الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا، وَقَدْ جَوَّزَتِ الرَّافِضَةُ الْبَدَاءَ عَلَيْهِ؛ عز وجل، لِجَوَازِ النَّسَخِ، وَهَذِهِ مَقَالَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ بِمَجْرَدِهَا.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ شَرْعًا، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ.
وَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ "الْأُصُولِ"* اتِّفَاقُ أَهْلِ الشَّرَائِعِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَقَامِ مَا يَقْتَضِي تَطْوِيلَ "الْمَقَالِ"**.
وَقَدْ أَوَّلَ جَمَاعَةٌ خِلَافَ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ الْمَذْكُورِ سَابِقًا بِمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إِنْكَارُ النَّسْخِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ لَا يَرْتَفِعُ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْتَهِي بِنَصٍّ دَلَّ عَلَى انْتِهَائِهِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا. وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْكَرَ الْجَوَازَ، وَأَنَّ خِلَافَهُ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، لَا كَمَا نَقَلَ عَنْهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: أَنَّهُ أَنْكَرَ الْوُقُوعَ.
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَذَلِكَ جَهَالَةٌ مِنْهُ عَظِيمَةٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَحْكَامِ الْعَقْلِ، فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ عَنْ قَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَا هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِكَوْنِهَا نَاسِخَةً لِلشَّرَائِعِ، فَهُوَ خِلَافٌ كُفْرِيٌّ1 لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ.
نَعَمْ إِذَا قَالَ: إِنَّ الشَّرَائِعَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُغَيَّاةٌ بِغَايَةٍ هِيَ الْبَعْثَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَسْخٍ؛ فَذَلِكَ أَخَفُّ مِنْ إِنْكَارِ كَوْنِهِ نسخًا غير مقيد بهذا القيد.
* في "أ": العلم.
** في "أ": المرام.
_________
1 أي مكفر لمن قال به.
الْحِكْمَةُ مِنَ النَّسْخِ:
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي النَّسْخِ؟
قُلْتُ: قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ"1: إِنَّ الشَّرَائِعَ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد.
1 وهو في الكلام، للإمام فخر الدين، محمد بن عمر الرازي وشرحه عبد الرحمن المعروف بجلبي زادة ا. هـ كشف الظنون 2/ 1714.
وَمِنْهَا: سَمْعِيَّةٌ لَا يُعْرَفُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إِلَّا مِنَ السَّمْعِ.
فَالْأَوَّلُ: يَمْتَنِعُ طُرُوءُ النَّسْخِ عَلَيْهِ، كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَطَاعَتِهِ أَبَدًا. وَمَجَامِعُ هَذِهِ الشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ أَمْرَانِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 1.
وَالثَّانِي: مَا يُمْكِنُ طَرَيَانُ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أُمُورٌ تَحْصُلُ فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الطَّاعَاتِ الْفِعْلِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ.
وَفَائِدَةُ نَسْخِهَا: أَنَّ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ إِذَا تَوَاطَئُوا عَلَيْهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، صَارَتْ كَالْعَادَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَظَنُّوا أَنَّ أَعْيَانَهَا مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَمَنَعَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَعَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ "الْأَعْمَالِ"* رِعَايَةُ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَالْأَرْوَاحِ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، انْقَطَعَتِ الْأَوْهَامُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِتِلْكَ "الصُّوَرِ وَ"** الظَّوَاهِرِ إِلَى علَّام السَّرَائِرِ.
وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ طُبِعَ عَلَى الْمَلَالَةِ مِنَ الشَّيْءِ فَوَضَعَ فِي كُلِّ عَصْرٍ شَرِيعَةً جَدِيدَةً لِيَنْشَطُوا فِي أَدَائِهَا.
وَقِيلَ: بَيَانُ شَرَفِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ نَسَخَ بِشَرِيعَتِهِ شَرَائِعَهُمْ، وَشَرِيعَتُهُ لَا ناسخ لها.
وقيل: الحكمة حفظ مصالح العباد، فَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِ حُكْمٍ بِحُكْمٍ، وَشَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ، كَانَ التَّبْدِيلُ لِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ.
وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ بِشَارَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الْخِدْمَةِ عَنْهُمْ، "وَرَفْعِ"*** مُؤْنَتِهَا عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مُؤْذِنٌ بِرَفْعِهَا فِي الْجَنَّةِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ" أَنَّ فَائِدَةَ النَّسْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَالتَّخْفِيفُ عَنْهُمْ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِأَثْقَلَ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ تَكُونُ بِالْأَثْقَلِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَخَفِّ، لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ تَكْثِيرِ الثَّوَابِ، وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ، فَتَكْثِيرُ الثَّوَابِ فِي الْأَثْقَلِ يُصَيِّرُهُ خَفِيفًا عَلَى الْعَامِلِ، يَسِيرًا عَلَيْهِ، لِمَا يَتَصَوَّرُهُ مِنْ جَزَالَةِ الْجَزَاءِ.
* في "أ": الأنواع.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
*** في "أ" وبأن رفع.
_________
1 جزء من الآية 83 من سورة البقرة.