الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"لَا أَعْلَمُ فِيهَا إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ" 1، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَمْثَالُ هَذَا "كَثِيرٌ"*.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفِقْهِ.
وَقَدِ اعْتُرِضَ عليه في ذَلِكَ، وَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الْوَاقِعَ مِنَ الصَّحَابِيِّ إِنْ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كان حجة وشرعا بالتقرير، لَا بِاجْتِهَادِ الصَّحَابِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، عِنْدَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ فِي عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم "لَا عِنْدَ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ، وَإِنْ بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"** وَأَنْكَرَهُ، أَوْ قَالَ بِخِلَافِهِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ فائدة؛ لأنه قد بطل بالشرع.
* في "أ": كثيرة.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".
_________
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن أرقم، انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 17/ 38 برقم 73. وأخرجه أبو الحميدي في مسنده برقم 785 بدون زيادة "لَا أَعْلَمُ فِيهَا إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ ". وأخرجه أبو داود 2269. والنسائي 6/ 182. وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب القضاء بالقرعة 2348.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَهُ في اجتهاده ويعتمد عليه
فعيه أَوَّلًا: أَنْ يَنْظُرَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ فِيهِمَا قَدَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَخَذَ بِالظَّوَاهِرِ مِنْهُمَا، وَمَا يُسْتَفَادُ بِمَنْطُوقِهِمَا وَمَفْهُومِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَظَرَ في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ فِي تَقْرِيرَاتِهِ لِبَعْضِ أُمَّتِهِ، ثُمَّ فِي الْإِجْمَاعِ، إِنْ كَانَ يَقُولُ بِحُجِّيَّتِهِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُهُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَسَالِكِ الْعِلَّةِ، كُلًّا أَوْ بَعْضًا1.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْغَزَالِيُّ: أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لِلْمُجْتَهِدِ، فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ عَرْضُهَا عَلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، ثُمَّ الْآحَادِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ، بَلْ يَلْتَفِتُ إِلَى ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدَ ظَاهِرًا نَظَرَ فِي الْمُخَصَّصَاتِ، مِنْ قِيَاسٍ، وَخَبَرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُخَصَّصًا حَكَمَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْثُرْ عَلَى ظَاهِرٍ، مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، نَظَرَ إِلَى الْمَذَاهِبِ فَإِنْ وَجَدَهَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا اتَّبَعَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِجْمَاعًا خَاضَ فِي الْقِيَاسِ، وَيُلَاحِظُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ أَوَّلًا، وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ، كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ، فَتُقَدَّمُ قَاعِدَةُ الرَّدْعِ عَلَى مُرَاعَاةِ الِاسْمِ، فَإِنْ عَدِمَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً نَظَرَ فِي الْمَنْصُوصِ، وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ أَلْحَقَ بِهِ، وَإِلَّا انْحَدَرَ به إلى الْقِيَاسُ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ تَمَسَّكَ بِالشَّبَهِ، وَلَا يُعَوِّلُ على طرد. انتهى.
1 انظر البحر المحيط 6/ 229.
وَإِذَا أَعْوَزَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمَسَّكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَنْ يُقَدِّمَ طَرِيقَ الْجَمْعِ عَلَى وَجْهٍ مَقْبُولٍ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى التَّرْجِيحِ بِالْمُرَجِّحَاتِ الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى1.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الاجتهاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم يَنْقَسِمُ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا:
مَا كَانَ الِاجْتِهَادُ مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ، كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا، فَهَذَا صَحِيحٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ.
ثانيها:
مَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ شِبْهِ النَّصِّ، كَالْعَبْدِ، لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَشَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ مملوك، فهذا صحيح، غير مدفوع عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالْمُنْكِرِينَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنْكِرِينَ لَهُ جَعَلُوهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ.
ثَالِثُهَا:
مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ، كَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 2 فَإِنَّهُ "يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ وَالْمُرَادُ بِهِ"* أَحَدُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالتَّرْجِيحِ.
رَابِعُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ إِجْمَاعِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} 3 فيصح الاجتهاد في قدرة الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ.
خَامِسُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ أَحْوَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي التَّمَتُّعِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 4 فَاحْتَمَلَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إِذَا رَجَعَ فِي طَرِيقِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى.
سَادِسُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ دَلَائِلِ النَّصِّ، كَقَوْلِهِ:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} 5 فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ بِمُدَّيْنِ، بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي فِدْيَةِ الْآدَمِيِّ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّين، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بِمُدٍّ بِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ، أَنَّ لكل مسكين مدا.
* في "أ": تحريف لما بين قوسين.
_________
1 انظر: 2/ 264.
2 جزء من الآية 237 من سورة البقرة.
3 جزء من الآية 236 من سورة البقرة.
4 جزء من الآية 196من سورة البقرة.
5 جزء من الآية 7 من سورة الطلاق.
سابعا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ أَمَارَاتِ النَّصِّ، كَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ لِمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 1 فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَيْهَا، مِنْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَطَالِعِ النُّجُومِ.
ثَامِنُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا أَصْلٍ، فَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ، فَقِيلَ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِأَصْلٍ.
وَقِيلَ: يَصِحُّ لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ. انْتَهَى.
وَعِنْدِي: أَنَّ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْ تَتَبُّعِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَجَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ دَأْبَهُ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ، وَاسْتَعَانَ بِاللَّهِ عز وجل، وَاسْتَمَدَّ مِنْهُ التَّوْفِيقَ، وَكَانَ مُعْظَمُ هَمِّهِ، وَمَرْمَى قَصْدِهِ، الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِّ، وَالْعُثُورَ عَلَى الصَّوَابِ، مِنْ دُونِ تَعَصُّبٍ لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَجَدَ فِيهِمَا مَا يَطْلُبُهُ، فَإِنَّهُمَا الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ، وَالْبَحْرُ الَّذِي لَا يَنْزِفُ، وَالنَّهْرُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ كُلُّ وَارِدٍ عَلَيْهِ الْعَذْبَ الزُّلَالَ، وَالْمُعْتَصَمُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ خَائِفٍ، فَاشْدُدْ يَدَيْكَ عَلَى هَذَا، فَإِنَّكَ إِنْ قَبِلْتَهُ بِصَدْرٍ مُنْشَرِحٍ، وَقَلْبٍ مُوَفَّقٍ، وَعَقْلٍ قَدْ حَلَّتْ بِهِ الْهِدَايَةُ، وَجَدْتَ فِيهِمَا كُلَّ مَا تَطْلُبُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُرِيدُ الْوُقُوفَ عَلَى دَلَائِلِهَا كَائِنًا مَا كَانَ.
فَإِنِ اسْتَبْعَدْتَ هَذَا الْمَقَالَ، وَاسْتَعْظَمْتَ هَذَا الْكَلَامَ، وَقُلْتَ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ أَدِلَّةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا تَفِي بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ، فَمِنْ نَفْسِكَ أُتيت، وَمِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِكَ أُصبت، وَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي2، وَإِنَّمَا تَنْشَرِحُ لِهَذَا الْكَلَامِ صُدُورُ قَوْمٍ "مُوَفَّقِينَ"* وَقُلُوبُ رِجَالٍ مُسْتَعِدِّينَ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الْعَلِيَّةِ.
لَا تعذل المشتاق في أشواقه
…
حتى تكن حَشَاكَ فِي أَحْشَائِهِ3
لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ
…
وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ يُعَانِيهَا4
دَعْ عَنْكَ تَعْنِيفِي وَذُقْ طَعْمَ الْهَوَى
…
فَإِذَا "عشقت"** فعند ذلك عنف5
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": "هويت".
_________
1 جزء من الآية 16 من سورة النحل.
2 براقش اسم كلبة لها قصة وهي كما قال أبو عبيد عن أبي عبيدة قال: براقش اسم كلبة نبحت على جيش مروا ولم يشعروا بالحي الذي فيه الكلبة، فلما سمعوا نباحها علموا أن هناك أهلها فعطفوا عليهم فاستباحوهم، فذهب مثلا بقولهم:"على أهلها دلت براقش". ويروى أن براقش اسم امرأة ابنة ملك قديم خرج أبوها إلى بعض مغازيه واستخلفها فأغراها بعضهم بأن يبني بناء ضخما تذكر به، فلما رجع أبوها قال لها: أردت أن يكون الذكر لك دوني فأمر الصناع الذين بنو البناء أن يهدموه فقالت العرب: على أهلها تجني براقش وذهبت مثلا ا. هـ لسان العرب مادة برقش.
3 وهو من البحر الكامل، وقائله أبو الطيب المتنبي، ويروى البيت "لا تعذر" ا. هـ ديوان أبي الطيب المتنبي 343.
4 وهو من البحر البسيط، وقائله: الأبله البغدادي المسمى بمحمد بن بختيار بن عبد الله، الشاعر المشهور، أحد المتأخرين المجيدين، جمع في شعره بين الصناعة والرقة وله ديوان معروف ا. هـ وفيات الأعيان لابن خلكان 4/ 463 مرآة الزمان 279.
5 وهو من البحر الكامل، وقائله ابن الفارض عمر بن أبي الحسن، وهو من قصيدة أولها:
قلبي يحدثني بأنك متلفي
…
وروحي فداك عرفت أم لم تعرف
ا. هـ ديوان ابن الفارض 153.