيلًا آخَرَ: وَهُوَ إِنْ كَانَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ يَتَنَاوَلُ مَعْهُودًا مُعَيَّنًا؛ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَلَوْ كَانَ مُنَاسِبًا، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفًا، وَأَمَّا إِذَا علق بعام ومنكر فهو تعليل.
1 أخرجه مسلم من حديث أبي بكرة، كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 1717.
وأخرجه البخاري بلفظ: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي وهو غضبان 7158. وأبو داود، كتاب الأقضية، باب القاضي يقضي وهو غضبان 3589". والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان 1334. والنسائي، كتاب آداب القاضي، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه 8/ 237. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب لا يقضي وهو غضبان 10/ 105. وابن حبان في صحيحه 5063. وأحمد في مسنده 5/ 36.
الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النبي صلى الله عليه وسلم:
كَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" وَصُورَتُهُ: أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم فِعْلًا بَعْدَ وُقُوعِ شَيْءٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي وَقَعَ، كَأَنْ يَسْجُدَ صلى الله عليه وسلم لِلسَّهْوِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ إِنَّمَا كَانَ لِسَهْوٍ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ، كَرَجْمِ مَاعِزٍ.
وَهَكَذَا التَّرْكُ لَهُ حُكْمُ الْفِعْلِ، كَتَرْكِهِ صلى الله عليه وسلم لِلطِّيبِ، وَالصَّيْدِ، وَمَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الإحرام.
الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ:
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الِاخْتِبَارُ، وَمِنْهُ الْمَيْلُ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ الْجُرْحُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ الْمِسْبَارُ، وَسُمِّيَ
هَذَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاظِرَ يُقَسِّمُ الصِّفَاتِ وَيَخْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا "فِي أَنَّهُ"* هَلْ تَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا؟
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهَذَا هو المنحصر.
والثاني:
أن لا يكون كذلك، وهذا هو الْمُنْتَشِرُ.
فَالْأَوَّلُ:
أَنْ تُحْصَرَ الْأَوْصَافُ الَّتِي يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِهَا لِلْمَقِيسِ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتِبَارُهَا فِي الْمَقِيسِ، وَإِبْطَالُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْهَا بِدَلِيلِهِ، وَذَلِكَ الْإِبْطَالُ إِمَّا بِكَوْنِهِ مُلْغًى، أَوْ وَصْفًا طَرْدِيًّا، أَوْ يَكُونُ فِيهِ نَقْضٌ، أَوْ كَسْرٌ، أَوْ خَفَاءٌ، أَوِ اضْطِرَابٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ1.
وَقَدْ يَكُونُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ، كَقَوْلِنَا: الْعَالِمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، أَوْ حَادِثًا، بَطَلَ أَنْ يكون قديما، فثبت أنه حادث.
وقد يكون في الظنيات، نحو أن نقول: فِي قِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْبُرِّ فِي الرِّبَوِيَّةِ: بَحَثْتُ عَنْ أَوْصَافِ الْبُرِّ فَمَا وَجَدْتُ ثَمَّ مَا يَصْلُحُ لِلرِّبَوِيَّةِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ إِلَّا الطَّعْمَ، وَالْقُوتَ، وَالْكَيْلَ، لَكِنَّ الطَّعْمَ وَالْقُوتَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ بِدَلِيلِ كَذَا، فَتَعَيَّنَ الْكَيْلُ2.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَحُصُولُ هَذَا الْقِسْمِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَسِرٌ جِدًّا.
وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْمَسْلَكِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِمُنَاسِبٍ، خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ، وَأَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، فَأَمَّا لَوْ لَمْ يَقَعِ الِاتِّفَاقُ لَمْ يكون هَذَا الْمَسْلَكُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ صَارَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، فَلَا بُدَّ مِنْ إِبْطَالِ كَوْنِهِ عِلَّةً أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حاصرا لجميع الأوصاف، وذلك بأن يوافقه الْخَصْمُ عَلَى انْحِصَارِهَا فِي ذَلِكَ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ إِظْهَارِ وَصْفٍ زَائِدٍ، وَإِلَّا فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ أَنْ يَقُولَ: بَحَثْتُ عَنِ الْأَوْصَافِ فَلَمْ أَجِدْ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا، وَهَذَا إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلْبَحْثِ.
وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، وَمِنْهُمُ: الْأَصْفَهَانِيُّ، فَقَالَ: قَوْلُ الْمُعَلِّلِ فِي جَوَابِ طَالِبِ الْحَصْرِ: بَحَثْتُ وَسَبَرْتُ فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ بعلة أخرى فأبرزها، وإلا فليلزمك
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
_________
1 عرفه صاحب فواتح الرحموت بقوله: هو حصر الأوصاف الصالحة للعلية وحذف ما سوى الوصف المدعى في عليته فيتعين المدعى. ا. هـ انظر فواتح الرحموت 2/ 299. البحر المحيط 5/ 222-223 المستصفى 2/ 295.
2 انظر تتمة البحث في البحر المحيط 5/ 223، وفيه تنبيه مهم وجليل، ذكره الزركشي في 5/ 224.
مَا يَلْزَمُنِي، قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ سَبْرَهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْمَدْلُولُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَعْلَمَ طَالِبُ الْحَصْرِ الانحصار ببحثه ونظره، وجهله لا يجوب عَلَى خَصْمِهِ أَمْرًا، وَاخْتَارَ ابْنُ بَرْهَانَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
الْمُنْتَشِرُ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَوْ دَارَ وَلَكِنْ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ عِلِّيَّةِ مَا عَدَا الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ فِيهِ ظَنِّيًّا.
فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، لَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ، وَلَا فِي الظَّنِّيَّاتِ، حَكَاهُ فِي "الْبُرْهَانِ" عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ.
الثَّانِي:
أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: هُوَ الصَّحِيحُ.
الثَّالِثُ:
أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ دُونَ الْمَنَاظِرِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْأَسَالِيبِ"1: إِنَّهُ يُفِيدُ الطَّالِبَ مَذْهَبَ الْخَصْمِ، دُونَ تصحيح مذهب المستدل؛ إذ لا يمتنع أَنْ يَقُولَ: مَا أَبْطَلْتُهُ بَاطِلٌ، وَمَا اخْتَرْتُهُ بَاطِلٌ.
وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَعَزَاهُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي، وَسَائِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ضِمْنًا، وَتَصْرِيحًا، فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ2.
فَمِنَ الضِّمْنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} إلى قوله: {حَكِيمٌ عَلِيم} 3، ومن التصريح قوله:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} إلى قوله: {الظَّالِمِين} 4.
وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنْ يَكُونَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ مَسْلَكًا.
قَالَ الْأَبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ "الْبُرْهَانِ": السَّبْرُ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِبَارِ أَوْصَافِ الْمَحَلِّ وَضَبْطِهَا، وَالتَّقْسِيمُ يَرْجِعُ إِلَى إِبْطَالِ مَا يَظْهَرُ إِبْطَالُهُ مِنْهَا، فَإِذًا لَا يَكُونُ مِنَ الْأَدِلَّةِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا تَسَامَحَ الْأُصُولِيُّونَ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ المنير: "ومن الأسئلة"* القاصمة لمسلم السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمَنْفِيَّ لَا يَخْلُو فِي.
* في "أ": والمسألة.
_________
1 الأساليب في الخلافيات لأبي المعالي الجويني وذكر فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، ا. هـ. كشف الظنون 1/ 75.
2 انظر البحث مفصلا في البحر المحيط 5/ 224-225. المنخول 351.
3 الآية 139 من سورة الأنعام.
4 جزء من الآيتين 142-143 من سورة الأنعام.