الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي قَدْ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِمَالِكِيهَا، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْغَيْرِ، وإنما النزع فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَلَمْ تَصِرْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عز وجل عَلَى تحريمها، لا بِدَلِيلٍ عَامٍّ وَلَا خَاصٍّ، وَكَالنَّبَاتَاتِ الَّتِي تُنْبِتُهَا الأرض، مما لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَلَا كَانَتْ مِمَّا يَضُرُّ مُسْتَعْمِلَهُ بَلْ مِمَّا يَنْفَعُهُ.
المسألة الثانية:
اختلفو فِي وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا:
فَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وافقهم وجبوه بِالْعَقْلِ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الشَّرْعُ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ.
قَالُوا: وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لِحُكْمِ الْعَقْلِ "تَنَزُّلًا"* فَلَا حُكْمَ لِعَقْلٍ بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، فَلَا إِثْمَ فِي تَرْكِهِ عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِفَائِدَةٍ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
وَتَقْرِيرُ الْمُلَازَمَةِ: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَا لِفَائِدَةٍ، لَكَانَ عَبَثًا، وَهُوَ قَبِيحٌ، فَلَا يَجِبُ عَقْلًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِيجَابُ مَا كَانَ عَبَثًا.
وَأَمَّا تَقْرِيرُ بُطْلَانِ اللَّازِمِ، فَلِأَنَّ الْفَائِدَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ متعالٍ "عَنِ الْفَائِدَةِ"**، وَلِأَنَّهُ لا منفعة فهي لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ تَعَبٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَيْهِ، وَلَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَأَمَّا انْتِفَاعُ الْعَبْدِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَلِأَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِمَنْعِ كَوْنِهِ لَا فَائِدَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، وَسَنَدُ هَذَا الْمَنْعِ، بِأَنَّ فَائِدَتَهُ للعبد في
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
الدُّنْيَا هِيَ دَفْعُ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ، وذلك للزوم الخطور على باب كل عَاقِلٍ، إِذَا رَأَى مَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ، وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، أَنَّ الْمُنْعِمَ قَدْ أَلْزَمَهُ بِالشُّكْرِ كَمَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ أَنَّهُ مُطَالَبٌ لَهُ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا.
وَمَنَعَ الْأَشْعَرِيَّةُ لُزُومَ الْخُطُورِ الْمُوجِبِ لِلْخَوْفِ فَلَا يَتَعَيَّنُ وُجُودُهُ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْمَنْعِ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ هُوَ مَنْعٌ، فَإِنْ أَرَادُوا بِهَذَا الْمَنْعِ لِذَلِكَ الْمَنْعِ أَنَّ سَنَدَهُ لَا يَصْلُحُ لِلسَّنَدِيَّةِ، فَذَلِكَ مَنْعٌ مُجَرَّدٌ لِلسَّنَدِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَعَلَى التَّسْلِيمِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وُجُودُ الْخَوْفِ، فَهُوَ على خطر الوجود، وبالشكر يَنْدَفِعُ احْتِمَالُ وَجُودِهِ، وَهُوَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ.
ثُمَّ "جَاءَتِ"* الْأَشْعَرِيَّةُ بِمُعَارَضَةٍ لِمَا ذَكَرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: وَلَوْ سُلِّمَ فَخَوْفُ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ مُعَارَضٌ بِخَوْفِ الْعِقَابِ عَلَى الشُّكْرِ، إِمَّا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ مَا يَتَصَرَّفُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَالِاسْتِهْزَاءِ، وَمَا مَثَلُهُ إِلَّا كَمَثَلِ فَقِيرٍ حَضَرَ مَائِدَةَ مَلِكٍ عَظِيمٍ، فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِلُقْمَةٍ، فَطَفِقَ يَذْكُرُهَا فِي الْمَجَامِعِ، "وَيَشْكُرُهُ"** عَلَيْهَا شُكْرًا كَثِيرًا مُسْتَمِرًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ اسْتِهْزَاءً مِنَ الشَّاكِرِ بِالْمَلِكِ؛ فَكَذَا هُنَا، بَلِ اللُّقْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلِكِ وَمَا يَمْلِكُهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَشُكْرُ الْعَبْدِ أَقَلُّ قَدْرًا فِي جَنْبِ اللَّهِ مِنْ شُكْرِ الْفَقِيرِ لِلْمَلِكِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَلَا يَخْفَاكَ أن هذه المعارضة الركيكة والتمثيل الواقع على غَايَةٍ مِنَ السُّخْفِ، يَنْدَفِعَانِ بِمَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ سَقَطَ مَا جَاءُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَهُوَ التَّكْذِيبُ الْبَحْتُ وَالرَّدُّ الصُّرَاحُ.
ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ النِّعْمَةَ الَّتِي وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْهَا هِيَ عَلَى غَايَةِ الْعَظَمَةِ عِنْدَ الشَّاكِرِ، فَإِنَّ أَوَّلَهَا وُجُودُهُ، ثم تكميل آلائه، ثُمَّ إِفَاضَةُ النِّعَمِ عَلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ شُكْرُهُ عَلَيْهَا اسْتِهْزَاءً.
وَقَدِ اعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَشَاعِرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي "تَحْرِيرِهِ"، فَقَالَ: وَلَقَدْ طَالَ رَوَاجُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى تَهَافُتِهَا، يَعْنِي جُمْلَةَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِرَاضِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ حُكْمَ الْمُعْتَزِلَةِ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ تَابِعٌ لِعَقْلِيَّةِ مَا فِي الفعل،
* في "أ": جاء.
** في "أ": وشكر.
فَإِذَا عُقِلَ فِيهِ حُسْنٌ يُلْزِمُ بِتَرْكِ مَا هُوَ فِيهِ الْقُبْحُ، كَحُسْنِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، الْمُسْتَلْزِمِ تَرْكَهُ الْقُبْحَ، الَّذِي هُوَ الْكُفْرَانُ بِالضَّرُورَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَقْلُ حُكْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الشُّكْرِ قَطْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ بِلَا مَرَدٍّ، لَمْ يَبْقَ لَنَا حَاجَةٌ فِي تَعْيِينِ فَائِدَةٍ، بَلْ نَقْطَعُ بِثُبُوتِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، عِلْمَ عينها أو لا، وَلَوْ مَنَعُوا، يَعْنِي: الْأَشْعَرِيَّةَ اتِّصَافَ الشُّكْرِ بِالْحُسْنِ، واتصاف الكفران بالقبح، لم تصر مسألة عَلَى التَّنَزُّلِ مَعْنًى، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ عَلَى التنزيل.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ انْفِصَالَ الْمُعْتَزِلَةِ بِدَفْعِ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ إِنَّمَا يَصِحُّ حَامِلًا عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الشُّكْرُ، وَهُوَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُمْ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ، فَيَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ. قَالَ شَارِحُهُ: لِغَرَابَتِهِ وَسَخَافَتِهِ، كَيْفَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ انْسِدَادُ بَابِ الشُّكْرِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا. انْتَهَى.
وَمَنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مُؤَلَّفَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذَا الدَّلِيلَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ، فَقَالُوا: مَنْ رَأَى النِّعَمَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا، وَتَوَاتُرَ أَنْوَاعِهَا خَشِيَ أَنَّ لَهَا صَانِعًا يَحِقُّ لَهُ الشُّكْرُ؛ إِذْ وُجُوبُ شُكْرِ كُلِّ مُنْعِمٍ ضَرُورِيٌّ، وَمَنْ خَشِيَ ذَلِكَ خَافَ مَلَامًا عَلَى الْإِخْلَالِ، وَتَبِعَهُ عَلَى الْإِخْلَالِ ضَرَرٌ عَاجِلٌ، وَالنَّظَرُ كَاشِفٌ لِلْحَيْرَةِ، دَافِعٌ لِذَلِكَ الْخَوْفِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِالنَّظَرِ حَسُنَ فِي الْعَقْلِ ذَمُّهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ، فَإِذَا نَظَرَ زَالَ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَيَلْزَمُهُ فَائِدَةُ الْأَمْنِ مِنَ الْعِقَابِ، عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا بِأَنْ يَشْكُرَ، وَإِمَّا بأن يكشف له النظر أَنَّهُ لَا مُنْعِمَ، فَلَا عِقَابَ.
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِمْ فِي الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ.
وَأَمَّا الْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ: فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِأَمْرِ الْعِبَادِ بِشُكْرِ رَبِّهِمْ، وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي زِيَادَةِ النِّعَمِ، وَالْأَدِلَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ النَّبَوِيَّةُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جَدًّا.
وَحَاصِلُهَا: فَوْزُ الشَّاكِرِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفَّقَنَا اللَّهُ تعالى لشكر نعمه، ودفع عنا جميع قمه.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رحمه الله: وَإِلَى هُنَا انْتَهَى مَا أَرَدْنَا جَمْعَهُ، بِقَلَمِ مُؤَلِّفِهِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى نِعَمِ رَبِّهِ، الطَّالِبِ مِنْهُ مَزِيدَهَا عَلَيْهِ وَدَوَامَهَا لَهُ، مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّوْكَانِيِّ، غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ، وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ يَوْمَ الأربعاء، لعله الرَّابِعَ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ، سَنَةَ 1231، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أولًا وآخرصا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله صحبه.