الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَانُوا يُبَلِّغُونَ الْأَحْكَامَ الْمُبْتَدَأَةَ وَنَاسِخَهَا.
وَمِنَ الْوُقُوعِ: نَسْخُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} 1 الآية. "بنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ"2 وَهُوَ آحَادٌ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا أَجِدُ الْآنَ، وَالتَّحْرِيمُ وَقَعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمِنَ الْوُقُوعِ نَسْخُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ3 بِالنَّهْيِ عَنْهَا، وَهُوَ آحَادٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَمِمَّا يُرْشِدُكَ إِلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِمَا صَحَّ مِنَ الْآحَادِ لِمَا هُوَ أَقْوَى مَتْنًا أَوْ دَلَالَةً مِنْهَا: أَنَّ النَّاسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا جَاءَ رَافِعًا لِاسْتِمْرَارِ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَدَوَامِهِ، وَذَلِكَ ظَنِّيٌّ وَإِنَّ كَانَ دَلِيلُهُ قَطْعِيًّا، فَالْمَنْسُوخُ إِنَّمَا هُوَ هَذَا الظَّنِّيُّ، لَا ذلك القطعي، فتأمل هذا.
1 جزء من الآية 145 من سورة الأنعام.
2 أخرجه مسلم من حديث ابن عباس، كتاب الصيد، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع 1934. النسائي، كتاب الصيد، باب إباحة أكل لحم الدجاج 7/ 206. ابن ماجه، كتاب الصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع 3234. البيهقي، كتاب الضحايا، باب ما يحرم من جهة ما لا تأكله العرب 9/ 315. الدارمي في سننه 2/ 85. أحمد في مسنده 1/ 302. ابن حبان في صحيحه 5280 وذكره البخاري في "التاريخ الكبير" 6/ 262.
3 تقدم تخريجه في 2/ 61.
المسألة العاشرة: نسخ القرآن بالسنة المتواترة
مدخل
…
المسألة العاشرة: نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ
يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانَ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.
قَالَ ابْنُ فُورَكَ فِي "شَرْحِ مَقَالَاتِ الْأَشْعَرِيِّ"1: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ وُجِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 2، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ:"لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " 3 "وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ"* لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وهو مذهب أبي حنيفة، وعامة المتكلمين.
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
_________
1 لم أجد فيما بين يدي من كتب التراجم أحدا ممن ترجم لابن فورك يذكر له هذا الكتاب.
2 البقرة 180.
3 تقدم تخريجه في 1/ 389.
وقال سليم الرازي: هو قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، والمعتزلة، وسائر المتكلمين.
قال الدبوسي: إنه قَوْلُ عُلَمَائِنَا، يَعْنِي: الْحَنَفِيَّةَ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: قَالَ بِهِ عَامَّةُ شُيُوخِنَا، وَحَكَاهُ "أَبُو"* الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ: وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ لِلْحَدِيثِ، فَهُوَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ -كَمَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً. وَبِهِ جَزَمَ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْخَفَّافُ1، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا حَكَاهُ ابْنُ فُورَكَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ أَكْثَرِهِمُ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ شَرْعًا لَا عَقْلًا.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} 2 الْآيَةَ.
قَالُوا: وَلَا تَكُونُ السُّنَّةُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ، "وَلَا"** مِثْلَهُ، قَالُوا: وَلَمْ نَجِدْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً مَنْسُوخَةً بِالسُّنَّةِ.
وَقَدِ اسْتَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَنْعِ، حَتَّى قَالَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسُ: هَفَوَاتُ الْكِبَارِ عَلَى أَقْدَارِهِمْ، وَمَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ عَظُمَ قَدْرُهُ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْجَبَّارِ كَثِيرًا مَا "يَنْصُرُ"*** مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ كَبِيرٌ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَكْبَرُ مِنْهُ، قَالَ: وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مَنَعَ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، فَضْلًا عَنِ الْمُتَوَاتِرِ، فَلَعَلَّهُ يَقُولُ: دَلَّ عُرْفُ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ قَاطِعٌ مِنَ السَّمْعِ تَوَقَّفْنَا، وَإِلَّا فَمَنِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ عليه السلام لَا يَحْكُمُ بِقَوْلِهِ فِي نَسْخِ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ، وَأَنَّ هَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَقْلِ؟
*في "أ": أين.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ": ينظر.
_________
1 هو عبد الوهاب بن عطاء العجلي، الخفاف، أبو نصر، فقيه، محدث مفسر، من أهل البصرة، توفي ببغداد سنة أربع ومائتين هـ، من آثاره:"السنن في الفقه، التفسير، الناسخ والمنسوخ، الصيام". ا. هـ. معجم المؤلفين 6/ 225. كشف الظنون 2/ 1434.
2 جزء من الآية 106 من سورة البقرة.
وَالْمُغَالُونَ فِي حُبِّ الشَّافِعِيِّ لَمَّا رَأَوْا هَذَا الْقَوْلَ لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي مَهَّدَ هَذَا الْفَنَّ وَرَتَّبَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ أَخْرَجَهُ، قَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ هَذَا الْعَظِيمِ مَحْمَلٌ، فَتَعَمَّقُوا فِي مَحَامِلَ ذَكَرُوهَا، انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ السُّنَّةَ شَرْعٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل، كَمَا أَنَّ الْكِتَابَ شَرْعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ ثُبُوتًا عَلَى حَدِّ ثُبُوتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْقُرْآنِ فِي النَّسْخِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا فِي الشَّرْعِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 2، لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ مَنْسُوخًا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ سَيُبَدِّلُهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، أَوْ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَمَا أَتَانَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَهُوَ كَمَا أَتَانَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3 وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} 4.
قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: لَمْ يُرِدِ الشَّافِعِيُّ مُطْلَقَ السُّنَّةِ، بَلْ أَرَادَ السُّنَّةَ الْمَنْقُولَةَ آحَادًا، وَاكْتَفَى بِهَذَا الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي السُّنَّةِ الْآحَادُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَالصَّوَابُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُوجَدَانِ مُخْتَلِفَيْنِ إِلَّا وَمَعَ أَحَدِهِمَا مِثْلُهُ نَاسِخٌ لَهُ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ عَظِيمٌ، وَأَدَبٌ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَهْمٌ لِمَوْقِعِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَقَعْ عَلَى مُرَادِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ فَهِمُوا خِلَافَ مُرَادِهِ، حَتَّى غَلَّطُوهُ وَأَوَّلُوهُ. انْتَهَى.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ: إِنَّ السُّنَّةَ فِيهِ نَسَخَتِ الْقُرْآنَ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} 5 الآية، وقوله تعالى:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} 6، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} 7 الآية مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ "عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ"8، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 9، فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِأَحَادِيثِ الدِّبَاغِ10 عَلَى نِزَاعٍ طَوِيلٍ في كون ما في هذه الآيات منسوخة بالسنة.
1 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.
2 جزء من الآية 106 من سورة البقرة
3 الآية 4 من سورة النجم.
4 جزء من الآية 15 من سورة يونس.
5 جزء من الآية 180 من سورة البقرة.
6 جزء من الآية 11 من سورة الممتحنة.
7 جزء من الآية 145 من سورة الأنعام.
8 تقدم تخريجه في 2/ 68.
9 جزء من الآية 3 من سورة المائدة.
10 أحاديث الدباغة كثيرة منها حديث شاة ميمونة المشهور، وقوله عليه الصلاة والسلام:"إيما إهاب دبغ فقد طهر" وقد تقدم تخريجه في 1/ 347.